< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/05/01

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: الصحيح أنّ العلم الإجمالي علةٌ تامّة للتنجيز

المقام الأوّل :
قد عرفتَ أنّ المقام الأول هو في معرفة أنّ العلم الإجمالي هل هو علّة تامّة للحجيّة أو أنه يقتضي الحجيّة فقط، بمعنى أنه لا مانع من مجيء حكم ظاهري مؤمّن يجوِّزُ ارتكابَ بعضِ أو كلّ أطراف العلم الإجمالي فنقول :
لا شكّ في أنّ مَن يقرأُ ما ذكرناه قبل بضعة أسطر يعرف أنّ العلم الإجمالي علّةٌ تامّة للتنجيز والحجيّة ـ كما ذهب إليه السيد المروّج في شرحه على الكفاية[1] ـ بمعنى أنه لو وُجِدت نجاسةٌ في أحد إناءين فإنه لا يمكن عقلاً أن نقبل بحجيّة أمارة أو أصل تجوّز لنا شربهما معاً أو حتى شرب أحدهما، تحت أيّ ظرف من الظروف، وذلك لأنّ الترخيص بالقبيح محال عقلاً، سواء تلف أحد الإناءين أو طُهِّرَ أو خرج من تحت ابتلائنا، فإنه في هكذا حالات لا يجوز شرب الإناء الباقي معنا، وذلك لبقاء العلم الإجمالي واقعاً قائماً، بين التالف ـ قبل دقيقة مثلاً ـ وبين الباقي، فلا محلّ ولا موضوع ولا مورد لجريان الاُصول المؤمّنة في الإناء الباقي أصلاً، بل لا دليل على ذلك ـ إثباتاً ـ، وعلى مستوى الإمتثال لن يشرب الإناءَ الباقي أيّ متديّن في العالم، بل هو عين التجرّي القبيح الذي يستحقّ الإنسان عليه العقاب، هذا إنْ لم يُصِبِ الحرامَ الواقعي، وأمّا إن أصابه فهو عين المعصية المحرّمة .
بل حتى لو اضطُرِرنا إلى أحد الطرفين ـ لكونه دواءً ضرورياً مثلاً ـ فإنه بلا شكّ يجوز شرب خصوص الإناء المضطرّ إليه، ولكن هذا لا يعني جوازَ شرب غير المضطرّ إليه . والسبب في ذلك هو أنّ المنجِّز ـ أي العلّة في تنجيز العلم الإجمالي ـ هو الواقع المجهول عندنا والمعلوم عند الله تعالى، والقبيح كما يوجد في الإناء الواحد المعلوم، كذلك يوجد بنفس القوّة إذا اختلط هذا الإناء المتنجّس ـ الذي كان معلوماً قبل دقائق مثلاً ـ مع غيره فجهِلْنا النجسَ بعينه .
ومن المؤسف حقّاً أن يقول بعضهم بأنّ المقدار المنجّز هو فقط الجامع، فهو فقط، المعلوم عندنا، إذن هو فقط، المنجّز علينا، وأنّ من شروط التنجيز أن يُعلم شخصُ التكليف بنحو تفصيلي، كما أنّ من المؤسف تشبيهَ مسألتِنا بالشبهات البدْوية أو بالشبهة الغير محصورة .
أقول : لا داعي أصلاً لأن يكون من شروط التنجيز العلم التفصيلي بشخص التكليف، وغير صحيح أن يكون المنجّز علينا هو الجامع بين الواقعي وغير الواقعي، بل لا وجه لتنجيز الجامع، بل لا سبب لتنجيز الجامع، إنما المنجَّز علينا هو خصوص الواقعي الخارجي الضائع، وهذا أمر عقلي واضح، فإننا علمنا بوقوع نجاسة في أحد هذين الإناءين، هذا المعلوم هو المنجّز علينا ـ دون الطاهر ـ فيجب علينا الإحتياط بين الإناءين إذن، لتجنّب شرب النجس الواقعي، كما يجب أن نصلّي الظهر والجمعة لإدراك الفريضة الواجبة، وذلك لِعِلْمِنا بوجوب إحدى الفريضتين علينا، لذلك هي منجّزة علينا، ولكن لعدم علمنا بشخصها يجب الإحتياط بالإتيان بكلتا الفريضتين، وذلك لإدراك المصلحة الإلزامية الواقعية الضائعة، وح لا يمكن ـ ثبوتاً ـ أن تجري البراءةُ العقلية أو النقلية، كما لو كان كلا الإناءين متنجّساً، ثم طهرنا أحدهما، وبقي الآخر على النجاسة، فإنه يجب عقلاً الإحتياط بتركهما معاً بلا محلّ لجريان استصحاب نجاستهما .
على أننا لو تنزّلنا وقلنا بعدم تنجيز خصوص الطرف الواقعي فإننا نقول بفعلية التكليف المجهول، بالتسالم بين جميع العلماء، وهذا أيضاً يوجب الإحتياط بين جميع الأطراف . وأنت تعلم أنه إذا زالت الشمسُ فقد وجبت الصلاة فعلاً، حتى ولو لم يعلم المكلّف بالزوال، وكذا لو استطاع إلى الحجّ فإنّ وجوب الحجّ يصير عليه فعلياً حتى ولو لم يعلم المكلّف بفعلية وجوب الحجّ عليه .
نعم، إذا كثرت أطراف العلم الإجمالي كثيراً حتى خرج بعضُها عن محلّ الإبتلاء ـ كما في سوق المسلمين ـ هنا أجاز لنا اللهُ تعالى ارتكابَ بعض الأطراف مَنّاً منه وتوسعة على خلقه وعياله، وكي لا يقعوا في الحرج والضرر، ولكن هذا من باب جواز مسّ المرأة الأجنبية عند الضرورة، ومن باب أكل الميتة عند الضرورة . أو قُلْ : هنا قَدّم الشارعُ المقدّسُ الأهمَّ على المهمّ، ولذلك تحرم المخالفةُ القطعية، لا بل تحرم المخالفةُ الإحتمالية أيضاً وتجب الموافقةُ القطعية، ولن تجري الاُصول المؤمّنة في بعض الأطراف، إلاّ بمقدار وقوع الناس في الحرج والضرر كما في سوق المسلمين، لاحِظْ ما رواه أحمد بن محمد بن خالد البرقي عن أبيه عن محمد بن سنان عن أبي الجارود قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الجُبن ؟ وقلت له : أخبَرَني مَن رأى أنه يُجعل فيه المَيتةُ فقال : ( أمِنْ أجْلِ مكانٍ واحدٍ يُجعل فيه المَيتةُ حُرِّمَ في جميع الأرضين ؟! إذا علمت أنه ميتة فلا تأكلْ، وإن لم تعلم فاشترِ وبِعْ وكُلْ، واللهِ إني لأعترض السوق فاشتري بها اللحم والسمن والجُبن، واللهِ ما أظن كلهم يُسَمُّون، هذه البربر وهذه السودان )[2][3]، ولاحِظْ أيضاً ما رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه وعلي بن محمد القاساني جميعاً عن القاسم بن محمد(الإصبهاني المعروف بكاسام وهو مجهول) عن سليمان بن داود(المنقري، ثقة) عن (القاضي)حفص بن غياث[4]عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال له رجل : إذا رأيتُ شيئاً في يدَي رجلٍ يجوز لي أن أشهد أنه له ؟ قال : ( نعم )، قال الرجل : أشهد أنه في يده ولا أشهد أنه له فلعله لغيره فقال أبو عبد الله عليه السلام : ( أفيحل الشراء منه ؟ ) قال : نعم، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (فلَعَلَّهُ لِغَيره، فمِنْ أين جاز لك أن تشتريَه ويصير ملكاً لك ثم تقول بَعْدَ المُلك هو لي وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنبسه إلى من صار ملكه من قبله إليك ؟ ) ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): (لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق )[5] مصحَّحة الكافي، ورواها الصدوق بإسناده عن سليمان بن داود . وتصحّح أيضاً من باب رواية الصدوق عنه في الفقيه مباشرةً ممّا يعني أنّ كتابه من الكتب التي عليها معوّل الشيعة وإليها مرجعهم .
فكانت العلّة هي الحرج الذي سيقع فيه المسلمون والضرر على الباعة والمشترين والوسوسة التي ستقع عند المتديّنين عند احتمال وجود ميتة في الجبن . إذن لن يكون جريان الاُصول المؤمّنة في أطراف العلم الإجمالي كما كان الحال في الشبهات البدوية، أصلاً وأبداً، ففي الشبهات البدوية الشكّ في أصل وجود نجاسة أو حرمة، وأمّا في العلم الإجمالي فالنجاسة والحرمة معلومتان، ولكن أنا أجهل الفردَ النجس منهما بعدما كنتُ أعلمُه قبل قليل، والقبيحُ قبيحٌ حتى إذا اختلط بين إناءين ..
فإن تردّدتَ في صحّة كلامنا ثبوتاً، فاعلمْ أنه لا يوجد عندنا دليل إثباتي على صحة جريان الأمارة في موارد العلم الإجمالي فضلاً عن صحّة جريان الاُصول العملية المرخّصة .
وقد يستدلّون بنفس الرواية الاُولى السابقة على كون العلم الإجمالي يقتضي الموافقة القطعية فقط، بمعنى أنه إذا جاء ترخيص ـ كما جاء في هذه الرواية فعلاً ـ فإنه يجب الأخذ به .
أقول : إعلم أنّ الرواية ناظرة ـ كما قلنا قبل قليل ـ إلى مورد سوق المسلمين، وهكذا موردٌ يجب فيه الترخيص، وإلاّ لوقع الناس في الضرر والحرج، سواءً كانوا باعةً أو مشترين، فقدّم المولى تعالى مصلحةَ التيسير على خلقه على مفسدة الحرج والضرر، فكأنّ هذه الرواية مصداق لهتين القاعدتين، والله العالِم .



[4] عامّيّ، له كتاب معتمد ـ ست، وقال الشيخ في العدّة : عملت الطائفة بما رواه فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه، ويروي عنه في الفقيه مباشرةً . .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo