الموضوع:باب الالفاظ /علامات الحقيقة: الاطرادالحقيقة الشرعية صناعة التحليل والتركيب واعمالها في مبحث الصحيح والاعم./الخطوات الثلاث في الاستنباط والاجتهاد

كان الكلام في الاطراد من علامات الحقيقة ومر أنه إما يعرّف بكثرة الاستعمال من دون قرينة أو انطباق اللفظ استعمالا على المصاديق والموارد الكثيرة الجامع بينها أو هو كثرة الأحكام على العنوان بلحاظ معنى فارد.

على كل هذه المعاني متقاربة وإن كان الاقرب هو الإستعمال في أكثر من مورد بلحاظ عنوان و احد من دون قرينة ومؤونة.

علامة الاطراد بلحاظ بقية العلامات يقولون أن الامر فيها أشكل من جهة لزوم التحري عن أن الاستعمال الكثير أو انطباق اللفظ بما له معنى في مصاديق كثيرة أو كثرة الأحكام بلحاظ المعنى الواحد الفارد هل هو مع قرينة في البين أو لا، والتحري عن وجود القرينة أو عدم وجود القرينة يحتاج الى التدبر والتأني والتعمل فمن ثم يكون أصعب من الاليات الأخرى، لكنه عموما مفيد ومن ثم إن الاستعمالات المنقولة في كلمات اللغويين هي بنفسها مواد علمية مفيدة وإن كانت مرسلة ولكن مر أنه يتراكم القرائن والظنون فيحصل الاطمئنان الجرم وبالتالي تفيد للوصول الى بنية الظهور.

وايضا مر أن الاصوليين كافة يقرّون باعتبار الاطمئنان الحاصل من قول اللغويين مع أنه غير معتبر منفردا إن لم يردَع عنه بنفسه وبذاته فيصلح أن يكون منشأ تراكمي لحصول الاطمئنان. وإذا كان المنهج النصاعي هو هذا فالمفروض مراعاته في جميع الظنون غير المعتبرة في نفسها.

بعبارة اخرى مسلك الاطمئنان والتراكم مقارب للانسداد لا أنه هو الانسداد. الظن غير المعتبر يعني ليس هناك دليل خاص على الإعتبار وليس هناك دليل خاص على عدم اعتباره بالخصوص والنهي عنه بالخصوص فيكون حاله في الظنون غير المعتبرة التى بنى عليها السيد الخويي في قول اللغويين والشهرة لكن يقر السيد الخويي يمكن تحصيل الاطمئنان منها، فالظنون بمفردها غير معتبرة كحالة الانسداد يعني ليس هناك دليل علي الاعتبار لكن بالتراكم يتولد الظن بدرجة قوية والاطمئنان فيكون حجة ومعتبرة.

فإذاً هذا ليس بممتنع أن الظن غير المعتبر سواء الخبر الضعيف أو القواعد الرجالية غير المعتبرة منفردة ليس محالا أن يتولد الاطمئنان منها بالتراكم وهذه مؤاخذة على منهج السيد الخويي في الرجال أو على منهجه في البعد الروايي في الاستنباط، أنه لايراعي التراكم. مع أن صاحب الجواهر والسيد محسن الحكيم والمشهور يراعيها سواء في القواعد الرجالية او طرق روايات الحديث بينما السيد الخويي بنى عليه تنظيرا في الأصول في الشهرة وقول اللغوي وهذا الاستثناء موافق لمشهور الأصوليين صاحب الكفاية والشيخ الانصاري.

هذه النكتة مهمة أن المنهج الجمعي والتراكمي إذا ما يراعيها الفقيه فيفرّط في مواد الاستنباط سواء في الرجال او في الحديث او في اي شيء آخر، فتجميع القرائن ليس أمرا مخيرا فيه الانسان بل هي مواد الاستدلال ولابد من مراعاتها.

هذا تمام الكلام في بحث علامات الحقيقة وخلاصةً ما استطعنا أن نبينه كنتيجة في علامات الحقيقة أن هذه العلامات مثمرة وان يوصلنا الى المعنى الحقيقي بتمام حدوده لأنه بالتالي تشكل بنية للمعنى الاستعمالي وربما المعنى الاستعمالي أهم عند الفقيه من المعنى الحقيقي لأن المعنى الاستعمالي يعني المعنى بما له من الشواهد والقرائن.

فإذاً ما قيل إن كتب اللغة ما فائدة لها إلا إذا حصل الاطمئنان منها جيد، لكن لابمعنى أنهم يتقيدون بالمعنى الحقيقي وانما الفائدة في المعنى الاستعمالي وهذا منهج مهم وجيد ومثمر.

(الحقيقة الشرعية)

المبحث اللاحق الحقيقة الشرعية. يعني بعد أن بحث الأصوليون الحقيقة اللغوية يبحثون عن الحقيقة الشرعية، بمعنى أن الشارع ربما لايتوافق مع اللغة في وضع الالفاظ.

معنى الحقيقة الشرعية إجمالا هو أن الشارع قد يكون له اصطلاحات لا يتفق مع الحقيقة اللغوية أو الحقيقة العرفية، فليس ضروريا أن يتقيد الشارع في استعمال الألفاظ بالمعاني اللغوية بل قد يحدث المعاني وقد يكون له اصطلاحات مثل بقية العلوم البشرية وهي لاتتقيد بالمعاني اللغوية وكل علم له استحداث المعاني الجديدة للالفاظ ويستعملها في ذلك العلم والشارع ليس خارجا عن هذا المنوال ايضا.

هذه نكتة نفيسة مهمة ولكن يجب أن ننتبه أن هذا ليس خاصا بفقه الفروع بل حتى بالنسبة للعقائد والمعارف والاخلاق.

مثلا النبي صلى الله عليه والسلم يقول: «رهبانية أمتي الجهاد» أو «رهبانية أمتي المكث في المساجد» فيستعمل كلمة «رهبانية» لكن بمعنى آخر وإن كان هذا بين فقه الفروع وفقه الاخلاق.

إذاً هذا المبحث غير خاص بفقه الفروع بل يشمل فقه العقائد وأصول العقائد كالآية الكريمة: ﴿في بيوت أذن الله أن ترفع﴾[1] .

وإن كان هذا المعنى الاصطلاحي لدى الشارع غير ضروري أن يكون خارجا عن المعنى اللغوي لكن المعنى العرفي للبيت فيه رواسب المادية وأن يكون كائنا أرضية مادية محسوسة، بينما المعنى اللغوي في الأصل هو أوسع لأن المعاني لاتوضع الى خصوص النشئة الأرضية. فإذاً الألفاظ موضوعة الى أرواح المعاني؛ «خذ الغایات واترک المبادی» نظریة قدیمة فی علوم اللغة ‌یعنی أن اللفظ موضوع للمعني‌ المجرد وأعم من كون مصاديقها أرضية محسوسة أو تكون ملكوتية في العوالم الاخرى. تلك ايضا معاني ولها ألفاظ يعبر عنها وهناك جامع مشترك.

لكن بغض النظر عن أن المعاني اللغوية معاني وسيعة لو افترضنا أنها أرضية مادية محسوسة وإصالة المادة فيها وأصالة الحس فيها فللشارع أن يستعمل لفظة البيت بمعنى جامع بين المعاني المعنوية والمعنى المادي وليس خصوص المعنى المادية.

البيوت غير المرئية مثل بيت المعمور وإنا لانراه لكنها موجود في السماء الرابعة أو السابعة وكذلك «القلب بيت الرحمان» البيت في أي معنى؟

المهم؛ لذالك الشارع حتى في منظومة الاخلاق صحح كثيرا من الاخطاء في المعاني الاخلاقية نتيجة رواسب بشرية أرضية مجتمعية ومادية فصارت المعاني الاخلاقية في الفضائل أو الرذائل مشوبة فجاء الشارع صحح كثيرا من القضايا مثل أنه ليست الحكمة بكذا وليست الحذر بكذا وهكذا ويحدد لها حدودا و قوالب وما شابه ذلك.

اذا كان المقصود من الحقيقة الشرعية بهذا المعنى من التغاير هذا لاينحصر بعلم الفروع بل يشمل الاخلاق والاداب الشرعية والمعارف وهلم جرا. فإذاً هذا البحث المفروض أنه لايكون مختصا بعلم الفروع. فعلى هذا، استعمالات الشارع تابعة لاصطلاحاته، أصل المعنى اللغوي ليس فيها الشوائب والرواسب لكن مع اصرار جماعة من العلوم المختلفة بأن المعنى اللغوي هو المعنى المادية الحسية الارضية ولنفترض هذا صحيح لكن الشارع يحدد المعنى.

ان اللغويين بنوا على أن تغيير المعنى ولو يسيرا نقل وإذا كان هكذا وسلمنا أن المعنى اللغوي لابد ان يكون حسية ومادية فالشارع يغير المعاني فالحقائق الشرعية في الاخلاق والعقائد الى ما شاء الله.

كأن الوطن عند الشارع بمعنى آخر، أنت إذا عشت في نجف عشرة أيام فانت من اهل نجف وهذا المعنى غير معنى الوطن عند الناس. من هذا القبيل موارد كثيرة والشارع له منظومة خاصة من المعاني في العلوم الدينية. فالقضية ليست منحصرة بفقه الفروع.

﴿ليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر أن تأتوا البيوت من أبوابها﴾[2] أي بيوت هذه؟ الشارع له استعمال آخر واصطلاح آخر. «أنا مدينة العلم وعلي بابها» أي باب هذا؟ هم يقولون هذا استعمال مجازي لكن الشارع لايستعمل مجازا، هذا مجاز لغوي نعم، مثل الحقثيقة الشرعية هي مجاز لغوي لكن ليس مجازا شرعيا و الشارع عنده استعمال شرعي وبالتالي ليس من اللغة وإذًا يستعمل في معاني اخرى.

﴿أضرب لهم مثلا أصحاب القرية﴾[3] مع أن أنطاكية ذلك الأوان كانت أظهر مدينة عمرانية، لكن سماها القرآن قرية. إذا معنى القرية عند القرآن ماذا؟ موارد عديدة معنى القرية في القرآن هو التخلف عن القيم السماوية فهم كانوا متخلفين وجهلة.

﴿وجاء من أقصى المدينة رجل﴾[4] مع أنها من جهة العمران المادي كانت قرية. مثلا «أم القرى» بلحاظ أن كانت عندهم التخلف والشرك فيسميه القرية. ﴿ولو أن أهل القرى﴾[5] المراد أن المدن والحواضر المتخلفة عن مبادئ سماوية.

لذلك أجهل الجاهلين هو الذي يجهل المبادئ السماوية لأنه أكبر حقائق.

القرآن له منطق معين، إذاً الحقيقة الشرعية ليست خاصة بفقه الفروع. الصلوة الان تستعمل في مركب أوله التكبير و آخره التسليم وبلحاظ اللغة مجاز لكن بلحاظ الشارع ليست مجازا بل استعمال حقيقي.

إذاً هذه النكة جدا مهمة أن المعاني من الشارع الموجودة في العلوم الشرعية في كلها هذا الكلام جار. ﴿إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت﴾[6] أي بيت هذا؟ ما المراد من البيت؟ لازم ان نلتفت الى هذا النكات. «المساجد بيوت الله» فالبيتية في الوحي لها معنى آخر.

ان الحقيقة الشرعية او قل الحقيقة الدينية او الحقيقة الوحيانية هذه غير خاصة بخصوص فقه الفروع بل في العلوم الدينية الاخرى.

نكتة اخرى في الحقيقة الشرعية: لماذا بحث الاعلام الحقيقة اللغوية ثم الحقيقة الشرعية ثم الصحيح والاعم؟ ما الترابط بين هذه العناوين؟ واضح أن بنية الظهور المرتكز او المنطلق الأول هي بحسب المؤونة اللغوية والعلاقة اللغوية لكن هذه العلاقة اللغوية قد تزاحمها وتستبدل بعلقة من وضع الوحي يسمى الحقيقة الوحيانية ثم هذه الحقيقة الشرعية لماذا لم يكتف الأصوليون بالبحث فيها بل بحثوا ورائها الصحيح والاعم؟

إذا ندقق فارتباط مبحث الصحيح والاعم ونسبتها مع الحقيقة الشرعية والحقيقة اللغوية هي أن الاصوليين في الصحيح والاعم لم يكتفوا بأصل اللغة الوضعية بل راعوا وتفحصوا عن العلقة الوحيانية وأن هذه المعنى الوحياني الجديد يجب الغور فيه بالنحو التحليلي والتفصيلي.

ونركز على هذا لمطلب لأن الكثير يرغبون عن صناعة التحليل والتركيب بذريعة الخوف من الاستحسان والاستذواق والهلوسة.

نعم إذا بحث الاصوليون في الجو العام في الاصول او الفقه بحثا صناعيا وتحليليا يدخلون فيه ومادخلوا فيه ليحاولوا فتح باب التحليل والتفصيل خشية أن يكون استذواقا واستحسانا.

هذا أولا تقليد وليس اجتهادا وثانيا أن التحليل قام به الاعلام او أنت قمت به اذا كان على الموازين فنعما هي، أما إذا ليس على الموازين فلا نوافق الاعلام وإذا كان على الموازين يمشي عليه الانسان وان لم يقولبه وينجزه الأعلام.

فهناك مشي عجيب حتى السيد الخويي رحمه الله في المباحث الاصولية إذا خاض أساتذة السيدالخويي فيها يخوض وايضا في بعض الفذلكات الصناعية في الفقه إذا توسع فيها اساتذته فهو ايضا توسع وإذا لم يتوسعوا ربما ما أعمل صناعة التحليل والتركيب ويجمد على اللفظ المعين.

فالمقصود أنه ليس المصحح للخوض في تحليل المعاني أن الأعلام خاضوا وإن لم يخوضوا لا نخوض. هذه ليست ضابطة. الضابطة أن منهج التحليل والتركيب يكون على الموازين سواء أنجزها الأعلام أو لم ينجزوها. إذاً لازم أن نضبط المنهج، اصلا إذا بنى الفقيه أن لايتحرك ولايستقصي بفهمه عن الموازين التحليلية ما الفرق بين الفقيه والراوي؟ الفقيه يعمل فهمه والفهم عبارة عن الاستكشاف.

فلم أثار الأعلام بعد المعنى اللغوي وبعد المعنى الوحياني الصحيح والاعم، يعني يقول لك لايكفي أن تعيّن اصل المعنى لغتا، بل انظر الى المعني الوحياني، بل غص واذهب الى تفاصيل المعنى مثل جامع الصحيح وجامع الاعم وطبقات مراتب الصحيح ومراتب الفاسد والثمرة بين الصحيح والفاسد ومعنى الصحيح في المعاملات يختلف عن معنى الصحيح في العبادات والصحة قد تكون مركبة وقد تكون بسيطة. هذه التفاصيل عندما غاص الاعلام غوصا تحليليا وتفصيليا في المعاني هذه الخطوات الثلاث يجب أن يراعيها المستنبط في الابواب كلها حتى المتكلم يجب أن يراعيها في علم الكلام والباحث في الاخلاق والتفسير هكذا. هذه الضوابط الاصولية غيرخاصة بفقه الفروع بل في علم التفسير وليس تفسيرا بالرأي بل منطلقة من بنية الظهور طبعا لابدمن الموازين.

فلابد من منهجية التحليل المختبري العلمي بعلوم عديدة. انظرا النقاشات الموجودة من الأعلام في الصحيح والاعم فالصحيح والاعم بالدقة يعني نوعا من الغور التفصيلي. إذا هذه الخطوة الثالثة لابد منها ونحن مع مشهور الاصوليين أن هذا المبحث أصولي أصيل.

المقصود اجمالا لنلتفت الى هذه الخطوات الثلاث. الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية والتحليل والتفصيل. هذه الخطوات ناموس الاستنباط ومن لايصل اليه ليس بمجتهد. هذا الترتب عند الأصوليين يعني أن يجب أن يتدرج الباحث في الاستنباط والاجتهاد خطوة خطوة ولايكتفي بالابهام لأنها ليس بظهور كامل بل ظهور متوسط. المرحلة النهائية ترتبط بالتحليل ولازم أن تدخل مدينة المعنى. وحقيقتا الاستنباط هو هذا. سواء في الفروع أو الاخلاق او التفسير او السيرة او الكلام. لازم ان نعرف مغز افعال النبي في علم السيرة. في كل العلوم الدينية نحتاج التحليل والتفصيل.