< قائمة الدروس

بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

44/07/08

بسم الله الرحمن الرحیم

 

موضوع:ثمرات النزاع حول تقابل الإطلاق والتقييد الثبوتيّين

كان الكلام في الثمرة الثانية في اختلاف المسالك حول تقابل الإطلاق والتقييد الثبوتيّين، حيث قد يقال: بأنّه:

1. بناءً على كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل السلب والإيجاب فيعني ذلك: أنّ الإطلاق هو عدم التقييد، فإذاً يمكن إثبات الإطلاق باستصحاب عدم التقييد.

2. بخلاف ما لو قلنا بأنّ التقابل بينهما تقابل التضادّ.

- وهذا ما يظهر من صاحب البحوث رحمه الله في بحث المشتق من الجزء الأول.

- كما قد يظهر ذلك من كلمات السيد الخوئي قدس سره فإنّه يذكر أحياناً أنّه لا يمكن إثبات الإطلاق باستصحاب عدم التقييد لأنّ التقابل بينهما تقابل التضادّ.

مثلاً: توجد مسألة في كتاب المضاربة وهي أنّه لو اختلف المالك لرأس المال مع العامل، فقال المالك أنا قلتُ لك اتجر بغير شراء العملة، العامل يقول أنت قلت لي اتّجر بمالي، لم تقل اتّجر بمالي في غير شراء العملة، قطعاً إنّما يترتب أثرٌ عمليٌّ على هذا النزاع فيما إذا تضرّر العامل؛ اشترى الدنانير العراقيّة فهبط الدينار العراقي في قبال الدولار الأمريكي، صاحب رأس المال الذي أعطى الدولارات إلى هذا العامل يقول له: أنا قلت لك اتّجر بمالي في غير شراء العملة، أنت ذهبت واشتريت ديناراً فتضمن الخسارة. يقول العامل: لا، أنت قلت لي اتّجر بمالي وأنا رأيت أنّي لو أشتري دينار وأبيعه أربح، يقول السيد الخوئي: العامل يكون مدعيّا، لماذا؟ لأنّ قول المالك موافقٌ للأصل ومن كان قوله موافقاً للأصل فهو منكرٌ ومن كان قوله مخالفاً للأصل فهو مدعٍّ، والأصل عدم إذن المالك في شراء العملة، واستصحاب عدم التقييد لا يثبت الإطلاق، استصحاب عدم تقييد الإذن في الإتجار بأن لا يشتري العملة لا يثبت إطلاق الإذن في التجارة إلا بنحو الأصل المثبت؛ لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل التضادّ، بينما أنّ صاحب العروة يقول: المالك مدّعي؛ لأنّه يدعي التقييد، العامل يقول: نحن متفقين في أنّك قلت لي اتّجر بمالي ومختلفين في أنّك هل قلت: ولا تشتري العملة، أنا أقول: لم تقل، أنت تدعي أنّك قلت فأثبت ذلك لدى القاضي. القاضي يقول على قول صاحب العروة لمالك المال: ائتي ببينةٍ على أنّك قيّدت إذنك بعدم شراء العملة، هو يقول: ما عندي شاهد، الله شاهد، الناس يقولون: ائتي بشاهدٍ القاضي يعرفه، وهو يقول أنا ما عندي شاهد غير الله. ثم يقول القاضي للعامل: احلف، فيلحف العامل بأنّك لم تقيّد إذنك بأن لا أشتري العملة فلا يتحمّل العامل أيّة خسارةٍ، بينما أنّه على رأي السيد الخوئي: القاضي يطلب البينة من العامل يقول: أنت عليك أن تثبت أنّ إذنه في الإتجار كان مطلقاً، فتقوم وتأتي بشاهدين عدلين يثبتان أنّ إذن المالك كان مطلقاً، العامل يقول: أنا أيضاً ليس لدي شاهد إلا الله، فيستحلف القاضي صاحب رأس المال، يقول: احلف بأنّك لم تأذن للعامل في شراء العملة، هو يحلف ويأخذ الخسارة من العامل. فكأنّه يقول السيد الخوئي: حيث إن التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل التضادّ واستصحاب عدم التقييد لا يثبت الإطلاق فلأجل ذلك لا يكون قول العامل موافقاً للأصل، بل استصحاب عدم الإطلاق يجعل قول المالك لرأس المال موافقاً للأصل حيث هو ينكر الإطلاق والأصل عدم الإطلاق.

 


وقلنا بأنّه لو تمّ هذا البيان من أنّ استصحاب عدم التقييد بناءً على كون التقابل بين الإطلاق والتقييد الثبوتيين تقابل السلب والإيجاب يكون نافعاً في عدّة فروعٍ فقهيّة:

مثّلنا لذلك بـ: موارد الشك في شرطيّة شيءٍ في غسل الجنابة مثلاً، هل يعتبر في غسل الجنابة:

أ. الترتيب بين الجانب الأيمن والأيسر كما عليه المشهور.

ب. أو لا يُعتبر ذلك كما عليه السيد الخوئي رحمه الله والسيد السيستاني '؟

ج. بل ذكر السيد الحكيم رحمه الله صاحب مصباح المنهاج أنّه لا يُعتبر الترتيب حتى بين الرأس والرقبة وبين غسل الجسد، وإنّما يجب عليه أن يبدأ بغسل الرأس وإن لم يكمّله ثم يغسل جسده.

فإذا شككنا في شرطية الترتيب في غسل الجنابة فاكتفينا بالأقل –لم نراعِ الشرط المشكوك- مقتضى كلام السيد الصدر قدس سره في بحوث الفقه: أنّه لا يجوز أن ندخل المسجد، يمكننا أن نصلي؛ لأنّ غسل الجنابة بنفسه داخلٌ في متعلّق التكليف، أي الصلاة مع غسل الجنابة، فالبراءة عن الأكثر تؤمننا عن التكليف بالأكثر ولكن لا تثبت أنّ التكليف متعلّقٌ بالأقل لا بشرط، لا تثبت الإطلاق، وإذا لم يثبت الإطلاق فاستصحاب بقاء حرمة الدخول في المسجد يقتضي عدم جواز الدخول في المسجد، والبراءة عن شرطية الترتيب ليست أصلاً حاكماً على هذا الاستصحاب، ولكن بناءً على ما ذكره في بحوثه في الأصول في بحث المشتق قد يقال بأنّ: استصحاب عدم التقييد يثبت الإطلاق؛ استصحاب عدم تقييد غسل الجنابة بالترتيب بين اليمين واليسار يثبت إطلاق كون غسل الجنابة موضوعاً لجواز الدخول في المسجد وهكذا.

لكن بنظرنا: لا يمكن إثبات الإطلاق باستصحاب عدم التقييد حتى بناءً على المسلك الصحيح من كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل السلب والإيجاب؛ وذلك لعدّة وجوه:

الوجه الأول: إننا وإن قلنا بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل السلب والإيجاب ولكنه مختصٌّ بالإطلاق البدلي لا الإطلاق الشمولي؛ لأنّ الإطلاق الشمولي يتضمن إنحلال وتكثّر الجعل، فأي فرق بين الأمر بالوضوء بالماء والأمر بإكرام العالم؟ لماذا حينما يقول لك الشارع: أكرم العالم، فلا بدّ أن تُكرم كلّ عالمٍ بنحو الاستغراق والانحلال، ولكن حينما يقول لك: توضأ بالماء، تتوضأ بماءٍ واحد وتترك بقيّة المياه، ما هو الفرق بينهما؟ لماذا صار الوضوء بالماء واجب بدلي؟ أي الواجب صرف وجوب الوضوء بالماء ولكن صار إكرام العالم واجب شمولي واستغراقي، لماذا؟ غير أنّه راجعٌ إلى اختلاف كيفية جعل الشارع؟ لا يكون الفرق بينهما اعتباطياً وجزافاً بل ينشأ من اختلاف كيفية جعل الشارع.

إن قلت: تكثر الجعل خلاف الوجدان؛ حينما يقول المولى أكرم العالم فهل هناك صدر في نفسه عمليات متعددة للجعل؟ هذا خلاف الوجدان.

نقول: أنت مشتبهٌ في فهم انحلال الجعل، ليس معنى انحلال الجعل تكثّر عملية الجعل، إذا تحب أن أوضح لك أذكر لك مثال إن شاء الله يوم السبت أو يوم الأحد، يوم الثالث عشر من رجب يوم مولد أمير المؤمنين سلام الله عليه طلبوا منكم تسمّون المولود في المستشفى في اليوم الثالث عشر من رجب باسم "عليّ" جابوا السيارة وأخذوكم إلى المستشفى، أنتم جلستم هناك، قلتم: وضعت إسم عليّ للمولود في هذا اليوم في مستشفيات قم، مبروك. هذا وضعٌ عام وموضوعٌ له خاص، يعني كلّ مولودٍ يصير علمه عليّ، هل صدر منك عملية وضعٍ متعددة؟ كلا، ولكن بنحو الوضع العام والموضوع له الخاص وضعت لكل مولودٍ هذا الإسم المبارك. بينما أنّه في الوضع العام والموضوع له العام تضع لفظ الماء لطبيعي المايع البارد بالأصالة، ولا يكون علماً لهذا الماء أو ذاك الماء، اسم جنسٍ. فحينما يقول المولى "أكرم العالم" فصدر منه وضعٌ عام، جعلٌ عام، ومجعولٌ خاص بعدد أفراد العالم، فإذاً الإطلاق الشمولي يتضمن الإنحلال في الجعل وهو أمر وجودي، استصحاب عدم التقييد لا يثبت الجعل الزائد بالنسبة إلى الفاقد للقيد، استصحاب –مثلاً- عدم تقييد عقد النكاح الذي هو سببٌ للزوجيّة بأن يكون عربياً لا يثبت جعل الزوجيّة للعقد الفارسي؛ لأنّ إثباته به من أوضح أنحاء الأصل المثبت.

ولا يزال عجبي من صاحب البحوث قدس سره؛ حيث إنّه اعترف بأنّ ظاهر النهي هو الانحلال في الجعل "لا تكذب" "لا تكرم الفاسق" مفاد هذا الخطاب هو الجعل، وظاهره انحلال النهيّ بعدد أفراد المتعلّق "لا تكذب" كلّ فردٍ من الكذب جُعلت له حرمةٌ مستقلّةٌ، هذا صريح كلامه في الجزء الثاني من البحوث، فهو يقبل الإنحلال في الجعل في النواهي.

ونحن أشكلنا عليه؛ وقلنا: بأنّه ما هو الفارق بين "لا تكرم الفاسق" حيث يكون ظاهراً في الإنحلال في الجعل وبين "أكرم العالم" حيث تقبل أنّه حكمٌ انحلالي ولكن تنكر الإنحلال في الجعل فيه وتقول إنّما جُعل حكمٌ واحد لوجوب إكرام العالم ولكنّ الإنحلال في المجعول، أي في مقام الإنطباق على المصاديق. ليس مهماً، في الذي قبلت أنه يتضمنّ الإنحلال في الجعل هناك لماذا تقول بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل السلب والإيجاب؟ الإطلاق الشمولي الذي يكون في النهي يتقوّم بالإنحلال في الجعل، فالإطلاق الشموليّ يعني الإنحلال في الجعل بعدد أفراد الطبيعة، واستصحاب عدم التقييد لا يُثبت تكثّر الجعل بعدد أفراد الطبيعة.

هذا هو الإشكال الأول على إثبات الإطلاق في مورد الإطلاق الشمولي، استصحاب عدم التقييد، وجميع موارد الذي نتكلم فيه ويكون الموضوع مردّداً بين الأقلّ والأكثر من قبيل الإطلاق الشمولي؛ غُسل الجنابة موضوع لجواز الدخول في المسجد حكمٌ انحلاليٌّ، هذا الغسل للجنابة سببٌ لجواز الدخول في المسجد، ذاك الغسل سببٌ، الحكم انحلاليٌّ، فنحن نشك في جعل سببيّة جواز الدخول في المسجد للغسل الفاقد للترتيب، واستصحاب عدم التقييد بالترتيب لا يثبت هذا الجعل الزائد؛ جعل سببية الجواز لدخول المسجد أو جواز مسّ المصحف للغسل الفاقد لهذا القيد المشكوك، وبقية الكلام في الليلة القادمة إن شاء الله.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo