< قائمة الدروس

بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

44/08/18

بسم الله الرحمن الرحیم

موضوع: التنبيه على عدّة أمور/ مباحث القطع/

كان الكلام فيما ذكره صاحب الكفاية قدس سره في ابتداء مباحث القطع: من أنّ البالغ الذي وُضع عليه القلم إذا التفت إلى حكمٍ شرعيٍّ فعليّ واقعيٍّ أو ظاهريّ فإمّا أن يحصل له القطع به ... إلى آخر كلامه.

وذكرنا حوله عدّة مطالب، وصلنا إلى مطلبين أخيرين:

أحدهما: حول بيانه لتعميم القطع إلى القطع بالحكم الظاهري.

والمطلب الثاني: حول ما أفاده من تعلّق القطع بالحكم الفعليّ، وما هو مراده من الحكم الفعليّ.

[المطلب الأول]

أمّا ما ذكره قدس سره حول القطع بالحكم الظاهري: فبمناسبة هذا البيان وقع الكلام في أنّه هل الشكّ في الحكم الظاهري مجرى للأصول العمليّة كالشك في الحكم الواقعي أم لا؟

القطع بالحكم الظاهري لا إشكال في كونه منجّزاً للواقع كما أنّ القطع بالحكم الظاهري الترخيصي معذّرٌ عن الواقع، لكنّ الكلام في الشك في الحكم الظاهري.

كان السيد الخوئي قدس سره: يرى جريان الأصول العملية بالنسبة إلى الحكم الظاهريّ المشكوك.

فأورد عليه صاحب البحوث رحمه الله: بأنّه على مسلككم لا مجال لجريان الأصل العملي بالنسبة إلى الحكم الظاهريّ المشكوك؛ فإنّكم لا تعترفون بجريان الاستصحاب في بقاء الحكم الشرعيّ في الشبهات الحكميّة وإلّا أمكنكم أن تستصحبوا الحكم الظاهري، كأن تستصحبون بقاء الحجيّة في موراد الشك في بقاء الحجيّة، ولكنكم لا تعترفون بذلك، أمّا بقية الأصول ما هي فائدة جريانها في مورد الحكم الظاهريّ المشكوك؟ فإنّكم تقولون بأنّ روح الحكم الظاهري التنجيز والتعذير، فمع عدم وصول الحكم الظاهري ليس هناك إلا صورة الحكم الظاهري دون حقيقته؛ فإنّه يتقوم التنجيز والتعذير بالوصول، فكيف تجري الأصول العملية بالنسبة إلى هذا الحكم الظاهري المشكوك؟

أجاب السيد الخوئي رحمه الله: بأنّه لا مانع من أنّه إذا شُك في وجوب الاحتياط نُجري البراءة عن نفس وجوب الاحتياط، وذكر السيد الخوئي رحمه الله هذا المطلب في أبحاثه الأصوليّة.

فأشكل عليه تلميذه صاحب البحوث : بأنّ عموم البراءة أمارة نافية لوجوب الاحتياط إذا شُكّ في جعل وجوب الاحتياط في موردٍ ما، ومع الأمارة على نفي وجوب الاحتياط لا تصل النوبة إلى أصالة البراءة عن وجوب الاحتياط.

التجأ السيد الخوئي رحمه الله أن يذكر مثالاً آخر ومثالاً آخر إلى أن وصلت أمثلته إلى سبع أمثلة، وكل ما يذكر من مثال صاحب البحوث رحمه الله يجيب عليه إلى أن صار وقت الدرس فقام السيد الخوئي رحمه الله للدرس.

الإنصاف: أنّه على رأي السيد الخوئي رحمه الله كما ذكر صاحب البحوث لا جريان الأصل العملي في مورد الحكم الظاهريّ المشكوك.

ولكن بناءً على من يرى أنّ الحكم الظاهريّ ليست روحه مجرّد التعذير والتنجيز وإنّما روحه إهتمام المولى بالتكليف الواقعيّ المشكوك على تقدير وجوده إذا كان الحكم الظاهريّ تنجيزيّا، ورضى المولى بمخالفة التكليف الواقعيّ المشكوك على تقدير وجوده فيما إذا كان الحكم الظاهريّ تعذيريّا. فهذه الروح للحكم الظاهري موجودةٌ ولو قبل وصوله إلى المكلف، المولى أحياناً يهتمّ بالواقع المشكوك ولا يرضى بمخالفته لكن لا يستطيع أن يعاقب العبد إذا لم يكن العبدُ عالماً بهذا الحكم الظاهريّ المشكوك ولا بالحكم الواقعي، ولكن اهتمامه موجودٌ في سُقع نفسه؛ هذا حقيقة الحكم الظاهري: اهتمام المولى بحفظ الواقع المشكوك على تقدير وجوده إذا كان الحكم الظاهريّ تنجيزيا ورضى المولى بمخالفة الحكم الواقعي المشكوك على تقدير وجوده إذا كان الحكم الظاهريّ تعذيريّا، ومعه يأتي دور جريان الأصل العملي بالنسبة إلى الحكم الظاهريّ المشكوك.

ولأجل ذلك يقول صاحب البحوث رحمه الله: إذا قال الشارع "إن قام خبر الثقة على نجاسة مايعٍ فاجتنب عنه" فإنّه يكون مخصّصاً لعموم "رفع ما لا يعلمون". إذا شككنا في جعل الحجيّة لخبر الثقة كشبهةٍ حكميّة يمكننا التمسك بعموم "رُفع ما لا يعلمون" لنفي احتمال وجود المخصص المنفصل من هذا القبيل، ولكن إذا أحرزنا وجود هذا المخصص المنفصل، أحرزنا أنّ الشارع قال "إن قام خبر الثقة على نجاسة مايعٍ فاجتنب عنه" ولكن شككنا في وثاقة من أخبر بنجاسة مايعٍ:

- فإن جرى استصحاب عدم كونه ثقةً: فبالأصل الموضوعيّ ننفي صغرى المخصّص المنفصل لعموم حديث الرفع.

- إنّما يأتي الإشكال إذا لم يمكن إجراء الأصل الموضوعي بأن كانت حالة الوثاقة وعدم الوثاقة متواردتين في حق هذا المخبر، يومٌ ما كان ثقة، ويوم آخر لم يكن ثقة، شُك في المتقدم والمتأخر منهما، فماذا نصنع؟ لا يمكننا التمسك بعموم حديث الرفع للشبهة المصداقية في المخصص المنفصل، ولا يمكننا إجراء الأصل الموضوعي وهو عدم كون المخبر ثقةً لتوارد الحالتين.

السيد الخوئي رحمه الله على مبانيه لم يكن يوجد أي إشكال في إجراءه لأصالة البراءة عن وجوب الاجتناب عن هذا المايع، لماذا؟ لأنّنا وإن كنا نحتمل كون هذا المخبر ثقةً فجُعل وجوب الاجتناب عن هذا المايع لكن هذا الوجوب الظاهري حيث لم يكن واصلاً فلا يكون فعليّا، والتنافي بين الأحكام الظاهريّة يكون بعد وصولها؛ لأنّ الحكم الظاهري غير الواصل لا واقع له، لا حقيقة له، لا فعليّة له كي يتنافي مع الحكم الظاهريّ المخالف له.

ولكن على المسلك الصحيح من عدم تقوّم حقيقة الحكم الظاهريّ بالوصول: فوجوب الاجتناب عن هذا المايع حيث إنّه مشكوك، فيُحتمل أنّه يكون وجوب الاجتناب عن هذا المايع ثابتاً في علم الله لو كان هذا المخبر ثقة، ويعني ذلك عدم رضا الشارع بشرب هذا المايع المشكوك، هذا الاحتمال كيف يجتمع مع إجراء حديث الرفع المقتضي لرضا الشارع بارتكاب هذا المايع المشكوك؟! لا يجتمعان؛ عدم رضا الشارع بشرب هذا المايع لو قام خبر ثقةٍ على نجاسته، ورضا الشارع بشرب هذا المايع إذا تمسّكنا بحديث الرفع.

ولأجل ذلك ذكر صاحب البحوث رحمه الله أنّه تنقطع اليد عن التمسّك بالبراءة عن وجوب الاجتناب عن هذا المايع واقعاً كحكمٍ واقعيٍّ مشكوك، يسميّه بالبراءة العرضية؛ أي البراءة التي تكون في عرض ذلك الحكم الظاهريّ الآخر وهو وجوب الاجتناب عن هذا المايع إذا قام خبر الثقة عليه، لكن قال: تصل النوبة إلى البراءة الطوليّة، أي البراءة عن نفس وجوب الاجتناب كحكمٍ ظاهريٍّ مشكوك.

وبهذا أمكن إجراء الأصل العملي عن الحكم الظاهريّ المشكوك.

وأمّا البراءة عن وجوب اجتناب عن هذا المايع كحكمٍ واقعيّ، وجوب الاجتناب واقعاً لا يمكن الجزم بجريانها ولا يمكن التمسّك بعموم حديث الرفع بالنسبة إلى هذا الحكم الواقعيّ المشكوك ما دمنا نحتمل كون المورد من مصاديق المخصص المنفصل له.

أنا أقول:

كلام البحوث صحيح، لا يجتمعان؛ اهتمام المولى بالاجتناب عن هذا المايع المشكوك إذا قام خبر الثقة عليه ورضا الشارع بارتكابه، نعم لا يجتمعان، صحيح، لكن: أولاً: الذوق العرفي يستظهر من قوله علیه السلام "رفع ما لا يعلمون" أنّ الحكم الواقعيّ ما دام لم يصل إلى المكلف لا يكون رافعاً للبراءة فكيف بالحكم الظاهريّ الذي ليس واصلاً؟! فالرافع لحديث الرفع بالنسبة إلى التكليف الواقعي المشكوك هو العلم بالحكم الواقعي أو العلم بالحكم الظاهري، هذا هو الذي يقتضيه الذوق العرفيّ. يعني: حديث الرفع كاشفٌ عن ضيق اهتمام الشارع بالاجتناب عن هذا المايع المشكوك، فما دام لم يصل كبرى حجيّة خبر الثقة وصغراها نستكشف من حديث الرفع أنّه ليس هناك اهتمام بالاجتناب عن هذا المايع وإلّا نسأل صاحب البحوث رحمه الله: البراءة عن وجوب الاحتياط ما هي فائدتها؟

أنا أحتاج إلى المؤمن بالنسبة إلى شرب هذ المايع، أنت تقول: أُجري البراءة عن وجوب الاحتياط، هذا لا يزيد عمّا إذا علمتُ بعدم وجوب الاحتياط شرعاً كما يدّعيه السيد الخوئيرحمه الله في موارد العلم الإجمالي بأنّ جعل وجوب الاحتياط مستحيل ولكن لا ينافي ذلك وجوب الاحتياط عقلاً.

فالبراءة عن وجوب الاحتياط شرعاً لا تزيد عن العلم الوجداني بعدم وجوب الاحتياط شرعاً فإنّه لا يعني الترخيص في مخالفة التكليف الواقعيّ المشكوك.

اللهمّ إلا أن نُجري البراءة عن وجوب الاحتياط، وبذلك نكشف عن ضيق اهتمام المولى وأنّ هذا الوجوب إذا ثبت يكون بلا روح فيندفع المانع عن جريان البراءة عن التكليف الواقعيّ المشكوك، ما دام لا تجري البراءة عن التكليف الواقعيّ المشكوك فلا تفيد البراءة عن وجوب الاحتياط أبداً، نحن نحتاج إلى المؤمِن بالنسبة إلى الحكم الواقعي المشكوك.

اُفرض أنا أعلم إجمالاً بعدم جعل وجوب الاحتياط شرعاً، ما هي فائدته ما دام لم أُحصل المؤمن بالنسبة إلى اقتحام هذا التكليف الواقعي المشكوك ومخالفته الاحتماليّة؟!

فإذاً:

نحن وإن وافقنا صاحب البحوث رحمه الله في روح الحكم الظاهري ولكن نستشكف من خلال حديث الرفع أنّ الحكم الظاهريّ المشكوك كالحكم الواقعيّ المشكوك فاقدٌ لروح الاهتمام، ما دام لم يصل إلى المكلف لا يهتمّ المولى برعايته، وبذلك يرتفع المانع عن جريان البراءة عن التكليف الواقعيّ المشكوك وهذا يعني أنّنا لا نحتاج إلى جريان الأصل العملي بالنسبة إلى الحكم الظاهري المشكوك، بل دائماً يجري أصل البراءة ونحوها عن التكليف الواقعيّ المشكوك، هذا تمام الكلام في المطلب الأول.

[المطلب الثاني]

أمّا المطلب الثاني وهو: تقييد الحكم بكونه فعليّاً:

فقد أشكل عليه السيد الخوئي رحمه الله: بأنّه لا وجه لهذا التقييد؛ فإنّ القطع بالحكم الإنشائي موضوع أيضاً لآثار وهو جواز الإفتاء، القطع بالحكم الإنشائي له أثره وهو جواز الإفتاء، فلماذ تُقيّد يا صاحب الكفاية القطع بكونه قطعاً بالحكم الفعليّ؟

فهنا ينبغي أن نبحث عن مصطلح صاحب الكفاية رحمه الله في الفعليّة واختلافه عن مصطلح المحقق النائيني والسيد الخوئي ومصطلح المحقق الأصفهاني ، ونتكلّم عن ذلك في الليلة القادمة إن شاء الله.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo