< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/04/19

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: اشتراط الاحكام الشرعية بالموافقة الإلتزامية القلبية


تعرّضَ الأصحابُ قدس اللهُ أسرارَهم في المقام لمسألة الموافقة الإلتزامية (وهي عمل اختياريّ قلبيّ بمعنى لزوم عقد القلب ولزوم خضوع الجنان للحكم الإلهي)، ولعلّ أوّل من حقّق هذه المسألة هو الشيخ الأعظم الأنصاري .
وقبل الجواب على الاسئلة السابقة يجب أن نقول ما يلي :
يقول الله تعالى [ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً][1] ويقول تعالي [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً ][2]، فالإيمان بكلّ ما جاء به كتاب الله وبما جاء به الأنبياء واجب عقلي وشرعي حتى ولو لم يكن الحكم منجّزاً على نفس الشخص، وإنما كان منجّزاً على شخص آخر، كما في لزوم تسليم المرأة باستحباب الزواج الثاني والثالث والرابع لزوجها، فيجب أن تسلّم بهذا الحكم كما تسلّم بوجوب الحجاب عليها شرعاً، المهم هو أنّ الإلتزامَ القلبي والإعتقاد بكلّ ما جاء في الشرع واجب شرعي وعقلي، والتسليم بما أنزله الله تعالى على قلوب أنبيائه واجب لا شكّ ولا خلاف فيه، والتسليم بالمستحبّات والمكروهات والمباحات وبالأحكام الظاهرية والوظائف العملية كله واجب . وقلنا بأنّ (وجوبه عقلي) لكون الإلتزام القلبي بالحكم الشرعي واجباً عقائدياً متفرّعاً عن اللزوم العقلي بوجوب إطاعة المولى تعالى، ومن مصاديق إطاعة المولى التسليم له والإعتقاد بشرائعه كلّها، وقلنا بأنّ (وجوبه شرعي) بناءً على أنّ الإلتزام القلبي ناشئ من تشريعات المولى تعالى، فإذا شرّع الله تعالى حكماً شرعياً فح يوجب المولى تعالى وجوبين : وجوب العمل بنفس الحكم، ووجوب الإعتقادِ به، ولو بدليل قوله تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ].

والآن نبدأ بالجواب فنقول : لا شكّ في كفاية الموافقة الإلتزامية بنحو كلّي، بمعنى أنه لا يشترط الإلتفات إلى ذلك في كلّ عمل عمل، فيكفي الإجمال في الموافقة القلبية ـ كما يقول الأخوند الخراساني[3] والسيد الخوئي[4] ـ ولا دليل على أكثر من ذلك، لا بل قد لا يمكن الموافقة الإلتزامية التفصيلية في بعض الحالات فتتعيّنُ ح الموافقةُ الإجمالية، وذلك كما في حالات العلم الإجمالي، فلو تردّد الأمر بين وجوب الجمعة أو وجوب الظهر فح لا يمكن الإلتزام القلبي التفصيلي، وذلك لعلمنا بعدم وجوب أكثر من خمس صلوات في اليوم، ولا يمكن الإلتزام بأمر مردّد بينهما، وذلك لعدم وجوده لا خارجاً ولا في الذهن، فيتعيّنُ القول بلزوم الموافقة الإلتزامية بالواجب الشرعي الواقعي كيفما كان، وهذا ما قد اُعبّر عنه اختصاراً بالموافقة الإجمالية . وكذا لو تردّد الأمر بين وجوب السورة وحرمتها لكفت الموافقة الإلتزامية الإجمالية أيضاً ولو من باب التنزّل وأنّ الميسور لا يسقطُ بالمعسور .. وإلاّ ـ فلو وجبت الموافقة القلبية التفصيلية ـ فقد لا يمكن ـ كما في حالات العلم الإجمالي المذكورة ـ وقد يقع المكلّف في الحرج عند أداء كل تكليف .

هذا، ولكن هل تتوقّف صحّة العمل على الموافقة الإلتزامية أيضاً أم لا ؟ فأقول :
لم يثبت تقيّدُ العملِ بالإعتقاد به، وذلك ـ بتعبير سيدنا الشهيد ـ ( لوضوح أنّ التكليف لا يدعو إلاّ إلى ما تعلّق به، وهو لم يتعلّق إلاّ بالعمل .. فلو فرضنا حكم العقل بوجوبه فليس إلاّ حكماً جديداً غير داخل في صميم حكم العقل بتنجّز التكليف، وليس شقّاً من شقَّي وجوب الإمتثال ) (إنتهى) .
وعليه فلو أتى المكلّفُ بالعمل تامّاً ـ عبادياً كان أو توصليّاً ـ من دون الإعتقاد بمشروعيّته فإنه يجب أن يقع صحيحاً، وذلك كما لو صلّى العامّي صلاتنا ـ بتمام أجزائها وشرائطها ـ غير جازمٍ بصحّة هذه الكيفية فنوى في صلاته رجاء المطلوبية، فلا بدّ أن تقع صلاتُه صحيحة، طبعاً لو كان جادّاً بهذه الصلاة، أمّا لو كان جازماً ببطلان هذه الكيفية فلن يتحقّق منه رجاء المطلوبية والمشروعية، فلن تقع منه نيّةُ القربة، وبالتالي ستكون صلاتُه باطلة . خذ مثلاً أنت إذا كنت تعلم بأنّ كيفية الوضوء الفلانية باطلة وكيفية الصلاة الفلانية باطلة فأنت لن تستطيع على الوضوء والصلاة برجاء المطلوبية المشروعية وبنيّة جدّيّة .
وبتعبيرٍ آخر : العبادةُ ـ حتى من حيث هي عبادة ـ لا تقتضي أكثر من الإتيان بتمام أجزائها وشرائطها المعروفة، أمّا ارتباطُ العبادةِ بأمْرٍ آخر ـ وهو أنه من تمام شرائط صحّة العبادة هو لزوم الإلتزام القلبي بوجوبها أيضاً ـ فهو أمْرٌ لم يثبت شرعاً ولا عقلاً، أمّا شرعاً فلم يدلّنا أيّ دليل شرعي على دخل الإلتزام القلبي في العمل المأتيّ به، لا في مرحلة الملاك ولا في مرحلة الجعل، ويكفينا ـ مع الشكّ ـ التمسّك بإطلاق أدلّة التكاليف من لزوم الموافقة الإعتقاديّة، وح لا يبقى هناك داعي للرجوع إلى البراءة العقلية أو الشرعية، وأمّا عقلاً فلا يحكم العقل بلزوم تبعيّة الإعتقاد القلبي للتكليف الشرعي .. نعم يستحقّ تارك الإعتقاد القلبي العقابَ ـ لكن مستقلاًّ ـ على عدم التسليم بحكم الله تعالى أي على عدم الإعتقاد به .
وهنا لا بأس أن ننظر إلى خصوص العبادات فنقول : إعلمْ أنّ الله تبارك وتعالى يريد مِنّا أن نعبده كما يريد هو، وهو يريد مِنّا أن نعبده عن اعتقاد بوجوب العبادة الفلانية وبمشروعيّتها، وعلى الأقلّ أن نعبده برجاء مطلوبية العبادة وبرجاء مشروعيّتها، فقط لكي تتحقّق منه نيّة القربة الحقيقية لله جلّ وعلا، وإلاّ فلن تتحقّق منه نيّةُ القربة .. وليست العبادةُ مجرّدَ حركاتٍ فنيّة بنيّة العبادة، وليست هي إلاّ للتقرّب إليه جلّ وعلا، وهل تتحقّق العبادةُ خارجاً من دون الإعتقاد بأنها مشروعة وأنها حقّ من عند الله تعالى، أو على الأقلّ أن يحتمل العابدُ مشروعيةَ العبادة ؟!
ثم اعلمْ أنّه يوجدُ فرقٌ بين مقرّبيّة العبادة التي يمتثلها المكلّفُ وهو عالم بوجوبها عليه، وبين عبادة الجاهل بوجوبها أي المردّد الذي لم يجزم بشرعية ما يفعلُه، أي أنّ بينهما فرقاً وثواباً واضحاً، ولعله إلى هذا المعنى كانت تنظر روايات أنّ ركعةً يصلّيها عالم أفضل من سبعين ركعة يصلّيها عابد .

أمّا في الأحكام التوصليّة ـ كتطهير الثوب للصلاة به وكالنفقة على الزوجة وكالعقود والإيقاعات ـ فلا شكّ أنه قد حصل المطلوب، فلا دليل أصلاً على لزوم الإيمان بالحكم الإلهي في صحّة العمل بالحكم الإلهي، أمّا في تطهير الثوب مثلاً فقد حصلت الطهارة حتماً، لكنه إن لم يكن يؤمن بالتطهير ـ كما لو لم يكن مسلماً ـ فإنه يجب أن يحاسَبَ على انحرافه العقائدي، وكذا في كلّ الاُمور التوصليّة البحتة ـ كما لو دفنوا الميّتَ بالطريقة الصحيحة من دون الإعتقاد بهذه الكيفية فقد سقط الواجب ـ لكن هذا الإنسان يستحقّ العقاب على انحرافه العقائدي .
وكذا إن اعتبَرَ شخصٌ النفقةَ على الزوجة مستحبّة جاهلاً بوجوبها عليه، فدفْعُه للنفقة قد أسقَط الوجوبَ عنه، ولكن يبقى أنه يستحقّ العقاب حتماً على مخالفته القلبية الإعتقادية إن كان معانداً وعاصياً .
وكذا لو عقَدَ عقْدَ الزواجِ مثلاً على امرأة غير معتقِدٍ بلزوم هكذا عقود ـ لكونه مثلاً شيوعياً غيرَ ملتزمٍ بدين الإسلام وإنما يعتقد أنّ هذه الصيغة هي من العادات التافهة ـ فقال (قبلْتُ التزويجَ) من باب الإضطرار من جهة أهله ومن باب الحياء من المجتمع الذي حوله، فإن كان قاصداً التزوّج بهذه الصيغة ـ أي كان الغرض من قوله (قبلتُ التزويج) هو حصول مضمونه ـ فإنّ عقْده قد صحّ بلا شكّ ولا خلاف، حتى ولو لم يكن يعتقد بالإسلام وكان يحبّ ـ لولا الخجل ـ أن يعقد العقد العلماني . دليل صحّة العقد هو التمسّكُ بإطلاق الأدلّة من التقيُّد بلزوم الإعتقاد بالإسلام، وأمّا إن لم يكن قاصداً شيئاً وإنما كان ساخراً غيرَ جادّ فلم يقع الزواج حتماً .
وكذا تماماً لو طلّق زوجتَه بالكيفية الصحيحة ولكنه كان شيوعياً لا يعتقد بأنّ طلاقاتنا وعقودنا هي من عند الله، وإنما يعتقد بالعلمانية فقط، ويعتقد بأنّ تطليقاتنا ما هي إلاّ أساطير الأوّلين، لكنه مع ذلك هو تطليق عرفي متعارف عليه في المجتمع ليس أكثر، فمن هذا المنطلق وكّل الشيخَ مثلاً بتطليق زوجته قاصداً الطلاق، والفرض أنه لا يعتقد بدين الإسلام، وأوقع الشيخُ الطلاقَ الصحيح فقد وقع الطلاق، وذلك ـ كما قلنا قبل قليل ـ تمسّكاً بإطلاق أدلّة الطلاق من التقييد بلزوم كونه معتقِداً بالإسلام ... وهكذا .
نعم، إن التزم المؤمنُ الملتزمُ قلبيّاً بخلاف وظيفته الفعلية جهلاً بحكمه الفعلي فلا بأس عليه بلا شكّ ولا خلاف، وأمّا إن كان يعلم بوظيفته الشرعية فخالف عامداً متعمّداً ـ كأن لم يكن يعتقد بالإسلام ـ فلا شكّ في استحقاقه للعقاب والعذاب، أيضاً بلا شكّ ولا خلاف .

والخلاصةُ هي أنه يجب التمسّك بالإسلام في جميع اعتقاداتنا، والإيمانُ بكلّ حكم حكم فيه، واقعياً كان الحكم أو ظاهرياً، فلو كانت وظيفتنا الإستصحاب مثلاً فيجب أن نعتقد بحجيّته، ولو كانت وظيفتنا البناء على الطهارة فيجب الإعتقاد بحجيّة قاعدة الطهارة وبمؤدّى القاعدة، ولو كانت وظيفتُنا الشرعيةُ الإجتنابَ عن كلا الإناءين المتنجّسِ أحدُهما لوجب علينا الإعتقاد بذلك، ولو تردّد حكم بين الوجوب والحرمة ـ كما لو تردّدنا في وجوب السورة بعد الفاتحة في ضيق الوقت أو في حرمتها ـ وكانت وظيفتنا التخيير بينهما، لوجب علينا الإعتقادُ بالتخيير لا بالإباحة .. وأيّ انحراف عن ذلك سيكون انحرافاً عقائدياً يوجب استحقاق العقاب لا إنحرافاً عمليّاً .. بمعنى أنه خلافٌ لا يضرّ بصحّة أعمالنا التوصليّة بالنحو الذي ذكرناه، وأصالةُ البراءة تنفي تقيُّدَ الأعمالِ بالإلتزام القلبي .
أمّا مسألةُ استحقاق العقاب على الإنحراف العقائدي فلا شكّ فيها ولا خلاف، وهذه من بديهيّات الدين الحنيف .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo