< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

35/03/25

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: إستحقاق المتجرّي للعقاب

المقام الثّالث : في استحقاق المتجرّي للعقاب وعدمه، فنقول :
يقول سيدنا الشهيد : ( الصحيح هو استحقاق المتجرّي للعقاب كما يتضح بالجمع بين أمرين مضى منّا بيانهما : أحدهما : ما مضى من أنّ منجزيّة القطع من الأمور الواقعية المستكشفة بحكم العقل المدرِك لحق المولوية، والثاني : ما بيّناه من أن التجرّي والمعصية متساويان في مخالفة حق المولى الذي هو عبارة عن حق الإحترام، فكلاهما في رتبة واحدة في مستوى الهتك وترك الإحترام . أما بناء على عدم كون حق الطاعة أمراً واقعياً يدركه العقل بل هو حكم عقلائي ـ كما عليه مشهور الفلاسفة والمحقّق الأصفهاني رحمه الله وخلافاً لما عليه مشهور الأصوليين ـ فيشكل القول باستحقاق المتجري للعقاب، لأنّ المفروض أنّ استحقاقه للعقاب ليس ذاتيا، وإنّما هو بجعل الشارع ..) [1](إنتهى) .
أقول : نحن حينما نقول باستحقاق المتجرّي للعقاب إنما نقصد صحّة ذلك وعدالته فيما لو صدر من المولى تعالى، ذلك لأنه هتك في نفسه حرمة المولى واحترامه، ونسبة الهتك واحدة في العاصي والمتجرّي، نظراً إلى أنّ للمولى حقّين : حقّ تحصيل الغرض الذي كلّفنا به ـ وهو طبعاً لصالحنا ـ وحقّ الإِحترام، فإن خالف الواقع صدفةً فقد بَقِيَ عليه مشكلة هتك احترام المولى في نفسه، ولكن هذا لا يمنع أن يلومه الله تعالى فقط، في الآخرة ولا يعاقبه نظراً إلى أنه لم يصدر منه مخالفة للشيء المحرّم واقعاً، بل لا يبعد أن يستحقّ العقابَ أقلّ من العاصي لأنه لم يصدر منه مخالفةٌ للواقع، رغم أنهما متساويان في نيّة التجرّؤ والمخالفة .
ثم اعلم أنّ الإنسان إنما يستحقّ العقابَ على ظلم المولى تعالى أو على ظلم الغير، فليس للإنسان أن يظلم غيرَه عقلاً بمعنى أن يتعدّى حدوده العقلية، فإن ظلم غيرَه استحقّ العقاب عقلاً، وليس فقط عقلائياً .
وأمّا كيف يستحقّ العبدُ العقابَ فيما لو لم يُرِدِ الصلاة ولا الصيام مثلاً، فإنّي أرى أنّ ذلك إنما يكون بإجبار الخالق والمالك والمعطي جلّ وعلا ـ وليس من باب وجوب شكر المنْعِم ـ فهو الذي أمرنا وأجبرنا وألزمنا وخوّفنا، وما ذلك إلاّ ليرحمنا، ولذلك خلقنا . نعم لا شكّ في أنّ الظالم يستحقّ العقاب أكثر من تارك الواجبات، ذلك لأنّ استحقاق العقاب على الظلم أمر عقلي، واستحقاقُ العقابِ على ترك الواجبات أمْرٌ عرَضي لأنه مِن جناب المولى تعالى، ولذلك يستحقّ المطيعُ الثوابَ على فعل الواجبات، ويستحقّ أكثر على المستحبّات، أمّا ترك الظلم فلا يستحقّ الإنسان عليه الثوابَ، أوّلاً لأنه أمْرٌ عدمي، وثانياً لأنّ ترك الإعتداء حقّ عقليّ عليه .
ثم اعلم أنّ قولنا (الأحكام العقلية) نقصد به محض التعقّل، فالعقلُ يتعقّل الاُمورَ ويتعقّلُ المصلحة والمفسدة والحسن والقبح، والعقلُ ـ أو قُلْ العاقلةُ ـ لا يحكم وإنما يُدرِكُ، نعم قد يحكم الحاكم من خلال عقله العمَلي . والأحكام العقلية هي ما يستلزم خلافها التناقض، فمثلاً قولُنا (الكلّ أكبر من الجزء) هو حكم عقلي، وذلك لأنّ نقيضها هو (ليس الكلّ أكبر من الجزء) وهذا باطل عقلاً، فإذن الأوّل حكم عقلي، مثال آخر : قولنا (الأربعة زوج) حكم عقلي واضح، وذلك لأنّ نقيضها هو (ليست الأربعة زوجاً) وهو باطل عقلاً، وكذا في مثل (زيد موجود) و(هو معدوم)، وكذلك (العدلُ حَسَنٌ) و (الظلمُ قبيحٌ) .

* وهنا قد تتساءل عن تصنيف حكم العقل ـ في قولنا "يحكم العقلُ باستحقاق المتجرّي العقابَ" ـ هل أننا نعتبره من الأوّليّات اليقينية، أم أنّ هذا الحكم العقلي هو من المشهورات التي توافق عليها العقلاء فقط، وليس لها رصيد إلاّ تبانيهم على ذلك فهو من باب الجدل فقط، لا من باب البرهان ؟
فنقول : نحن حينما نطلق كلمة "يحكم العقلُ .." نقصد بها الحكم العقلي اليقيني الأوّلي، وحينما نقول بأنّ المتجرّي يستحقّ العقاب عقلاً نقصد أنّ هذا الحكم هو من الاُمور اليقينية الأوّليّة، لا من المشهورات فقط .
بيان ذلك : لا شكّ أنك تعلم أنّ اليقينيات ـ وهي الاُمور العقلية الضرورية ـ ستة اُمور وهي : الأوّلِيّات والمشاهَدات (وهي إما المشاهدات الظاهرة أعني الحسيات، أو الباطنة كالوجدانيات) والتجربيات والحدسيات والمتواترات والفطريات (وهي ما يكفي فيها ملاحظةُ نفس القضية ليجزم بها، كقولنا الأربعة زوج)، ونحن حينما ندّعي حكم العقل في مسألةٍ ما إنما نعني معنى اليقينيات الأوّلية، وأنا أرى أنّ (حُسْن العدل) و (قبح الظلم) هما من الأوّليات لا من المشهورات .
وادّعى ابنُ سينا والمحقّقُ الطوسي والمحقّق الإصفهاني وتلميذه الشيخ المظفّر في اُصول الفقه أنّ (حسن العدل) و (قبح الظلم) هما من المشهورات فقط ـ أي من الآراء المحمودة ـ التي تطابق عليهما نظرُ كلّ العقلاء وليس رصيدهما إلاّ تطابق العقلاء عليهما ! قال ابنُ سينا : (إذا أردت أن تعرف الفرق بين الذائع والفطري فاعرُضْ قولَك (العدل جميل) و(الكذب قبيح) و(السرقة قبيحة) على الفطرة وتكلَّفِ الشكَّ فيهما تجدِ الشك متأتِّياً فيهما وغيرَ متأتٍّ في أن الكل أعظم من الجزء وهو حق أوليّ)[2] (إنتهى بتوضيح قليل)، ولذلك قالوا ينبغي أن تُستخدم هاتان القضيّتين في باب الجدل دون باب البرهان . وقال الشيخ المظفّر بأنّ الفرق بين المشهورات واليقينيات هو أنّ الحاكم في المشهورات العقل العملي والحاكم في اليقينيات العقل النظري .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo