< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

35/06/24

بسم الله الرحمن الرحیم

الأمر السادس: معنى الصحة
قال صاحب الكفاية: "إن الصحة والفساد وصفان إضافيان يختلفان بحسبالآثار والأنظار، فربما يكون شيء واحد صحيحا بحسب أثر أو نظر، وفاسدابحسبآخر،ومنهناصحأنيقال:إنالصحة في العبادة والمعاملة لا تختلف،بلفيهمابمعنىواحدوهوالتمامية،وإنما الاختلاف فيما هو المرغوب منهما من الآثار التي بالقياس عليها تتصف بالتمامية وعدمها، وهكذا الاختلاف بينالفقيهوالمتكلمفيصحةالعبادة؛إنمايكونلأجل الاختلاف فيما هو المهم لكل منهما من الأثر، بعد الاتفاق ظاهرا على أنها بمعنى التمامية، كما هي معناها لغة وعرفا".
يريد المصنف من هذا الأمر تحديد معنى الصحة وبيان بعض الأمور المتعلقة بها. أما بالنسبة لمعنى الصحة، فقد تعرضنا من قبل لهذه المسألة في مبحث الصحيح والأعم، إلا أنه لدينا ما نضيفه هنا. فنقول:
أولا: إن الصحة والفساد أمران إضافيان، فليس لهما حد واقعي لا يزيدان عنه ولا ينقصان، بل يختلفان من حال إلى حال، فقد يكون الشيء صحيحا من جهة وفاسدا من جهة أخرى؛ فمثلا صلاة المسافر صحيحة بالإضافة إلى للمسافر وفاسدة بالإضافة إلى الحاضر، والصلاة من جلوس صحيحة بالإضافة إلى العاجز عن القيام وفاسدة بالإضافة إلى القادر عليه، وهكذا دواليك. كما قد تكون الصلاة صحيحة بالأمر الظاهري وفاسدة بالأمر الواقعي، وقد تكون صحيحة بالأمر الواقعي الثانوي وفاسدة بالأمر الواقعي الأولي.
ثانيا إن معنى الصحة هو تمامية الأجزاء والشرائط، ويقابله الفساد الذي يعني عدم تماميتها إلا أن الفقهاء قد فسروا الصحة بأنها عبارة عن إسقاط الإعادة والقضاء، بينما فسرها المتكلمون بأنها عبارة عن موافقة الأمر والشريعة، والحق أن هذين تفسيران باللازم وبما يتلاءم مع غرض البحث لدى كل منهما؛ فإن الفقيه حينما يبحث في صحة الصلاة مثلا، فإن غرضه نفي وجوب الإعادة في الوقت والقضاء خارجه، من هنا فسر الصحة بأنها عبارة عن إسقاط الإعادة والقضاء، بينما الغرض من بحث المتكلم هو مطابقة المأتي به للأمر مما يترتب عليه الثواب، أو عدم مطابقته له مما يترتب عليه العقاب، ومن هنا فسر الصحة بأنها عبارة عن موافقة الأمر والشريعة.
ثالثا: ذكرنا سابقا أن النسبة بين الصحة والفساد هي العموم من وجه، واليوم نفصل في المسألة بالنسبة إلى الفقيه والمتكلم، فنقول: إن النسبة بينهما قد تكون عموما من وجه، أو عموما مطلق، أو تساويا، وتوضيحه:
أما العموم من وجه؛ فإن الصلاة تارة تكون صحيحة لدى الفقيه والمتكلم معا؛ كصلاة المختار تامة الأجزاء والشرائط؛ فإنها صحيحة لدى الفقيه؛ حيث لا تجب إعادتها في الوقت ولا قضاؤها خارجه، وصحيحة لدى المتكلم؛ لموافقتها الأمر والشريعة.
وأخرى تكون صحيحة لدى الفقيه دون المتكلم؛ كمن جهر في صلاته في موضع الإخفات، أو أخفت في موضع الجهر جهلا أو نسيانا؛ فإن الصلاة في هذه الصورة صحيحة لدى الفقيه؛ بدليل صحيحة زرارة عن أبي جعفر: "في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه، وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه، فقال: أيّ ذلك فعل متعمدا فقد نقض صلاته، وعليه الإعادة، فإن فعل ذلك ناسيا، أو ساهيا، أو لا يدري، فلا شيء عليه وقد تمت صلاته"[1]، وغير صحيحة لدى المتكلم؛ لعدم موافقتها للأمر الأولي الواقعي. والحق أن هذا المثال في غير محله؛ لأن الصلاة في هذه الصورة صحيحة لدى كل منهما؛ إذ صحتها تكشف عن وجود أمر من الشارع بهذه الكيفية.
وثالثا تكون صحيحة لدى المتكلم دون الفقيه؛ كما في موارد الإجزاء؛ فإذا قامت الأمارة على عدم السورة، فصلى المكلف على طبقها، ثم انكشاف الخلاف، فإن الصلاة في هذه الصورة تكون صحيحة لدى المتكلم؛ لموافقتها الأمر، وغير صحيحة لدى الفقيه؛ لانكشاف أن الواقع خلافها. هذا بمعزل عن قاعدة (لا تعاد)، وإلا فيمكن تصحيح الصلاة بها.
وأما العموم المطلق؛ ففيه صورتان:
الأولى: أن تكون الصحة لدى المتكلم أعم منها لدى الفقيه، وذلك فيما لو فرضنا أن مراد المتكلم من الأمر الذي تشترط موافقته للحكم بالصحة، هو مطلق الأمر الأعم منالواقعي الأولي، والواقعي الثانوي، والظاهري، ففي هذه الصورة يكون كل ما يسقط الإعادة والقضاء موافقا للأمر والشريعة، وليس كل ما يوافقهما مسقطا لهما؛ مثلا: لو صلى المكلف صلاته تامة الأجزاء والشرائط امتثالا للأمر الواقعي الأولي، فتكون صحيحة لدى الفقيه والمتكلم، أما لو صلى مستصحبا الطهارة، ثم انكشف خلافه، فهنا تكون صلاته صحيحة لدى المتكلم؛ لموافقتها الأمر الظاهري، ولا تكون صحيحة لدى الفقيه؛ لأن الأمر الظاهري لا يجزي عن الواقعي.
الثانية: أن تكون الصحة لدى الفقيه أعم منها لدى المتكلم، وذلك فيما لو فرضنا أن مراد المتكلم من الأمر الذي تشترط موافقته للحكم بالصحة، هو خصوص الأمر الواقعي الأولي، والأمر الواقعي الثانوي، وأن مطلق الأمر لدى الفقيه مجز، ففي هذه الصورة يكون كل ما يوافق الأمر والشريعة مسقطا للإعادة والقضاء، وليس كل ما يسقطهما موافقا لهما؛ حيث تكون الصلاة مع استصحاب الطهارة صحيحة لدى الفقيه وإن انكشف الخلاف، بينما تكون فاسدة لدى المتكلم لعدم موافقتها الأمر الواقعي.
وأما التساوي، ففيما لو فرضنا أن مراد المتكلم من الأمر مطلقه، وأن مطلق الأمر أيضا مجز لدى الفقيه؛ فحينئذ يكون كل ما يسقط الإعادة والقضاء موافقا للأمر والشريعة، وكل ما هو موافق لهما مسقط لهما.
والإنصاف: إن النسبة بين الصحة والفساد هي العموم المطلق؛ فالصحة لدى المتكلم أعم منها لدى الفقيه، وبالتالي يكون كل ما يسقط الإعادة والقضاء موافقا للأمر والشريعة، وليس كل ما يوافقهما مسقطا لهما؛ وذلك لأن المتكلم لما أطلق لفظ الأمر الذي تشترط موافقته للحكم بالصحة، فقد أراد بإطلاقه الأمر الأعم من الأولي بقسميه والظاهري، أما لدينا، فإن المسقط للإعادة والقضاء هو خصوص الأمر الواقعي الأولي دائما، والأمر الواقعي الثانوي أحيانا؛ فإن الأمر الثانوي بالتيمم مثلا يكون مجزيا بحال لم يجد المكلف الماء في الوقت، وبالتالي لا يجب عليه القضاء، ولا يكون مجزيا فيما لو وجده داخله، فيجب عليه الإعادة. أما الأمر الظاهري، فهو غير مجز على ما تقدم في مبحث الإجزاء من أن العمل على طبق الأمارة والأصول العملية غير مجز بحال انكشف خلافهما، إلا ما خرج بالدليل.

تنبيه:
قال صاحب الكفاية: "تنبيه: وهو أنه لا شبهة في أن الصحة والفساد عند المتكلم وصفان اعتباريان ينتزعان من مطابقة المأتي به مع المأمور به وعدمها،وأماالصحةبمعنىسقوط القضاء والإعادة عند الفقيه، فهي من لوازم الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأولي عقلا؛ حيث لا يكاد يعقل ثبوت الإعادة أو القضاء معه جزما؛ فالصحة بهذا المعنى فيه، وإن كان ليس بحكم وضعي مجعول بنفسه أو بتبع تكليف، إلا أنه ليس بأمر اعتباري ينتزع كما توهم، بل مما يستقل به العقل، كما يستقل باستحقاق المثوبة به وفي غيره".
ذكرت عدة أقوال في أنه هل الصحة والفساد حكمان شرعيان وضعيان، أم أمران عقليان، أم أمران انتزاعيان؟ نذكر منها:
القول الأول: وهو أن الصحة والفساد في العبادات أمران انتزاعيان، وفي المعاملات حكمان شرعيان وضعيان.
القول الثاني: وهو منسوب إلى صاحب الكفاية من أنهما حكمان شرعيان وضعيان في المعاملات الكلية، وأمران انتزاعيان في المعاملات الجزئية. وأما بالنسبة للصحة والفساد في العبادة، فسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى عند التعرض لشرح كلامه.
القول الثالث: وهو للميرزا من أن الصحة والفساد الظاهريين حكمان شرعيان وضعيان، وأن الصحة والفساد الواقعيين أمران انتزاعيان.
يقول صاحب الكفاية: إن الصحة والفساد لدى المتكلم أمران انتزاعيان انتزعا من مطابقة المأتي به للمأمور به. أما لدى الفقيه، فإن الصحة والفساد بالأمر الواقعي الأولي حكمان عقليان؛ حيث يحكم العقل بسقوط الأمر لسقوط ملاكه، فلا يكون ثمة موجب للإعادة والقضاء، وإلا لزم تبديل الامتثال بالامتثال، وهو محال.
وبالجملة، فإن الصحة وإن لم تكن بهذا المعنى حكما شرعيا وضعيا، إلا أنها ليست أيضا أمرا انتزاعيا، كما ذهب إليه بعض الأعلام؛ حيث ذكر أنه لا فرق بين الصحة لدى المتكلم والفقيه من هذه الجهة، فإنها أمر انتزاعي، بل يقول صاحب الكفاية: إن الصحة بهذا المعنى مما يستقل به العقل، ولكن سيتضح لك ما في كلامه عند الانتهاء من بيان مراده.



[1] وسائل الشيعة باب 26 من أبواب القراءة في الصلاة ج6، ص86، ح1.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo