< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/05/08

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري


الأمر الثاني في الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري :
لا شكّ في وضوح الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري، وهو أنهما في مرتبتين طوليّتين، فالحكم الواقعي ـ كحرمة شرب التتن بعنوانه الواقعي مثلاً ـ متعلّقه نفس شرب التتن، والحكم الظاهري متعلّقُه الشكّ والجهل بحكم شرب التتن، فيقول وظيفتكم الظاهرية هو جواز شرب التتن، لا أنّ الحكم الواقعي لشرب التتن هو الجواز .
ثم إنه لا شكّ في إمكان التعبّد الشرعي بالأمارة الغير علمية وبالاُصول العملية ـ كما هو المشهور ـ وفي عدم لزوم محال عقلي من ذلك، وهو المعبّر عنه بـ الإمكان الوقوعي، وهو أمر مغاير للإمكان الذاتي الذي تكلّمنا فيه في الأمر الأوّل، ولا يوجد من خالف فيه من العلماء، ولكن قد يكون شيء ممكناً ذاتاً ويكون ممتنعاً بالغير، فنحن ندّعي إمكان إعطاء الحجيّة للأمارة والاُصول العملية ذاتاً وإمكان ذلك وقوعاً ـ أي ليس ممتنعاً بالغير ـ .
كلامُنا هذا خالفه ابنُ قبة[1]، فقد ادّعى عدمَ الإمكان الوقوعي لما تخيّله من ترتّب محال أو باطل على التعبّد بالأمارات والأصول ـ كما سيأتي من تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة أو استلزامه الحكم بلا ملاك أو اجتماع المتعارضين ـ بعد تسليمه بالإمكان الذاتي .
وأدلّ دليلٍ على الإمكان الوقوعي هو الوقوع الخارجي مع عدم ترتّب أي محذور .
وقد ادّعى ابنُ قبة أنّ التعبّد بالأمارات والأصول يترتّب عليه ثلاثة محاذير :
الأوّل : محذور ملاكي فقط
والثاني : محذور خطابي فقط
والثالث : محذور ملاكي وخطابي
والمراد بالمحذور الملاكي هو لزوم اجتماع الضدّين من المصلحة والمفسدة والإرادة والكراهة فيما إذا أخطأت الأمارةُ أو الأصلُ الواقعَ، وهذا يفوّتُ المصلحةَ الواقعيةَ، كما لو قامت الأمارةُ على حليّة التتن وكان في الواقع محرّماً ! فإذن إعطاءُ الحجيّةِ للأمارة التي قد تخالف الواقع مخالف لغرض المولى من تنزيل الشرائع وبعث الأنبياء .
والمراد بالمحذور الخطابي هو فيما توافقت الأمارةُ أو الأصل مع الحكم الواقعي، فيَرِدُ الخطابُ الشرعي مرّتين، مرّةً واقعي، ومرّةً ظاهري، وفيه نحو لغو، وأمّا لو تخالفتا فيا ويلتا، كلّ خطاب يفيد مؤدّى يغاير مؤدّى الخطاب الآخر، أو قُلْ : يؤدّي ذلك إلى طلب الضدّين فيما إذا أخطأت الأمارةُ الواقعَ ! وقد يمتنع ح الإمتثال، كما لو أفادت الأمارة وجوب السورة بعد الفاتحة في ضيق الوقت، وكان الحكمُ في الواقعِ الحرمةَ ! فيكون المولى تعالى ـ بإعطائه الحجيّةَ للأمارة ـ قد طلب ضدّ حكمه الواقعي ! وكأنه تعالى يطلب عكس غرضه أو يجيز فعل عكس غرضه ! وهذا حتماً يخالف الحكمة الربّانية ! وقد لا يمتنع كما لو أمكن التكرار فيُصَلّي الجمعةَ أوّلاً ثم يصلّي الظهر، أو يصلّي تماماً أوّلاً ثم يصلّي قصراً، بل تسري المشكلة ح إلى الملاكات أيضاً !
وتسقط كلّ هذه الإدّعاءات والخيالات ببيان الأمر في سبب تشريع الأحكام الظاهرية على الصعيدين، الأمارات أوّلاً ثم على صعيد الاُصول ثانياً، ليتّضح الأمرُ أكثر فنقول :
أمّا في الأمارات :
1 ًـ فالمولى تعالى يعلم أنّ بعض الأمارات ستخالف الأحكام الواقعية، ولكنه رغم ذلك شرّعها عند الجهل بالحكم الواقعي ـ أي أعطاها الحجيّة الظاهرية ـ لغالبية إصابتها للواقع .
2 ًـ إنّ مصلحةَ تشريع حجيّتها أهمّ من مفسدة الوقوع نادراً في مخالفة الواقع، ومصلحة التيسير والتسهيل على الناس ـ في إعطاء الحجيّة لخبر الثقة في الموضوعات ـ أهمّ من مفسدة مخالفة الواقع نادراً .
3 ًـ إنه لن يحصل عندنا اجتماع المثلين، وذلك لأنّ أحدهما واقعي مجهول غير منجّز، والآخر ظاهري منجّز، فأين اجتماع المثلين ؟! وعلى فرض اجتماعهما فلا مشكلة ولا لغو في البين .
4 ًـ كما أننا لن نعلم بحصول اجتماع ضدّين ـ أي تعارض فعلي ـ أصلاً، لما عرفتَه من الجهل بالحكم الواقعي، فأين يقع التعارض الفعلي ؟ أو كيف سيحصل تعارض منجّز بين الإرادة والكراهة، والمصلحة والمفسدة، بعد الجهل بالحكم الواقعي ؟! وعلى فرض احتماله، فأيّ مانع من وقوع هكذا تنافي وفوت نادر للمصلحة والوقوع النادر في المفسدة، مع كون المصلحة في تشريع الأمارة ـ لإصابتها غالباً للواقع ـ أهمّ بكثير من عدم تشريعها وأهمّ بكثير من مفسدة الوقوع النادر في مخالفة الواقع .
مع أنك تعلم أنّ المصلحة والمفسدة ـ في الأحكام الظاهرية ـ لا تتعلّق بنفس مؤدّى الأمارات، وبالتالي لن يحصل تعارض في أيّ مرحلة من المراحل، لا في مرحلة الملاكات ولا فيما بعدها .. وذلك لما تعرفه من أنّ الله تعالى إنما شرّع الأمارات ـ كما في قاعدة اليد وسوق المسلمين والصحّة في عمل الغير ـ لأنها غالباً تصيب الواقع، أي لمصلحة في نفس جعل الأمارة ـ لا في متعلقها ـ وهذا هو ملاكها، فإذن إعطاء الحجيّة للأمارات إنما هو لإدراك أغلب المصالح الواقعية، فاختلف مصبّ المصالح والملاكات في الأحكام الظاهرية عن مصبّ الملاكات في الأحكام الواقعية، فالأولى مصبّ الملاك في تشريع الأحكام الظاهرية هو لإصابة أغلب الأحكام الواقعية، والثانية هو نفس متعلّق الأحكام الواقعية، ولذلك قلنا إنه لن يحصل تعارض في أيّ مرحلة من المراحل .
5 ًـ وبالتالي ـ أي بعد معرفتك بتنجيز خصوص الأمارة دون الحكم الواقعي ـ لن يقع المكلّف في التزاحم بين وجوب قراءة السورة مثلاً وبين حرمتها، لأنه إنما عليه ـ مع الجهل بالحكم الواقعي ـ أن يتّبع الأمارة، فهي فقط، المنجّزة عليه ويجب امتثالها، فإذن ليس هناك طلبٌ منجّز للضدّين .

وأمّا في الأصول :
فيكفي أن تعلم أنّ المولى تعالى إنما شرّع الاُصول العملية في المواضيع الغير مهمّة، ذلك لأنها لو كانت مهمّةً لَذَكَرَ لنا حُكْمَها الواقعي في الكثير من الروايات ولَجَعَلَها من ضروريات الدين كما في الصلاة والصيام .. وحرمة الخمر والزنا .. ولكنه جلّ وعلا رأى أنّ بعض الاُمور لا مشكلة فيما لو أجرى فيها الفقهاءُ البراءةَ كما في القنوت وجلسة الإستراحة ونحو ذلك، وإنما شرّع الاُصول العملية لبعض فوائد كالتسهيل على الناس، ولأنّ بعض الاُصول تناسب الفطرة البشرية كما في الإستصحاب، ولا تضرّ في دين الله شيئاً، وشرّع الاُصول في الموضوعات الخارجية للتسهيل أيضاً على الناس، كما في الفراغ والتجاوز وهكذا ... فتشريعها في الموضوعات الخارجية أمر لا بدّ منه، لأنه لا حلّ آخر .
ثم اعلم أنّ مؤدّى الاُصول العملية هي منجّزة فقط، ولا تصير فعلية بوجه، وذلك للجهل بالحكم الواقعي، فكيف تصير فعلية ؟! فمثلاً : لو فرضنا أنّ الأمارةَ قالت بوجوب جلسة الإستراحة لما كان هذا الوجوب معلوم الفعلية، أقصى حدّ نقول هذا الحكم منجّزٌ علينا فقط .



[1] أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي، فقيه رفيع المنزلة، من عيون أصحابنا وصالحيهم المتكلّمين . راجع الكنى والألقاب ج 1 ص 437 .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo