< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/04/10

بسم الله الرحمن الرحیم

وأمّا في النقطة الثانية ـ وهي قيام الأمارات والأصول مَقام القطع ـ فنقول :
أمّا بالنسبة إلى قيام الأمارات والأصول مَقام القطعِ الطريقي فأمْرٌ لا شكّ فيه، وذلك لأنّ المراد من القطع الطريقي هوالإثبات الوجداني أو التعبّدي، ولذلك نقول القطع الطريقي هو منجّز ومعذّر، أو قُلْ هو القطعُ الناظرُ إلى إثبات متعلّقه وجداناً أو تعبّداً ـ أي شرعاً ـ أي أنّ المهم في المتعلّق هو ثبوته ولو تعبّداً، ودورُ الأمارات والأصول هو إثبات المتعلّق تعبّداً، وإلاّ لا يبقى لجعل حجيّتها أيّ معنى . أو قل إنّ المراد من القطع الطريقي هو التنجيز والتعذير، ودورُ الأمارات والأصول هو كذلك تماماً، أي التنجيز والتعذير، فيجب عقلاً أن تقوم مقامه .
ـ مثال ذلك : لو قال لك المولى (اَكرم معلوم العدالة ومعلوم الإجتهاد) وثبتت لك عدالة زيد بخبر الثقة الحجّة أو باستصحاب عدالته، فهنا عدّةُ أسئلة :
ماذا تفهم من العلم المأخوذ في موضوع الرواية ؟ هل تفهم منه أنه مأخوذ على نحو الطريقية أم على نحو الصفتية ؟
ـ ماذا تفهم من جعْلِ الشارعِ المقدّس خبرَ الثقةِ حجّة، هل تفهم منه أنّه منزّل منزلة الواقع، أو أنّ احتمال الإصابة منزّل منزلة العلم ؟
ـ والنتيجة : هل تفهم أنّ العرف ينزّل خبر الثقة مَقام العلم الموضوعي الوارد في الرواية ؟
ـ ثم هل تفهم أنت كعرف أنّ دليل الإستصحاب ينزّلك منزلة العالم، وبالتالي يجب عليك إكرامُ زيد إن ثبت بخبر الثقة أنه عادل ؟
ـ وأخيراً : هل يثبت لديك وجوبُ إكرام عمرو إن ثبت بالإستصحاب أنه مجتهد الآن ؟
بل لو نظرنا إلى الرواية القائلة "لا صلاة إلاّ بطهور" وفهمنا منها ـ ولو بالنظرة البدْويّة ـ لزومَ أن نعلم أننا نصلّي بشيء طاهر وأنّ نكون على طهارة معنويّة أيضاً، فهل تقوم قاعدةُ الطهارة مَقام العلم الطريقي بالطهارة ؟
الجواب : لو أخذنا أوّلاً المثالَ الأخير لنشرح المطلب أوّلاً فإنّ الأسئلة الاُخرى سيتّضح جوابُها فوراً، وذلك لأنها سيكون قِيامُها مَقام القطع الطريقي بالأولوية، لأنه إن ثبت قيام قاعدة الطهارة ـ وهي أصل محض لا كاشفيّة فيه ـ مَقام القطعِ الطريقي فبطريق اَولى سيثبت قيام الأصل العملي المحرز، وبطريق اَولى سيثبت قيام الأمارة مَقام القطع الطريقي، وذلك لأنّ الأمارة تدّعي إصابةَ الواقعِ، بخلاف الأصول العملية، فنقول :
يفهم الناس من اشتراط الطهارة في الصلاة هو ثبوتها ولو بنظر الشرع، أي حتى ولو ثبتت الطهارة بأمارة أو بأصل شرعي، ولذلك حينما تأتي موثّقة عمّار الساباطي وتقول "كلّ شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك" فإنك تفهم منها أنها تنزّل المشكوك النجاسة منزلة الطاهر الواقعي ظاهراً أي تعبّداً، فأنت إذن عالم شرعاً وتعبّداً بكونك على طهارة، فتقوم قاعدة الطهارة مَقام القطع الطريقي بوضوح . وبتعبير آخر : لا شكّ أنّ الأحكام الظاهرية ـ مع فقدان العلم بالأحكام الواقعية ـ وظيفتها تنجيز التكليف والتعذير عنه، فأنت حينما تجري قاعدة الطهارة تكون شرعاً طاهر، حتى ولو كنت متنجّساً واقعاً، المهمّ هو أنك طاهر بنظر المولى تعالى، فإذن لك أن تصلّي وأن تكون مصداقاً للطاهر .

والآن يجب علينا أن ننظر إلى مسألة تنزيل الأمارة منزلةَ القطعِ، مع غضّ النظر عن كونه طريقياً أو صفتياً (أي وجدانياً)، ثم في المرحلة الثانية سترى أنّ الشارع المقدّس قد نزّلها منزلتهما معاً فنقول :
لا شكّ في أنّ الله تعالى اعتبر مؤدّى الأمارات ـ كعدالة زيد مثلاً ـ منزّلةً منزلةَ الواقع في آية النبأ وفي كلّ الروايات المستفيضة ولا معارض لهذه الروايات، لا كما هو الحال في المجاز العقلي عند السكّاكي حينما يقول بأنّ قول الشخص "زيدٌ شجاع بل أسدٌ" فهو قد نزّله منزلة الأسد واقعاً، وإن لم يكن أسداً واقعاً بما له من آثار واقعية اُخرى غير مقصودة كرائحة الفم"، وكذا إن قال "حبيبتي شمس"، فهو قد نزّل حبيبته منزلة الشمس حقيقةً ـ أي بلحاظ معيّن فقط ـ وإن لم تكن شمساً واقعاً ولها آثار اُخرى غير مقصودة كالإحراق وأنها أكبر من الكرة الأرضيّة .. وإنما نزّل الأمارةَ منزلةَ الواقع تماماً بكلّ آثار الواقع ..
وأنت إذا دقّقتَ في معنى تنزيل مفاد الأمارة منزلةَ الواقع تعرف أنّ الشارع المقدّس نزّلك أيضاً منزلةَ العالِمِ بالواقع، وما ذلك إلاّ لملازمتهما عقلاً وعرفاً، وذلك لأنّه إن قال لك المولى تعالى مثلاً "هذا طاهر شرعاً" فمعناه أنك صرت ـ بنظر المولى تبارك و تعالى وبنظر نفسك ـ عالماً بطهارته الشرعية، لا بل إنّ روايةَ ( وعرف أحكامنا )[1] وروايةَ (فإنه لا عُذْرَ لأحدٍ مِن موالينا في التشكيك فيما يُؤَدّيه عَنّا ثِقاتُنا )[2] صريحتان في تنزيل الإحتمال منزلةَ اليقين، ولعلك تستفيد ذلك أيضاً من الرواية الأخيرة (رقم 12)، ولا يلزم من هذا التلازمِ التضادُّ في اللحاظَين والنظرَين الآلي(وهو تنزيل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع) والإستقلالي(أي تنزيل إحتمالِ الإصابة منزلةَ القطع) كما ادَّعَى صاحبُ الكفاية فادّعى أنّ التنزيل هو فقط التنزيل الأوّل ـ أي الآلي ـ دون الثاني !
أقول : هذه اُمور تعبّديّة محضة ولا مشكلة في ذلك . لا، بل لا داعي لئن نقول بأنّه لا يمكن اللحاظين والنظرَين الآلي والإستقلالي في نفس التنزيل الواحد، وذلك لظهور أنه يوجد عندنا تنزيلان مستقلاّن .
المهم هو أنّ الله تعالى تمّم كاشفيّة الأمارات بوضوح، بمعنى أنه اعتبرها مصيبةً للواقع، بمعنى أنها عينُ الواقعِ شرعاً وتعبّداً، وعليه فإذا وردنا (مقطوع الخمرية حرام) ثم جاءتنا أمارةٌ تقول (هذا خمر) أي هو بمنزلة الخمر شرعاً، فإنك لا محالةَ ستقول المراد بـ (مقطوع الخمرية) هو (الخمر) ـ بناءً على كون القطع طريقياً ـ والشرعُ يقول (هذا خمر)، فإذن يجب الإجتناب عنه لكونه شرعاً خمراً، وهذا ما يعبّرون عنه بـ (قيام الأمارة مَقام القطع الطريقي).
وكذا تماماً لو كان أحدُ الإناءين خمراً فإنه يجب الإجتنابُ عنهما، وذلك لأنّ العرف يفهمون من (مقطوع الخمريّة حرام) معنى (الخمر حرام)، وذلك لأنهم يفهمون القطع المأخوذ في موضوعات الأحكام أنه على نحو الطريقية لا على نحو الصفتية، ولذلك تراهم يجتنبون عنهما معاً .
وكذا لو كانت الروايةُ (العصير العنبي الذي تعلم أنه لم يزل منه الثلثان حرام) وكانت الحالةُ السابقةُ ـ في العصير العنبي المغلي الذي لم نعلم أنه ذهب منه الثلثان ـ الحرمةَ فإنّ المتشرّعة يستصحبون عدم زوال الثلثين، وبالتالي فإنهم لن يُقْدِموا على شربه، وما ذلك إلاّ لقيام الإستصحاب بنظرهم مَقام القطع الطريقي، وسيأتيك مزيد توضيح لهذه النقطة .
وكذا لو كانت الرواية هكذا (مقطوع الطهارة تجوز الصلاة فيه) وأجرينا قاعدةَ الطهارة في الثوب، فإنّ المتشرّعة يرون جواز الصلاة فيه، وما ذلك إلاّ لإقامتهم الأصول العمليّة مَقام القطع الطريقي .
ولولا قيامُ الطهارةِ والحليّةِ والإستصحاب مَقام القطع الطريقي لم يعد هناك فائدة من جعلها حجّة شرعاً .

* وبناءً على ما ذكرنا من الملازمة العقلية والعرفية بين (تنزيل مفاد الأمارة منزلةَ الواقع) و(تنزيل مَن جاءته الأمارةُ منزلةَ العالِم) إضافةً إلى الروايات التي تنزّل الفقيه منزلة العالم رغم أنّ أغلب فتاواه معتمدة على الأحكام الظاهرية .. تعرف بضرورة أن تقوم الأماراتُ مَقام القطع الصفتي أيضاً، فلو ورد (إذا كنت عالماً وقاطعاً بكون ما أمامك خمراً ـ بمعنى أنك كنت متّصفاً بصفة العالِم ـ فإنه ح يحرم عليك شربه) ثم جاءتنا أمارةٌ تقول (هذا خمر) وأنت تعرف من الروايات السابقة أنّ الشارعَ المقدّسَ قد نزّل مؤدّى الأمارةِ منزلةَ الواقع، فإنك ترى كلّ المتشرّعة يجتنبون عنه، وما ذلك إلاّ لتنزيل مؤدّى الأمارة ـ بنظر كلّ الناس ـ منزلةَ الواقع، وبالملازمة : نزّلك الشارعُ المقدّسُ منزلةَ أنك عالمٌ بكونه خمراً .
توضيح ذلك : حينما يقول لك المولى "خبرُ الثقةِ هو كلام الإمام المعصوم" فهذا يعني أنك صرت عالماً ـ شرعاً وعند الله وحتى عند نفسك تعبّداً ـ أنّ الإمام يقول كذا، وإذا أخبرك الثقة بكون الشيء الفلاني طاهراً أو نجساً واعتبر الله تعالى كلامه بمنزلة الواقع فهذا يعني أنك صرت عالماً شرعاً بطهارته، وهكذا حينما يقول لك الإمام الصادق اِعتبرْ نفسَك عالماً ببقاء الحالة السابقة ولا تنقض اليقين أبداً بالشكّ وإنما اعتبِرْ نفسَك باقياً على اليقين .. فهل هناك أوضح من هذه التنزيلات بلحاظ الواقع وبلحاظ القطع ؟!
ورغم وضوح المطلب في الروايات قال المحقّق النائيني إنّ دليل حجّيّة الأمارة إنّما دلّ على اعتبار الكاشفيّة فيها فهي إنّما تقوم مَقام القطع الطريقيّ دون الصفتي، وبكلمة أخرى : إنّ دليل حجّيتها إنّما أعطاها تعبّداً جنبةَ الكشف دون جنبة الصفة الخاصّة .
أقول : لا شكّ في وضوح تنزيل الأمارات منزلة القطع الصفتي تعبّداً، وهذا الإنكار إنما يحصل من قلّة التدبّر في الروايات، وهذا العرف أمامك وهو خير دليل على ما نقول . نعم، في الاُمور التكوينية لا يمكن تنزيل الكتاب مثلاً منزلة التفّاح والليمون، لكن ما نحن فيه هو اُمور تعبّدية، وهي سهلة المؤونة .
ثم اعلم أنّ الشارع المقدّس حينما شرّع لنا الحجيّة لخبر الثقة شرّعه بكلّ مداليله بما فيها الإلتزامية، هكذا يفهم العرف من جعل الحجيّة، ولذلك نقول دائماً بحجيّة المداليل الإلتزامية لخبر الثقة .
فإذا ثبت تنزيل الأمارات منزلة القطعَين الطريقي والوجداني الصفتي يتّضح لك السرّ في تقديم الأمارة على الأصل، وذلك لأنه إذا كانت الأمارة بمثابة القطع، فإذن يجب أن تلغي موضوع الأصل الذي هو عدم العلم، وهذا هو السرّ في قولهم بأنّ الأمارةَ واردةٌ على دليل الأصل العملي، بمعنى أنها تلغي موضوعه . وبعضُ العلماء يقولون بأنّ الأمارة حاكمة على دليل الأصل لأنّ العلم المأخوذ في موضوع دليل الأصل قد وسّعه الشارعُ المقدّس ـ بتنزيل الأمارة منزلة العلم ـ ليشمل الأمارات أيضاً، ولا بأس بكلا الإصطلاحين (الورود والحكومة)، وإن كان اصطلاح الحكومة هو الأضبط بلا شكّ، لأنّ التوسعة في معنى العلم هي أساس الورود والإلغاء .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo