الأستاذ الشيخ ناجي طالب
بحث الفقه
38/02/09
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع : نظريّة الترتّب
وعليه فلو بَنَى على معصيةِ الأمرِ بالأهمّ ولم يُرِدْ تـنفيذَه ، فلا وجه عقليَّ لأنْ يَترُكَ الصلاةَ أيضاً ، وإنما تَـفْعَلُ فِعْليّةُ الأمْرِ بالصلاة فِعْلَها ، فيَحكُمُ العقلُ برجوع التـنجيزِ للأمر بالصلاة ، وذلك لعدم وجود مانع عقلي من تـنجيز وجوبِ الصلاة حينـئذ . وبتعبـيرٍ أوضح : لو فرضنا أنه يريد الإشتغالَ بالإنقاذ لكان الإشتغالُ بالإنقاذ مانعاً من تـنجيز الوجوبِ الفعلي للصلاة ، فحينما لا يريد الإشتغالَ بالإنقاذ يَرجِعُ التـنجيزُ إلى الوجوب الفعلي للصلاة عقلاً ، لأنّ التـنجيزَ أمْرٌ عقليّ ، أي يحكم العقلُ به ، لا أمر شرعيّ ، ولذلك لو تَرَك الأهمَّ ـ كالإنـقاذ ـ وصلّى ، فلا شكّ في صحّة صلاته ، وذلك لحكم العقل ببقاء فعليّة وجوب الصلاة وتمسّكاً بإطلاق ( اَقيموا الصلاةَ ) لإثبات بقاء فعليّة الحكم بوجوب الصلاة بل تمسّكاً بتـنجيز وجوب الصلاة أيضاً ـ رغم استحقاق العقاب على ترك الأهمّ ـ ، ولذلك نقول إنه لا وجه لتحريم الصلاة أو فسادها عند التصميم على ترك الأهمّ . فأنـت تعلم أنه إذا كانـت مقدّمات الوجوب متحقّقة في الصلاة ـ وهي البلوغ والعقل والزوال[1] ـ فلا شكّ ح في وجوبها الفعلي ، وإنما الذي يرتـفع ـ بسبب الأهمّ ـ هو خصوصُ تـنجيز حكم الصلاة ، وهذا ما يسمّونه بـ (نـظـريّـة الـتـرتُّـب) أي يترتّب على عدم إرادة الإنقاذِ حُكْمُ العقلِ برجوعِ التـنجيز إلى الأمر بالصلاة ، أي يحكم العقل بأنه إن لم تـفعلِ الأهمّ فافعلِ المهمَّ ولا تـتركْه كي لا تقع في مبغوضَين ، ومن هنا تَعرِفُ أنّ نظريّة الترتّب تعتمد على حُكْمِ العقل .
فإن سألتَ : هل أنه بمجرّد البناء على عدم الإنـقاذ يرتـفع الوجوبُ التـنجيزي للإنـقاذ ؟ وعلى فرض ارتـفاع التـنجيز عن وجوب الإنقاذ بسبب العصيان ، كيف يمكن اجتماع حُكمين فِعْليـين متزاحمَين في وقت واحد ؟! وبتعبير آخر : ما الوجه في بقاء فِعْليّة وجوب الصلاة مع بقاء فِعْلية وجوب الإنقاذ ، أليس بقاء فعليّة الأمْرِ بالصلاة في حال فعليّة الإنـقاذ يوقعنا في التعارض ؟!
نقول : إعلمْ أنه إذا بَنَى المكلّفُ على عدم الإنقاذ ، فلا معنى عقلاً لبقاء تـنجيز الحكم بالإنقاذ ، لأنّ التـنجيز هو حكم عقليّ محض ـ وليس حكماً شرعياً ـ وبقاؤه ـ مع التصميم على المعصية ـ لغْوٌ محض ، فإذا ارتفع تـنجيزُ الإنقاذ ولم يَعُدْ مانعاً عقلاً ، فحينئذٍ يحكم العقلُ برجوع التـنجيزِ إلى وجوب الصلاة ، بلا مانع . أمّا سقوط الوجوب الفِعْلي للصلاة ـ بعد تحقّقه بوجود العقل والبلوغ والزوال ، أي بعد تحقّق العلّة التامّة للوجوب الفعلي للصلاة ـ فلا وجه عقليّ له . أمّا وجوبُ الإنقاذ فلا شكّ في بقاء فِعْلِيّته ، لأنّ الفعليّةَ أمْرٌ عقلي تكويني محض ، وذلك لبقاء عِلّة فعليّته ، ولا داعي عقليَّ لِرَفْعِ فعليّتِـه ، بل لا وجه لذلك . فيصير وجوبُ الإنـقاذ فِعليّاً لا منجّزاً ـ بسبب البناء الأكيد على المعصية ـ ويصير وجوبُ الصلاة فِعْليّاً ومنجَّزاً عقلاً ، لعدم وجود مانع من رجوع تـنجيزه ، بل لوجود مقتضي لرجوع التـنجيز للصلاة ، أي بعكس ما لو أراد الإنـقاذَ ، فإنّ وجوب الإنـقاذ يكون ح فعلياً ومنجّزاً ، ووجوب الصلاة يكون فعليّاً عقلاً ، لكنْ غيرَ منجّز . وبتعبـير آخر : حين يصمِّم المكلّفُ على معصية الأمْرِ بالإنـقاذ يقول له العقلاء : إذن إنـتقل إلى المرحلة الثانية ـ وهذا معنى سقوط تـنجيز الأمْرِ بالإنـقاذ عقلاً ـ وهي وجوب امتـثال الأمر بالصلاة ـ وهو معنى حكم العقل برجوع التـنجيز إلى وجوب الصلاة ـ ، ولعلّك تعلم أنه لا مزاحمة بـين الوجوبـين الفعليـين للإنـقاذ وللصلاة ، وإنما المزاحمة بـين حكمين منجّزين ، كما لا تعارض ـ أي في عالم الجعل ـ بـين وجوب الإنقاذ ووجوب الصلاة . وأمّا اجتماعُ حكمَين فعليـين متخالفَين في وقت واحد ـ كالإنـقاذ والصلاة ـ فأمْرٌ لا مشكلة فيه لا على مستوى الجعل ولا على مستوى الإمتـثال .
فإذا عرفت هذا تعرفُ بطلانَ ما قاله صاحبُ الكفاية ، فقد قال :
ما هو مَلاكُ استحالة طلب الضدّين في عرْض واحد آتٍ في طلبهما بنحو الترتّب أيضاً ، فإنه وإن لم يكن في مرتبة طلبِ الأهمّ اجتماعُ طلبِهما إلاّ أنه كان في مرتبة الأمر بالمهمّ اجتماعهما ، بداهة فعليّة الأمر بالأهمّ في هذه المرتبة وعدم سقوطها بمجرّد البناء على المعصية ، وذلك لتحقّق شرط فعليّته فرضاً . لا يقال : نعم ، ولكنِ اجتماعُ الفعليّتين المتـزاحمتَين كان بسوء اختيار المكلف ، فلولاه لما كان متوجهاً إليه إلا طلبُ الأهم ، ولا برهان على امتـناع هكذا اجتماع إذا كان بسوء الإختيار . فإنه يقال : إستحالةُ طلب الضدين ليست إلا لأجل استحالة طلب المحال ، واستحالةُ طلبه من الحكيم الملتـفت إلى مُحاليَّته لا تخـتص بحال دون حال ، وإلا لصح فيما علق على أمر اختياري في عرض واحد بلا حاجة في تصحيحه إلى الترتب ، مع أنه محال بلا ريـب ولا إشكال . إن قلت : فرقٌ بـين الإجتماع في عرْضٍ واحد ، والإجتماعِ الترتّبـي ، فإنّ طلب الأول ـ في الإجتماع العرْضي ـ يطارد طلَبَ الآخَرِ ، بخلافه في الترتّبـي ، فإنّ طلب المهمِّ لا يزاحِمُ طلبَ الأهمِّ ، فإنه يكون على تقدير عدم إرادة الإتيان بالأهم ، قلت : ليت شعري كيف لا يطارده الأمرُ بالمهم (بالأهمّ ـ ظ) ، وهل يكون طرده له إلا من جهة فعليته ؟! والمفروض فعليته ومضادة متعلقه له ، فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير مع ما هما عليه من المطاردة من جهة المضادة بـين المتعلقين . مع أنه يكفي الطرد من طرف الأمر بالأهم ، فإنه على هذا الحال يكون طارداً لطلب المهم ، كما كان في غير هذا الحال) (إنـتـهى بتوضيح وتلخيصٍ) [2] [3] . ونـتيجةُ قوله هو أنّ فعليّة وجوب الأهمّ الباقية ـ رغم إرادة معصيتـه ـ تطارِدُ فِعليّةَ وجوبِ المهمّ .
فقد عرفتَ ـ في الردّ على صاحب الكفاية ـ أنه لا يُعقل أن تطارِدَ فعليّةُ وجوب الأهمّ فعليّةَ وجوب المهمّ بعد عدم إرادة امتـثال الأمر بالأهمّ وبعد سقوطِ التـنجيز من الأمر بالأهمّ وبَعد حُكْمِ العقلِ برجوعِ التـنجيز إلى المهم . وبتعبـير آخر : في حال التصميم على عصيان الأمر بالأهم لا يمكن أن يقول لك الباري تعالى (لا أمْرَ بالصلاة أيضاً بسبب أنك تركت الأهمّ) ، وإلاّ تكونُ قد تركتَ فِعْلَين واجبـين ، وهذا كما لو كان زيد المؤمنُ جداً يغرق وعمروٌ الأقلّ أهميّة عند الله من زيد يَغرق أيضاً ، فإذا صمّمتَ أن لا تـنقذ زيداً الأهمّ لِثارٍ بـينَك وبـينَه ـ مثلاً ـ فلا يمكن للباري الحكيم أن يقول لك إذن لا أمْرَ بإنقاذ عَمرو المؤمن !!