< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

35/06/16

بسم الله الرحمن الرحیم

الفصل الثالث: في أن النهي عن الشيء هل يقتضي فساده أم لا؟
الأمر الأول: الفرق بين هذه المسألة ومسألة اجتماع الأمر والنهي
قال صاحب الكفاية: "وليقدَّم أمور: الأول: إنه قد عرفت في المسألة السابقةالفرقبينهاوبينهذهالمسألة،وإنهلادخل للجهة المبحوث عنها في إحداهما، بما هو جهة البحث في الأخرى، وإن البحث في هذه المسألة في دلالة النهي بوجه يأتي تفصيله على الفساد بخلاف تلك المسألة، فإن البحث فيها في أن تعدد الجهة يجدي في رفع غائلة اجتماع الأمر والنهي في مورد الاجتماع أم لا؟".
هذا هو الفصل الثالث والأخير من المقصد الثاني (النواهي)، وهو حول مسألة (هل النهي عن الشيء يقتضي فساده أم لا؟)، وفيه أمور ثمانية، أولها يتعلق في بيان الفرق بين هذه المسألة ومسألة اجتماع الأمر والنهي السابقة، وقد ذكرت فوارق عدة، منها:
التفريق بالجهة: فإن جهة البحث في مسألتنا في أن النهي عن الشيء، سواء أكان معاملة أم عبادة، هل يقتضي فساده أم لا؟ بينما جهة البحث في مسألة الاجتماع في أن تعدد العنوان هل يوجب تعدد المعنون، وبالتالي يجدي في رفع غائلة اجتماع الأمر والنهي في مورد الاجتماع ولا يكون التكليف حينئذ محالا؟
التفريقبالموضوعوالجهة: وقد ذكره الميرزا النائيني،وهو أن موضوع البحث في مسألة الاجتماع هو تعلق النهي بعنوان، وتعلق الأمر بعنوان آخر، والنسبة بينهما عموم من وجه؛ كما في (صل) و(لا تغصب)؛ فإن الأمر قد تعلق بعنوان (الصلاة)، والنهي قد تعلق بعنوان (الغصب)، والنسبة بينهما عموم وخصوص من وجه، بينما موضوع البحث في هذه المسألة هو تعلق النهي بعين العنوان الذي تعلق به الأمر، ولكن بحصة خاصة منه، فكانت النسبة بينهما عموم مطلقا؛ كما في (صل) و(لا تصل في الدار المغصوبة) مثلا؛ فإن كلاًّ من الأمر والنهي قد تعلقا بعنوان الصلاة، إلا أن النهي قد تعلق بحصة خاصة منها، وهي الصلاة في الدار المغصوبة.
وأما التفريق بينهما بحسب الجهة، فإن جهة البحث في مسألة الاجتماع هي من حيث اتحاد المتعلقين وعدم اتحادهما، وأما في هذه المسألة، فالبحث فيها عن اقتضاء النهي للفساد. فالخلاصة أن الفرق بين المسألة في الموضوع والجهة.
التفريق بالمراد من النهي: وقد ذكره الآغا ضياء الدين العراقي، وهو أن المراد من النهي في مسألتنا هو النهي الواقعي الثابت في نفس الأمر؛ أي سواء وصل إلى المكلف وتنجز أم لا، بينما المراد من النهي في مسألة الاجتماع هو خصوص النهي الواصل إلى المكلف المنجز عليه، ومن هنا صحح الفقهاء الصلاة بناء على الامتناع وتغليب جانب النهي في صورة الجهل القصوري بالنهي ونسيانه.
والإنصاف: إن كلاًّ من هذه الفوارق وجيه، إلا أن الفارق الأشمل والأخصر هو أن البحث في مسألة اجتماع الأمر والنهي صغروي بالنسبة إلى البحث في مسألة اقتضاء النهي عن الشيء فساده، وتوضيحه: إن البحث في مسألة الاجتماع فيما لو أمر المولى بشيء ونهى عن آخر، ثم اتفق أن اجتمع متعلق الأمر والنهي في مورد واحد خارجا، فنبحث حينئذ عن سريان النهي من متعلقه إلى متعلق الأمر، فإن قلنا بالسريان، صار متعلق الأمر منهيا عنه، ويصبح صغرى حينئذ لمسألة (النهي عن الشيء يقتضي فساده أم لا؟).
وبالجملة، فبناء على الامتناع وترجيح جانب النهي، ينقَّح صغرى لمسألة (النهي عن الشيء يقتضي فساده أم لا؟)؛ إذ بعد كونه منهيا عنه يقال: هل النهي عنه يقتضي فساده أم لا؟


الأمر الثاني: هل المسألة لفظية أم عقلية؟
قال صاحب الكفاية:"إنه لا يخفى أن عد هذه المسألة من مباحث الألفاظ، إنما هو لأجل أنه في الأقوال قول بدلالته على الفساد في المعاملات، مع إنكارالملازمةبينهوبينالحرمةالتيهيمفادهفيها، ولا ينافي ذلك أن الملازمة علىتقديرثبوتها في العبادة إنماتكون بينه وبين الحرمة ولو لم تكن مدلولة بالصيغة، وعلىتقديرعدمهاتكونمنتفية بينهما؛ لإمكان أن يكون البحث معه في دلالة الصيغة،بما تعم دلالتها بالالتزام، فلا تقاس بتلك المسألة التي لا يكاد يكون لدلالة اللفظ بها مساس، فتأمل جيدا".
هذا هو الأمر الثاني من هذا الفصل، وهو يبحث عن كون مسألة اقتضاء النهي عن الشيء فساده مسألة لفظية أم عقلية، وقد ذكر صاحب الكفاية أن إدراج هذه المسألة ضمن المباحث اللفظية لأجل أن البعض رغم إنكاره الملازمة بين الفساد والحرمة التي هي مفاد النهي في المعاملات، ذهب إلى أن النهي المدلول باللفظ يوجب فساد المعاملة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على كون المسألة لفظية لا عقلية.
ثم ذكر أن هذا لا ينافي كون الملازمة على تقدير ثبوتها في العبادة إنما تكون بين الفساد والحرمة ولو لم تكن الحرمة مدلولة بالصيغة. ووجه عدم المنافاة هو أنه يمكن إرجاع النـزاع مع هذا القائل بدلالة النهي الآتي من اللفظ على الفساد إلى حال اللفظ؛ بأن يكون النـزاع في الدلالة اللفظية ولو كانت التزامية متفرعة على ثبوت الملازمة.
وبالجملة، فإنه يمكن أن تكون الملازمة بين الحرمة التي تكون مستفادة من غير اللفظ بملاك لا ينافي القول بالفساد، إنما يكون مستفادا من اللفظ ولو بالالتزام فيما إذا كانت الحرمة مستفادة من اللفظ، فيكون مصب رافد بحث الملازمة في نهاية المطاف في مباحث الألفاظ، فتأمل.
هذا حاصل ما ذكره صاحب الكفاية في هذا الأمر مع توضيح منا، وفيه: إنا لسنا بحاجة لإتعاب النفس لإدخال المسألة في مباحث الألفاظ لأجل ما ذكره القائل، مع كون قوله واضح الفساد ولم يقِم برهانا عليه. ومن هنا نقول: إن البحث في مسألتنا لا يختص فيما لو كان النهي مدلولا للفظ لكي تكون المسألة لفظية، وإنما البحث في استلزام النهي الفساد سواء أكان النهي ناشئا من لفظ أم إجماع أم سيرة، لا أن النـزاع جار في خصوص ما لو كان النهي مستفادا من اللفظ. وبالتالي فالحكم في المسألة راجع إلى العقل، ولا وجه لجعل اللفظ فيصلا فيها.
فالنتيجة: إن مسألة اقتضاء النهي عن الشيء فساده مسألة عقلية بلا إشكال. إن قلت: إن كانت مسألة عقلية، فلماذا أدرجها الأعلام ضمن المباحث اللفظية؟! قلت: كان ينبغي أن يفردوا بحثا مستقلا لهذه المسألة ولغيرها من الاستلزامات غير المستقلة؛ كمسألة مقدمة الواجب، ومبحث الضد، ومسألة اجتماع الأمر والنهي، ومبحث الإجزاء، ولكنهم أدرجوا هذه المسائل في مباحث الألفاظ تسامحا، أو لأجل أن أغلب الأحكام الشرعية استفيدت من ألفاظ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والله العالم.

تعقيب: هل المسألة أصولية؟
لم يقع النـزاع بين الأعلام حول أصولية هذه المسألة، حتى الميرزا الذي ذهب إلى كون مسألة اجتماع الأمر والنهي من المبادئ التصديقية لم يتردد في اعتبار هذه المسألة أصولية؛ والسر في جعله مسألة اجتماع الأمر والنهي من المبادئ أنها تحتاج إلى كبرى أصولية أخرى في طريق الاستنباط؛ ذلك أننا لو قلنا بالامتناع دخلت المسألة صغرى في باب التعارض، ولو قلنا بالجواز دخلت صغرى في قياس التزاحم. أما مسألتنا هذه، فهي تقع مباشرة كبرى في طريق الاستنباط، ولا تحتاج إلى كبرى أصولية أخرى.
ومهما يكن من شيء، فبناء على ما ذهبنا إليه من أنه يكفي في المسألة الأصولية أن تقع في طريق الاستنباط، وأن تكون عنصرا سيالا في أغلب الأبواب الفقهية، سواء احتاجت إلى كبرى أصولية أم لا، فإن كلتا المسألتين أصولية، والله العالم.


الأمر الثالث: شمول النهي للتنـزيهي والغيري
هذا هو الأمر الثالث من هذا الفصل، وهو حول أن النهي الداخل في محل النـزاع هل يختص بالنهي التحريمي والنفسي، أم يشمل النهي التنـزيهي والغيري؟ فهاتان مسألتان.
أما المسألة الأولى، وهي دخول النهي التنـزيهي محل النـزاع، فيقول فيها صاحب الكفاية: "ظاهر لفظ النهي وإن كان هو النهي التحريمي، إلا أن ملاك البحث يعم التنـزيهي، ومعه لا وجه لتخصيص العنوان، واختصاص عموم ملاكه بالعبادات لا يوجب التخصيص به، كما لا يخفى".
يقول: لا إشكال في كون النهي في مسألة اقتضاء النهي عن الشيء فساده شاملا للنهي التحريمي، وإنما وقع الخلاف في شموله للنهي الكراهتي التنـزيهي.
أما في المعاملات، فقد اتفق الأعلام على أن النهي التنـزيهي لا يقتضي فسادها. وأما في العبادات، فقد ذهبت جماعة منهم الميرزا النائيني والسيد الخوئي إلى خروج النهي التنـزيهي عن العبادات عن محل النـزاع؛ لأن الحزازة المستفادة من هذا النهي ليست في متعلقه؛ أي ليست في هذه الحصة الخاصة من العبادة، لنبحث عن كون النهي عنها هل يقتضي فسادها أم لا؟ وإنما الحزازة في تطبيق الطبيعي الواجب على حصة خاصة منه من دون أية حزازة ومنقصة في نفس تلك الحصة. ومن هنا لم يكن النهي التنـزيهي عن العبادات داخلا في محل النـزاع؛ لصحة العبادة في مواردها.
وفيه: إن هذا الكلام لا يتم فيما لو فرضنا ورود النهي على العبادة؛ لأنها حينئذ تكون مبغوضة، ويشترط في العبادة المحبوبية الخالصة، وهما لا يجتمعان، فيدخل النهي التنـزيهي عن العبادة في محل النـزاع حينئذ، إلا أن نقول كما قال الميرزا من أن النواهي التنـزيهية الواردة في الشريعة المتعلقة بالعبادات، لم تتعلق بذات العبادة على وجه يتحد متعلق الأمر والنهي، وحينئذ تخرج المسألة عن محل النـزاع.
ومهما يكن، فإننا حملنا سابقا النهي عن العبادة على الإرشاد إلى أقلية الثواب فحسب، بدليل تصحيح الصلاة المنهي عنها في مواضع التهمة مثلا. وعليه، فلا حزازة في العبادة المنهي عنها نهيا تنـزيهيا، وبالتالي لا إشكال في صحتها، فتكون خارجة عن محل النـزاع.
وبعبارة أخرى: ليس النهي التنـزيهي في العبادات نهيا حقيقيا، بل هو كما عرفت إرشاد إلى أقلية الثواب.



BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo