< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

35/06/23

بسم الله الرحمن الرحیم

الأمر الخامس: تحرير محل النـزاع

قال صاحب الكفاية: "إنه لا يدخل في عنوان النـزاع إلا ما كان قابلا للاتصاف بالصحة والفساد؛ بأن يكون تارة تاما يترتب عليه ما يترقب عنه من الأثر، وأخرى لا كذلك؛ لاختلال بعض ما يعتبر في ترتبه، أما ما لا أثر له شرعا، أو كان أثره مما لا يكاد ينفك عنه، كبعض أسباب الضمان، فلا يدخل في عنوان النـزاع".
بعد الفراغ من بيان المراد من متعلق النهي العبادي في مسألتنا، وأنه خصوص العبادة الذاتية والشأنية، لا العبادة الفعلية، شرع في بيان المورد القابل للاتصاف بالصحة والفساد في مسألتنا؛ وهو كل مركب من أجزاء وشرائط يترتب عليه الأثر، وكان متعلقا للتكليف وما يلحق به من الأسباب؛ كالعقد المركب من الإيجاب والقبول، والإيقاع المشتمل على الشرائط المعتبرة فيه؛ حيث إن المتعلق أو العقد يمكن أن يكون صحيحا باعتبار انطباقه على ما يترتب عليه الأثر، ويمكن أن يكون فاسدا باعتبار عدم الانطباق.
وعليه، فليست كل معاملة، ولو بالمعنى الأعم، قابلة للدخول في محل النـزاع في مسألتنا، ولكن بما أننا نبحث عن اقتضاء النهي الفساد وعدم اقتضائه، فلا بد أن يكون المنهي عنه قابلا للاتصاف بهما، وبما أن الصحة عبارة عن تمامية الأجزاء والشرائط للشيء وبالتالي ترتب أثره الشرعي، بينما الفساد عبارة عن عدم تمامية أجزائه أو شرائطه وبالتالي عدم ترتب أثره الشرعي، فهذا يكشف عن أمور في المنهي عنه في مسألتنا، وهي:
الأول: (التركيب والبساطة): فلا بد أن يكون المنهي عنه مركبا من أجزاء وشرائط؛ كالصلاة والحج والوضوء والبيع والإجارة والنكاح والطلاق وغيرها؛ بحيث إذا تمت أجزاؤها وشرائطها ترتب أثرها الشرعي، وإلا فلا. وأما الأمور البسيطة التي لا أثر شرعي لها؛ كالأكل والشرب مثلا، فهي خارجة عن محل النـزاع؛ إذ لا معنى لاتصافها بالصحة والفساد، وإنما تتصف بالوجود أو العدم فحسب، فإن الصحة والفساد لا يعرضان على الماهية بما هي هي، وإنما يعرضان عليها بعد وجودها المركب؛ حيث يقال حينئذ إنها صحيحة أو فاسدة.
وقد اتضح مما تقدم أنه ليس المراد بالمعاملة ما كانت بالمعنى الأعم الشامل لمثل إحياء الموات؛ فإن النهي التحريمي فيها لا يوجب الفساد؛ فإن النهي عن الإحياء بالآلة الغصبية لا يوجب فساد الإحياء، وذلك واضح، إلا إذا كان النهي إرشادا إلى عدم كون المحياة ملكا للمحيي، وهذا شيء آخر خارج عما نحن فيه.
الثاني: (انفكاك الأثر): لا بد أن يكون المنهي عنه قابلا لانفكاك أثره، فلو كان الأثر لازما غير منفك عنه؛ كالغصب والإتلاف اللذين لا ينفك عنهما أثرهما، وهو الضمان، فلا يدخلان في محل النـزاع؛ لعدم اتصافهما حينئذ بالصحة والفساد.
وقد يقال: إن الضمان لا يلازم الإتلاف على كل حال؛ فإن من أتلف مال الحربي لم يكن ضامنا له. وعليه، فنجد أن الإتلاف قد ينفك عنه أثره، فيدخل في محل النـزاع. وفيه: إن الشارع بعدما أباح لنا مال الحربي، فينتفي موضوع الضمان حينئذ؛ إذ موضوعه مال الغير غير المباح للمتلِف، وهو منتف هنا.
نعم، قد يمثَّل بإتلاف شيء من المسجد بدون إذن الولي، فإنه بناء على أن المسجد ليس ملكا للمسلمين، ويكون وقف المسجد حينئذ تحرير ملك، فلا يكون ضامنا لأحد، بخلاف ما لو قلنا بأن المسجد ملك للمسلمين، كما هو الأقوى، فإن المتلف حينئذ يكون ضامنا لهم. وعليه، لا يكون الضمان ملازما للإتلاف دائما، بل قد لا يلزم كما في هذه الصورة بناء على أن المسجد ليس ملكا للمسلمين، وقد يلزم كما في غيرها، فيكون حينئذ داخلا في محل النـزاع.
ثم إن المعاملة إذا كان أثرها مترتبا على النهي عنها، فهي خارجة عن محل النـزاع؛ لأن محله المنهي عنه الذي له أثر قبل تعلق النهي به؛ كالبيع الذي يتحقق أثره من النقل والانتقال بحال كان تام الأجزاء والشرائط وقبل ورود النهي عنه. أما مثل الحدود؛ كالقتل والرجم والجلد على القاتل والزاني المحصن وغير المحصن، فهي آثار جاءت من النهي عن هذه الأسباب، وإلا فقبل النهي عنها لم تكن هذه الآثار لهذه الأسباب، ومن هنا كانت خارجة عن محل النـزاع.
الثالث: (التقابل بين الصحة والفساد): إن الصحة والفساد لما كانا أمرين عارضين على الماهية الموجودة، انتفى أن يتقابلا تقابل النقيضين. ولما كان الفساد عبارة عن عدم خاص، وهو عدم استجماع الأجزاء أو الشرائط، فيكون أمرا عدميا، فينتفي أن يكون تقابله مع الصحة تقابل الضدين. وعليه، فالصحة والفساد يتقابلان تقابل الملكة والعدم؛ إذ الفساد عبارة عن عدم صحة ما من شأنه أن يكون صحيحا.
ويبقى أن ننبه على أمرين:
أولا: إن الصحة تطلق أحيانا على ما يقابل المعيب، لا ما يقابل الفساد، وهي بهذا المعنى خارجة عن محل النـزاع؛ إذ في حال شراء الجوز المعيب مثلا يكون البيع مثلا صحيحا، غايته أن للمشتري خيار العيب.
ثانيا: إن موضوع الحكم خارج عن محل الكلام رغم كونه مركبا دائما، ولذا لا يكفي تركبه في دخول مسألة ما في محل النـزاع، بل لا بد أن يكون المتعلق مركبا ذا أثر شرعي، فإن الموضوع إذا كان غير تام، فلا يتصف بالفساد، وكذا إذا كان تاما لا يتصف بالصحة؛ مثلا: موضوع وجوب الحج، هو البالغ العاقل المستطيع صحيح البدن مخلى السرب، وهو موضوع مركب، إلا أنه إذا نقص شيء من هذا المركب لا يقال: إن موضوع الحج فاسدا، بل يقال: إن موضوعه غير متحقق، فلا يترتب الحكم الفعلي عليه.
الأمر السادس: معنى الصحة
قال صاحب الكفاية: "إن الصحة والفساد وصفان إضافيان يختلفان بحسبالآثار والأنظار، فربما يكون شيء واحد صحيحا بحسب أثر أو نظر، وفاسدابحسبآخر،ومنهناصحأنيقال:إنالصحة في العبادة والمعاملة لا تختلف،بلفيهمابمعنىواحدوهوالتمامية،وإنما الاختلاف فيما هو المرغوب منهما من الآثار التي بالقياس عليها تتصف بالتمامية وعدمها، وهكذا الاختلاف بينالفقيهوالمتكلمفيصحةالعبادة؛إنمايكونلأجل الاختلاف فيما هو المهم لكل منهما من الأثر، بعد الاتفاق ظاهرا على أنها بمعنى التمامية، كما هي معناها لغة وعرفا".
يريد المصنف من هذا الأمر تحديد معنى الصحة وبيان بعض الأمور المتعلقة بها. أما بالنسبة لمعنى الصحة، فقد تعرضنا من قبل لهذه المسألة في مبحث الصحيح والأعم، إلا أنه لدينا ما نضيفه هنا. فنقول:
أولا: إن معنى الصحة هو تمامية الأجزاء والشرائط، ويقابله الفساد الذي يعني عدم تماميتها.
ثانيا: إن الصحة والفساد أمران إضافيان، فليس لهما حد واقعي لا يزيدان عنه ولا ينقصان، بل يختلفان من حال إلى حال، فقد يكون الشيء صحيحا من جهة وفاسدا من جهة أخرى؛ فمثلا صلاة المسافر صحيحة بالإضافة إلى للمسافر وفاسدة بالإضافة إلى الحاضر، والصلاة من جلوس صحيحة بالإضافة إلى العاجز عن القيام وفاسدة بالإضافة إلى القادر عليه، وهكذا دواليك. كما قد تكون الصلاة صحيحة بالأمر الظاهري وفاسدة بالأمر الواقعي، وقد تكون صحيحة بالأمر الواقعي الثانوي وفاسدة بالأمر الواقعي الأولي.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo