< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/03/27

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: هل نعتبر حكم العقل من الأوّليّات اليقينية أم هو من المشهورات
وهنا قد تتساءل عن تصنيف حكم العقل ـ في قولنا "يحكم العقلُ باستحقاق المتجرّي العقابَ" ـ هل أننا نعتبره من الأوّليّات اليقينية، أم أنّ هذا الحكم العقلي هو من المشهورات التي توافق عليها العقلاء فقط، وليس لها رصيد إلاّ تبانيهم على ذلك فهو من باب الجدل فقط، لا من باب البرهان ؟
فنقول : نحن حينما نطلق كلمة "يحكم العقلُ .." نقصد بها الحكم العقلي اليقيني الأوّلي، وحينما نقول بأنّ المتجرّي يستحقّ العقاب عقلاً نقصد أنّ هذا الحكم هو من الاُمور اليقينية الأوّليّة، لا من المشهورات فقط .
بيان ذلك : لا شكّ أنك تعلم أنّ اليقينيات ـ وهي الاُمور العقلية الضرورية ـ ستة اُمور وهي : الأوّلِيّات (قالوا هي التي يكفي تصور طرفَيها في الحكم، فإنه لابد ألا يشذ عاقل في الحكم بها كقضيّة الكلّ أعظمُ من جزئه) والمشاهَدات (وهي المشاهدات الظاهرة أعني الحسيات والباطنة كالوجدانيات) والتجربيات والحدسيات والمتواترات والفطريات (قالوا وهي ما يكفي فيها ملاحظةُ نفس القضية ليُجزَمَ بها، كقولنا الأربعة زوج)[1]، ونحن حينما ندّعي حكم العقل في مسألةٍ ما إنما نعني معنى اليقينيات الأوّلية، وأنا أرى أنّ (حُسْن العدل) و (قبح الظلم) هما من الأوّليات لا من المشهورات .
وادّعى ابنُ سينا والمحقّقُ الطوسي والمحقّقُ الإصفهاني وتلميذه الشيخ المظفّر في اُصول الفقه أنّ (حسن العدل) و (قبح الظلم) هما من المشهورات فقط ـ أي من الآراء المحمودة ـ التي تطابق عليهما نظرُ كلّ العقلاء وليس رصيدهما إلاّ تطابق العقلاء عليهما ! قال ابنُ سينا : "إذا أردت أن تعرف الفرق بين الذائع والفطري فاعرُضْ قولَك (العدل جميل) و(الكذب قبيح) و(السرقة قبيحة) على الفطرة وتكلَّفِ الشكَّ فيهما تجدِ الشك متأتِّياً فيهما وغيرَ متأتٍّ في أن الكل أعظم من الجزء وهو حق أوليّ) (إنتهى بتوضيح قليل)، ولذلك قالوا ينبغي أن تُستخدم هاتان القضيّتين في باب الجدل دون باب البرهان . وقال الشيخ المظفّر بأنّ الفرق بين المشهورات واليقينيات هو أنّ الحاكم في المشهورات العقل العملي والحاكم في اليقينيات العقل النظري .
وذهب المحقّقُ اللاهيجي في كتابه (سرمايه إيمان) ـ أي رأسمال الإيمان ـ إلى أنّ قضيّتي (العدل حسن) و (الظلمُ قبيح) من القضايا اليقينية الأوّليّة، فقال : ـ بعد ترجمته إلى العربية ـ "إنّ حُسْنَ بعض الأفعال كالعدل والصدق أو قبحها كالظلم والكذب أمر ضروري، والعقل في قضائه هذا غني عن الشرع . ثم يطرح الإشكال التالي فيقول : قد عد الحكماء حسن العدل وقبح الظلم من المقبولات، وذلك لما فيهما من المصلحة والمفسدة العامّتين، ومن الواضح أن المقبولات مادة للقياس الجدلي لا للقياس البرهاني، فعندئذ كيف يمكن عدهما من الضروريات والأوليات التي هي مبدأ للبرهان ؟ وأجاب قائلاً : إنه لا مانع من أن تدخل قضية واحدة من جهة تحت اليقينيات، ومن جهة أخرى تحت المقبولات، وحيث إنهما من القضايا الضرورية التي لا يشك فيهما كل من رجع إليها، مع قطع النظر عن المصلحة أو المفسدة، فهي من الأوليات، إلا أن هذا لا يمنع من اندراجها تحت المقبولات لترتب المصالح والمفاسد العامة عليها " .
ووافقه الحكيم السبزواري في (شرح الأسماء الحسنى) حيث قال : (إنّ منْعَ جزْمِ العقلاء بالحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه مكابرةٌ غير مسموعة، وقد يستشكل دعوى الضرورة في القضية القائلة بأنّ (العدل حسن) و (الظلم قبيح) بأن الحكماء جعلوها من المقبولات العامة التي هي مادة الجدل، فجعلُهُما من الضروريات التي هي مادة البرهان غير مسموعة .
والجواب : إن ضرورة هذه الأحكام بمرتبة لا تقبل الإنكار، بل الحكمُ ببداهتهما أيضاً بديهي، غاية الأمر أن هذه الأحكام من العقل النظري بإعانة العقل العملي، بناء على أن فيها مصالح العامّة ومفاسدها، وجعل الحكماء إياها من المقبولات العامة ليس الغرض منه إلا التمثيل للمصلحة والمفسدة المعتبر فيه قبول عموم الناس لا طائفة مخصوصة، وهذا غير مناف لبداهتها، إذ القضية الواحدة يمكن أن تدخل في اليقينيات والمقبولات من جهتين، فيمكن اعتبارها في البرهان والجدل باعتبارين) [2](إنتهى) .
ووافقهما الشيخ جعفر السبحاني في كتابه (رسالة في التحسين والتقبيح) وقال ـ بعد نقل ما نقلناه ـ (وحصيلة النزاع أنّ المنطقيين خصّوا اليقينيات بالأوليات والمشاهدات والتجربيات والحدسيات والمتواترات والفطريات، فالبرهان المؤلف من هذه الأمور الستة يفيد اليقين، وخصّوا الجدل غير المفيد لليقين بالمشهورات والمسلمات، وأدخلوا حسن العدل وقبح الظلم في المشهورات التي لا تفيد اليقين . ولو صح ما ذكروه لانهارت الأصول التي بني عليها الكلام الإسلامي . ولكن الحق مع المحقق اللاهيجي والحكيم السبزواري، لأن مسألة الحسن
والقبح ذات جهتين : فمن جهة هي داخلة في الأوليات، ومن جهة أخرى داخلة في المشهورات . أما الأوَّلِيّات : فقد عرفوها بقولهم : كل قضية تتضمن أجزاؤها عِلَّيةَ الحكمِ فهي أوَّلِيّة لا يتوقف العقل فيه إلا على تصور الأجزاء، ثم مثَّلوا بقولهم (الكل أعظم من جزئه) فإنّ هذا التصديق معلول لتصور جزئَيه لا غير، ولا يتوقف العقل فيه إلا على تصور طرفيه، وقولُنا (العدل حسن) واجدٌ لتلك الخصيصة، فإن تصور الجزءين كاف في الجزم بالقضية)[3] (إنتهى) .
أقول : وأنت بعد الذي تُلِيَ عليك ستعرف أنّ الحقّ مع الطائفة الثانية، فإنه مهما قالوا وقالوا لا يمكن إلاّ أن يكون (العدلُ حسن) و(الإحسانُ حسن) و(الصدق من حيث هو صدق حسن) كلّ ذلك مع غضّ النظر عمّا قد يطرأ على الصدق والإحسان من عناوين تجعلها قبيحة و (الظلمُ قبيحٌ) و(السرقة قبيحة) مع غضّ النظر عمّا قد يطرأ على السرقة من عنوان يجعلها واجبة، كسرقة طعام في حالة الجوع لسدّ الرمق، المهم هو أنّ قضيّتَي (العدل حسن) و(الظلمُ قبيح) هما من اليقينيات الأوّلية، وذلك لمطابقتهما للواقع، حتى ولو اضطر الإنسانُ إلى الكذب أحياناً لغلبة مفسدة الصدق أحياناً على مصلحة الكذب، أو أعطى فلاناً أكثر من فلان ـ طبعاً لا من باب الظلم للآخرين ـ فإنّ ذلك لا يُخرِجُ العدلَ من الحُسن ولا الظلمَ من القُبح، والحاكمُ في هتين القضيّتين العقلان النظري والعملي، فإنه يكفي فيهما تصوّر طرفَيهما ليُحكَمَ بهما، ولا يشذّ عن ذلك عاقلٌ في العالم، فهما إذن قضايا أوّليّة .
ولبيان الأمر أكثر أقول : إنّ الحُسْنَ والقُبْحَ هما نتيجة للكسر والإنكسار في مرحلة هي أسبق من مرحلة الحسن والقبح، وهي مرحلة المصالح والمفاسد، فالكذب مثلاً بعنوانه الأوّلي فيه مفسدة إلزامية، فإن كان فيه مصلحة قليلة فقد يبقى الكذب على قبحه الإلزامي وقد يصير قبيحاً ولكن لا بتلك المرتبة الإلزامية، أي بحسب الكسر والإنكسار، وقد يكون فيه مصلحة كبيرة فيصير واجباً أو مستحبّاً، أي بعد الكسر والإنكسار في مرحلة المصالح والمفاسد، وقد يتساويان فيكون مباحاً إباحةً إقتضائيّة . وعليه فقد يكون الكذب واجباً كما في إنقاذ المؤمن من اعتداء ظالم عليه، وكما في أغلب حالات التقية اليوم، وهكذا ... لكن لا ينفي بقاء المفسدة في هذا الكذب، حتى ولو قلنا بحسن هذا الكذب للإضطرار إليه . ولكن بما أنّ عقل الإنسان العادي ناقص ولا يصل إلى حقيقة الملاكات الواقعية فإنه يخاف من الإفتاء باستحباب هذا وكراهة ذاك وو .. بناءً على حسن هذا وقبح العمل الآخر ...



[1] لا شكّ أنك إن لاحظتَ الفرق بين الأوّليّات والفطريّات عندهم فسوف تشكّك في صحّة ادّعائهم بالفرق بينهما . وأنا لم أعرف الفرق بينهما، المهم هو أنّي أدّعي أنّ حسن العدل وقبح الظلم هي اُمور أوّليّة فطرية تدركها الفطرة، وأمّا تمثيلهم بالكذب والسرقة ونحو ذلك فيجب أن نعرف إن كانت داخلة في العدل أو في الظلم، فإنّ الكذب أحياناً جيد، وكذا السرقة، كما في حالات الضرورة، فيكون الكذبُ مثلاً جيداً بل واجباً كما في حالة إنقاذ مؤمن من ملاحقة الظالمين المجرمين، فيدخل ح الكذب في الإحسان والرحمة .
[2]
[3]

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo