< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

35/07/15

بسم الله الرحمن الرحیم

نرجع إلى تعريف المفهوم؛ حيث تنبغي الإشارة إلى أن المفهوم من اللفظ؛ بمعنى أن اللفظ يدل عليه ولكن بالدلالة الالتزامية؛ إذ يكون في اللفظ خصوصية استتبعت المفهوم باللزوم البيِّن بالمعنى الأخص؛ مثلا في قولك: (إن جاءك زيد فأكرمه) هناك خصوصية في هذه القضية الشرطية، وهي كون الشرط، وهو المجيء، علة منحصرة للجزاء، وهو وجوب الإكرام.
وعليه، فالمفهوم عبارة عن: (حكم غير مذكور في الكلام لازم بيِّن بالمعنى الأخص لحكم مذكور).
هذا هو التعريف الأصح للمفهوم، وقد عرفه البعض بأنه: "حكم لغير مذكور)؛ أي حكم لموضوع غير مذكور، في قبال المنطوق الذي هو حكم لموضوع مذكور؛ مثلا قوله: >فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ<[1]، فإن منطوقه عبارة عن حرمة التأفف المذكور في الآية،بينما مفهومه بالأولوية هو حرمة الضرب والشتم غير المذكورين فيها. ويرد على هذا التعريف:
أولا: إنه غير جامع للأفراد؛ فإنه بفرض أن المفهوم عبارة عن حكم لموضوع غير موجود أخرج أغلب أفراد المفهوم، وتوضيحه:
أما مفهوم الشرط، ففي قولك: (إن جاءك زيد فأكرمه)، نجد أن موضوع المنطوق هو زيد، وهو نفسه في المفهوم (إن لم يجئك زيد فلا تكرمه)، فبناء على كون المفهوم عبارة عن حكم لموضوع غير مذكور، يكون مفهوم الشرط خارجا عن تعريف المفهوم.
وأما مفهوم الغاية؛ فلو قال المولى: (صم إلى الليل)، كان موضوع المنطوق هو الليل، فإن لم تكن الغاية داخلة في حكم المغيى، لكان المفهوم (لا تصم في الليل)، فيكون موضوعه عين موضوع المنطوق المذكور، فيكون مفهوم الغاية خارجا أيضا.
وأما مفهوم الحصر؛ ففي قولك: (إنما زيد عالم)، نجد أن موضوع المنطوق هو زيد، وهو نفسه في المفهوم (زيد ليس بشاعر)، فلا يكون مفهوم الحصر داخلا أيضا.
وأما مفهوم اللقب، بناء على أن له مفهوما؛ ففي قولك: (يجب إكرام غير زيد)، نجد أن موضوع المنطوق هو زيد، وهو نفسه في المفهوم (لا تكرم زيدا)، فالكلام فيه هو الكلام.
ثانيا: إنه غير مانع من الأغيار؛ لأن قيد عدم ذكر الموضوع في المفهوم، يجعل المنطوق مفهوما أحيانا؛ كما في منطوق قوله: >وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ<[2]، نجد أن الموضوع غير مذكور، وهو (أهل)، فبناء على القيد المتقدم يكون القول: (واسأل أهل القرية) مفهوما للآية، والحال أنها ليست من باب المفهوم، وإنما هي من باب المجاز في الحذف، فهي من باب المنطوق وإن لم يذكر فيها الموضوع.
وكذا بالنسبة إلى الآيتين الشريفتين اللتين دلتا على أن أقل الحمل ستة أشهر، فإن موضوع هذا الحكم، وهو أن أقل الحمل ستة أشهر، ليس مذكورا في كلتا الآيتين، إلا أن ذلك لا يجعل من هذا الحكم مفهوما لهما.
هذا حاصل ما أشكل على هذا التعريف، ولقائل أن يقول: ولكن هذه التعاريف وأمثالها ليست تعاريف حقيقية بالحدود والرسوم التامة ليشكل عليها طردا وعكسا، وإنما هي مجرد تعاريف لفظية، فلا ينبغي المشاحة فيها وتضييق الخناق عليها. وفيه: صحيح أن التعاريف ليست حقيقية؛ إذ لا يعلم حقائق الأمور ولا يحيط به غير خالقها، إلا أن ذلك لا يسهل الخطب لدرجة اختيار التعريف المخرج لأكثر الأفراد حتى يكاد أن لا يبقي منها شيئا.
ومهما يكن من شيء، فقد قسم المفهوم إلى قسمين:
مفهوم مخالفة: وهو فيما لو كان الحكم في المفهوم مخالفا للحكم في المنطوق إيجابا وسلبا؛ كمفهوم (إن جاءك زيد فأكرمه)، فإن الحكم في المنطوق إيجابي، وهو (أكرم)، والحكم في المفهوم سلبي، وهو (لا تكرم).
ومفهومالموافقة: وهو فيما لو كان الحكم في المفهوم موافقا للحكم في المنطوق إيجابا وسلبا؛ كمفهوم الأولوية في قوله: >فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ<، فإن الحكم في المنطوق سلبي، وهو (لا تتأفف)، والحكم في المفهوم سلبي أيضا، وهو (لا تشتم).
ووقوفا عند هذه الآية المباركة، نقول: إنه لما فُسِّرت هذه الآية بالآداب، انتفت دلالتها على الحرمة. وقد فسَّرتها صحيحة أبي ولاد الحناط، قال: "سألت أبا عبد الله عن قول الله: >وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا<[3]، ما هذا الإحسان؟ فقال: الإحسان أن تحسن صحبتهما، وأن لا تكلِّفهما أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين، أليس يقول الله: >لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ<[4]، وقال: >إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا<؟! قال: إن أضجراك فلا تقل لهما: أف، ولا تنهرهما إن ضرباك، قال: >وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا<، قال: إن ضرباك فقل لهما: غفر الله لكما، فذلك منك قول كريم، قال: >وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ<[5]، قال: لا تملِ عينيك من النظر إليهما إلا برحمة ورقة، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما، ولا يدك فوق أيديهما، ولا تقدَّم قدامهما"[6].
ذكر الإمام العديد من الآداب مع الوالدين كمصداق للإحسان إليهما؛ كأن لا يكلِّف والديه السؤال وإن كانا مستغنيين، وأن يدعو لهما بالمغفرة بحال ضرباه، وأن لا يرفع صوته فوق صوتيهما، ولا يتقدم عليهما، فإن ذكر هذه الأمور مع التأفف قرينة على أنه ليس محرما، وإنما هو مخالف للأدب مع الوالدين.
وتؤيد ذلك صحيحة عمر بن يزيد، أنه سأل أبا عبد الله عن إمام لا بأس به، في جميع أموره عارف، غير أنه يُسمع أبويه الكلام الغليظ الذي يغيظهما، أقـرأ خلفه؟ قال:لا تقرأ خلفه ما لم يكن عاقا قاطعا"[7]. فإن كان الكلام الغليظ والمتكرر مع الأهل ليس محرما على نحو يوجب فسق إمام الجماعة ويسقط عدالته، فلأولى في التأفف أن لا يكون كذلك.

هل المفهوم وصف للمدلول أو الدلالة؟
قال صاحب الكفاية: "كما لا يهمنا بيان أنه من صفات المدلول أو الدلالة وإن كان بصفات المدلول أشبه، وتوصيف الدلالة به أحيانا كان من باب التوصيف بحال المتعلق".
بعد الفراغ من تعريف المفهوم، تعرض صاحب الكفاية لبيان كونه من صفات المدلول أو الدلالة، فأعرب عن عدم اهتمامه لبيان ذلك مكتفيا بالإشارة إلى أنه كون المفهوم وصفا للمدلول أقرب.
وفيه: إن صفات المدلول هي التي يوصف بها ذات المدلول مع قطع النظر عن الدلالة؛ كالكلية والجزئية؛ فإن المعنى من حيث هو كلي تارة، وجزئي أخرى، بينما صفات الدلالة على العكس منها؛ فإنها التي توصف بها الدلالة مع قطع النظر عن المدلول؛ مثل الصراحة والظهور والنصوصية.
إذا عرفت ذلك، فنقول: إن الأقرب أن صفتي المنطوقية والمفهومية من صفات الدلالة لا من صفات المدلول؛ إذ لا يتصف بهما المعنى من حيث هو، وإنما يتصف بهما بلحاظ نفس الدلالة، فإن كانت دلالته متبوعة كان منطوقا، وإن كانت تابعة كان مفهوما.
وأما من قال أن المفهوم وصف للمدلول؛ لأن المفهوم حكم، والحكم هو المدلول؛ فيكون من صفات المعنى لا اللفظ، ففي غير محله؛ لأن الدلالة هي من اتصفت أولا بالحكم، من ثم جاء اتصاف المدلول به، والله العالم.
ثم ختم مقدمة هذا المقصد قائلا: "وقد انقدح من ذلك أن النـزاع في ثبوت المفهوم وعدمه في الحقيقة، إنما يكون في أن القضية الشرطية أو الوصفية أو غيرهما هل تدل بالوضع أو بالقرينة العامة على تلك الخصوصية المستتبعة لتلك القضية الأخرى، أم لا؟"
حاصل هذه الختمة أن بحثنا في المفاهيم بحث صغروي يقع حول ثبوت المفهوم للشرط والوصف والغاية وغيرها؛ أي حول ثبوت حكم غير مذكور في الكلام، باللزوم البيِّن بالمعنى الأخص، لحكم مذكور، بالنسبة لهذه القضايا، وليس البحث كبرويا حول حجية المفهوم؛ فإنه لا إشكال في حجيته المستمدة من حجية الظهور نفسها.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo