< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

38/02/01

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الاستدلال على البرائة

وفيه انه لو سلمنا ان الشارع المقدس في مقام بيان الحكاية والإخبار لا في مقام الانشاء، ومع ذلك لا يتم ما ذكره إذ لا يوجد في الرواية مثال لقاعدة الحلّ أي لعنوان مشكوك الحلّ والحرمة، لأن الأمثلة الموجودة في الرواية هي لقاعدة اليد والسوق والاستصحاب اما قاعدة الحلّ أي عنوان مشكوك الحلّ والحرمة فلا مثال له فيلزم أن يكون الشارع المقدس قد حكى عناوين مختلفة كقاعدة اليد والسوق والاستصحاب وقاعدة الحلّ، وقد ذكر موارد لها إلاّ قاعدة الحلّ ولم يعلم وجه استثناء قاعدة الحل عن ذكر المثال لها مع أنه بصدد تطبيق الصدر على الذيل.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق الهمداني (ره) في حاشيته على الرسائل وهو قريب من الوجه الثاني: (وحاصله ان غرضه (ع) بيان أن الموضوعات التي يبتلى بها المكلف جميعها من المشتبهات التي لا يعلم واقعها. ومع ذلك لا ينبغي الاعتناء بالشك في شيء منها ما لم يعلم كونه حراما بطريق علمي أو ما تقوم مقامه من بينة ونحوها. فهذه الأمثلة بملاحظة كونها موردا لقاعدة اليد وأصالة الصحة تندرج في موضوع هذه القاعدة الكلّية التي بيّنها الإمام (ع) وهي عدم الاعتناء بالشك في الحرمة ما لم تثبت وعند الاغماض عن هذين الاصلين تكون هذه الموارد ممّا قام على حرمتها ما هو مثل البينة، وهو الأصول الموضوعية الثابت اعتبارها بالأدلة الشرعية)[1] .

ويرد عليه أنه لا يستفاد ممّا ذكره قاعدة الحل لأن عدم الاعتناء بالشك في الموضوعات التي يبتلى بها المكلف، قد ذكر لها امثلة في الرواية وهي كما تقدم أجنبية عن قاعدة الحل فإنها في الثوب والعبد مستندة إلى اليد وسوق المسلمين وفي المرأة مستندة إلى الاستصحاب فمن أين يستفاد قاعدة الحل.

والخلاصة إلى هنا ان هذه الوجوه التي ذكرت للتوفيق بين الصدر والذيل لم يكتب لها التوفيق. وأمّا الاشكال بوجود قرائن توجب اختصاص الروايات المتقدمة بالشبهة الموضوعية فيتوقف على بيان هذه القرائن ثم لنرى أنها تامة أم لا.

فنقول من جملة القرائن قوله(ع): (بعينه)، فإنها ظاهرة في الاختصاص بالشبهة الموضوعية لان كلمة (بعينه) احتراز عن العلم بالحرام لا بعينه وهذا لا ينطبق إلا على الشبهة الموضوعية فإنّا إذا شككنا في كون مائع موجود في الخارج خمرا كان الحرام معلوما لا بعينه إذ نعلم إجمالا بوجود الخمر في الخارج المحتمل انطباقه على هذا المائع فيكون الحرام معلوما لا بعينه، ولا يتصور العلم بالحرام لا بعينه في الشبهة الحكمية الكلية، فإنه مع الشك في حرمة شيء وحليّته كشرب التتن مثلا لا علم لنا بالحرام أصلا وأما حمل كلمة (بعينه) على كونها تأكيدا للمعرفة والعلم فهو خلاف الظاهر جدا.

ومنها أن رواية مسعدة بن صدقة بملاحظة تطبيقها على ما في ذيلها من الأمثلة من قوله (ع) :(وذلك مثل الثوب يكون عليك ولعلّه سرقة أو العبد يكون عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه...الخ)[2] ، تكون ظاهرة في الاختصاص بالشبهة الموضوعية ولا أقل من كون هذه الأمثلة محتملة للقرينيّة على اختصاص الرواية بالشبهة الموضوعية فلا ينعقد للصدر ظهور في الشمول للشبهة الحكمية الكلية.

هذا كلّه على تقدير تسليم دلالة رواية مسعدة على أصالة الاباحة في مشكوك الحرمة حتى في الشبهات الموضوعية والاّ فقد عرفت سابقا أنها أجنبيّة عن ذلك لاجل الأمثلة المذكورة في الذيل فإن الحلية فيها انما هي لقاعدة اليد والسوق والاستصحاب.

ومنها ان قوله (ع) في رواية مسعدة: (أو تقوم به البينّة...الخ)[3] . بناء على ما هو الصحيح من أن المراد منها البيّنة بالمعنى الاصطلاحي وهي شهادة الرجلين العدلين، فإن المشهور بين الاعلام أنه يعتبر في الموضوعات – الاّ ما ثبت بدليل خارجي اعتبار أربع عدول مثل الزنا واللوط والسحاق – وأما الاحكام فيكفي فيها خبر الواحد.

وبناء عليه فقوله: (أو تقوم به البينّة) قرينة على إرادة خصوص الشبهة الموضوعية فيكون المراد ان الأشياء الخارجية كلها على الاباحة في حال الشك حتى تظهر حرمتها بالعلم الوجداني –لانه المراد من قوله: (حتى يستبين لك أو تقوم بها البينة) وأما بناء على أن المراد من البينّة هو المعنى اللغوي لها أي ما يتبين به الشيء فيكون المراد منها حينئذ هو مطلق الدليل فلا يكون قوله (ع): (أو تقوم به البيّنة)، قرينة على الاختصاص بالشبهة الموضوعية، إذ المراد حينئذ أن الأشياء كلها – أي سواء في الشبهة الموضوعية أو الحكمية الكلية – على الاباحة حتى تستبين أي تتفحص وتستكشف حرمتها أو تظهر حرمتها بقيام دليل من الخارج بلا تفحص واستكشاف.

ولكن ذكرنا أن المراد من البيّنة هي بالمعنى الاصطلاحي أي شهادة رجلين عدلين وممّا يدل على أن المراد منها ههنا المعنى الاصطلاحي هو أنه لو أريد بالبيّنة المعنى اللغوي – وهو ما يبين الشيء – للزم اتحاد المعطوف والمعطوف عليه وكون غاية الحل شيئا واحدا وهو العلم لان قوله (ع): (والاشياء كلها على هذا حتى تستبين) أي يظهر لك العلم بالفحص ونحوه أو تقوم به البينّة أي ما يبين الشيء وانما يبين بالعلم فكأنه قيل هكذا: والاشياء كلها على هذا حتى يعلم غير هذا أو يقوم به العلم ومن الواضح لغوية هذا الكلام ومنافاته لما يقتضيه العطف من المغايرة.

وعليه فلأجل صون كلام الحكيم عن اللغوية يقتض ذلك رفع اليد عن المعنى اللغوي للبيّنة وحملها على المعنى الاصطلاحي والذي يهوّن الخطب ان رواية مسعدة بن صدقة ضعيفة السند كما عرفت فلا تكون ناهية عن السيرة العقلائية القائمة على العمل بالخبر الواحد الثقة في الموضوعات كما في الاحكام ومن هنا ذهبنا سابقا إلى الاكتفاء بالخبر الواحد في الموضوعات إلاّ في الموارد التي قام الدليل على التعدّد فيها.

ومنها قوله (ع) في الروايات المتقدمة: (فيه حلال وحرام) فإنه ظاهر في الانقسام الفعلي أي كون الشيء بالفعل منقسما إلى الحلال والحرام بمعنى أن يكون قسم منه حلالا وقسم منه حراما واشتبه الحلال فيه بالحرام ولم يعلم ان المشكوك من قسم الحلال أو الحرام كاللحم المطروح المشكوك كونه من الميتة أو المذكى أو المايع المشكوك كونه من الخل أو الخمر فإن اللحم أو المايع بالفعل منقسم إلى ما يكون حلالا وإلى ما يكون حراما وذلك لا يتصور إلا في الشبهات الموضوعية وامّا الشبهات الحكمية فليس القسمة فيها فعلية وانما تكون القسمة فيها فرضية واحتمالية أي ليس فيها إلا احتمال الحلّ والحرمة، فإن شرب التتن الذي فرض الشك في كونه حلالا أوحراما ليس له قسمان قسم حلال وقسم حرام بل هو إما أن يكون حراما وأما أن يكون حلالا فلا يصح أن يقال ان شرب التتن فيه حلال وحرام خلافا للشيخ آغا ضياء العراقي حيث قال: (ولكن يمكن أن يقال بشمول الرواية للشبهات الحكمية نظرا إلى إمكان فرض الانقسام الفعلي فيها أيضا كما في كلّي اللحم فإن فيه قسمين معلومين حلال وهو لحم الغنم وحرام وهو لحم الأرنب وقسم ثالث مشتبه وهو لحم الحمير لا يدرى بأنه محكوم بالحلية أو الحرمة ومنشأ الاشتباه فيه هو وجود القسمين المعلومين، فيقال بمقتضى عموم الرواية أنه حلال حتى تعلم حرمته بل يمكن فرضه في لحم الغنم أيضا بالإضافة إلى اجزائه فإنه ممّا يوجد فيه قسمان معلومان وقسم ثالث مشتبه كالقلب مثلا فلا يدري أنه داخل في الحلال منه أو الحرام فيقال إنه حلال حتى يعلم كونه من القسم الحرام ويخرج بذلك عن دائرة المشتبهات المحكوم فيها بالحلية، وبعد شمول الشعموم المزبور لمثل هذا المشتبه الذي يوجد في نوعه القسمان المعلومان يتعدى إلى غيره بعدم القول بالفصل)[4] ، انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه ان ما ذكره لم يكتب له التوفيق، وذلك لأن الظاهر من قوله (ع): (فيه حلال وحرام)، ان منشأ الشك في الحلية والحرمة هو نفس انقسام الشيء إلى الحلال والحرام، وهذا لا ينطبق على الشبهة الحكمية فإن الشك في حلية لحم الحمير مثلا ليس ناشئا من انقسام كلي اللحم إلى الحلا ل والحرام بل هذا النوع مشكوك فيه من حيث الحلية والحرمة ولو على تقدير حرمة جميع اللحم أو حليته، وهذا بخلاف الشبهة الموضوعية فإن الشك في حلية مائع موجود في الخارج ناشىء من انقسام المائع إلى الحلال والحرام، إذ لو كان المائع بجميع اقسامه حلالا او بجميع أقسامه حراما، لما شككنا في هذا المائع الموجود في الخارج من حيث الحلية والحرمة.

والخلاصة إلى هنا أنه لا يصح الاستدلال بروايات الحل على البرائة في الشبهات الحكمية الكلية لضعف دلالتها مضافا لضعف أكثرها من حيث السند. نعم لو كان الوارد في الرواية هكذا: كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام. من دون لفظة (بعينه) أو شيء آخر، لكانت الرواية عامة للشبهات الحكمية والموضوعية، مثل موثقة عمار: (كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر)، ولكن الموجود في الرواية لفظة (بعينه) وهذه توجب ظهور الرواية في الشبهة الموضوعية فقط. والله العالم

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo