47/05/11
خیار التاخیر
الموضوع: خیار التاخیر
[الدَّليل الثَّاني: ما أشار إليه العلَّامة (رحمه الله) في التَّذكرة من أنَّ الصَّبر أبداً مظنَّة الضَّرر المنفيّ بالخبر.
وتوضيحه: أنَّ في صبر البائع ضرراً عظيماً، بل الضَّرر هنا أشدّ وآكد من الضَّرر في الغبن؛ لأنَّ الضَّرر هنا من جهات ثلاثةٍ:
... الجهة الثَّانية: أنَّ تلفه في تلك المدَّة يكون على البائع؛ لأنَّ كلّ مبيعٍ تُلف قبل قبضه فهو من مال بائعه، وهو ضرر].
وأمَّا الجهة الثَّانية: فأيضاً لا يقتضي الخيار؛ لأنَّ التَّلف من مال البائع إن كان ضرريّاً فنرفعه بحديث لا ضرر، ونحكم بعدم كون تلفه من البائع.
ولا وجه للحكم بجواز المعاملة؛ لأنَّ حديث نفي الضَّرر إنَّما يرفع ما ينشأ من قِبله الضَّرر، لا أمر آخر.
[الجهة الثَّالثة: أنَّه يجب عليه حفظ المبيع في تلك المدَّة للمشتري، وحفظ مال الغير بلا عوض ضرر، ومقتضى حديث لا ضرر عدم لُزوم المعاملة، وكون البائع مخيّراً بين الفسخ وعدمه]
وأمَّا الجهة الثَّالثة: فأيضاً لا يقتضي الخيار؛ لأنَّ الحفظ إذا كان ضرريّاً على البائع فنرفع وجوبه بالحديث، ولا وجه لرفع لُزوم المعاملة.
الدَّليل الثَّالث -وهو العمدة-: الرِّوايات المستفيضة:
منها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) (قال: قلتُ له: الرَّجل يشتري من الرَّجل المتاع ثمَّ يدعه عنده، فيقول: حتَّى آتيك بثمنه، قال: إن جاء فيما بينه وبين ثلاثة أيامٍ، وإلَّا فلا بيع له.[1]
ومنها: صحيحة عليّ بن يقطين (أنَّه سأل أبا الحسن (عليهالسلام) عن الرَّجل يبيع البيع، ولا يقبضه صاحبه، ولا يقبض الثَّمن، قال: فإن الأجل بينهما ثلاثة أيامٍ، فإن قبض بيعه، وإلَّا فلا بيع بينهما). [2]
ومنها: رواية إسحاق بن عمَّار عن عبد صالح (عليه السلام) (قال: منِ اشترى بيعاً فمضت ثلاثة أيامٍ، ولم يجئ فلا بيع له)[3] .
وهي ضعيفة في التَّهذيب بعدم وثاقة الهيثم بن مُحمّد، ولم يثبت اتِّحاده مع الهيثم بن مُحمّد الثُّماليّ الثِّقة.
كما أنَّها ضعيفة في الفقيه؛ لأنَّ في إسناد الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله) إلى إسحاق بن عمَّار عليَّ بن إسماعيل السّنديّ، ولم يوثِّقه إلَّا نصر بن الصُّباح، وتوثيقات نصر بن الصُّباح غير معتبرةٍ.
ومنها: رواية عبد الرَّحمان بن الحجّاج (قال: اشتريت محملاً، فأعطيتُ بعض ثمنه، وتركته عند صاحبه، ثمَّ احتسبت أياماً، ثمَّ جئتُ إلى بائع المحمل لآخذه، فقال: قد بعته فضحكت، ثمَّ قلت: لا والله، لا أدعك أو أقاضيك، فقال لي: ترضى بأبي بكر بن عيّاش؟ قلتُ : نعم، فأتيته فقصصنا عليه قصتنا، فقال أبو بكر: بقول مَنْ تريد أن أقضى بينكما؟ أبقول صاحبك أو غيره؟ قال: قلتُ: بقول صاحبي، قال: سمعته يقول: من اشترى شيئاً، فجاء بالثَّمن ما بينه وبين ثلاثة أيام، وإلَّا فلا بيع له)[4] .
وهي ضعيفة بأبي بكر بن عيَّاش.
ووجه الاستدلال بهذه الرِّوايات: هو أنَّ الإعلام فهموا منها نفي لُزوم البيع، فمراده (عليه السلام) من قوله: (وإلَّا فلا بيع بينهما)، أي: لا بيع لازم لا نفي حقيقة البيع، ومعنى لا بيع لازم هو ثبوت الخيار.
إن قلت: إنَّ ظاهر هذه الرِّوايات بطلان البيع -كما اعترف بذلك أغلب الأعلام، ومنهم الشَّيخ في المبسوط، حيث قال: (روى أصحابنا أنَّه إذا اشترى شيئاً بعينه بثمن معلوم، وقال للبائع: أجيئك بالثَّمن، ومضى، فإن جاء في هذه الثَّلاثة كان البيع له، وإن لم يجيء في هذه المدَّة بطل البيع)- حتَّى أنَّ صاحب الحدائق (رحمه الله) طعن على العلَّامة (رحمه الله) في المختلف؛ لأنَّه اعترف بظهور الرِّوايات في خلاف المشهور، ثمَّ اختار العلَّامة (رحمه الله) رأي المشهور؛ مستدلّاً بأنَّ الأصل بقاء صحَّة العقد، وحمل الرِّوايات على نفي اللُّزوم.
أقول: هناك عدَّة أمورٍ جعلت المشهور يحمل نفي البيع في الرِّوايات على نفي اللُّزوم:
منها: أنَّ المفهوم من نفي البيع للمشتري في صحيحة زرارة المتقدِّمة (وإلَّا فلا بيع له) هو ثبوت الخيار للبائع، وإلَّا لو كان المراد نفي صحَّة البيع لم يكن معنى لنفيها عن خصوص المشتري؛ لأنَّ الصِّحّة لا تقبل التَّبعيض.
ومنها: أنَّه يظهر من هذه الرِّوايات كون العلَّة في هذا الخيار دفع الضَّرر عن البائع، وإنَّما يندفع بالخيار.
وأمَّا البطلان، فربَّما كان أضرّ على البائع من التزام البيع لنقصان القيمة في هذه المدَّة فلا يحصل المطلوب، وهو الإرفاق بالبائع.
ومنها: دعوى انصراف إطلاق البيع إلى اللَّازم؛ بقرينة المقابلة مع الشَّرطيّة الأُولى؛ لأنَّ معنى قوله (عليه السلام): (إن جاء فيما بينه وبين ثلاثة أيام) أنَّ البيع لازم، وقد قابله بقوله (عليه السلام): (وإلَّا فلا بيع له)، فيكون معناه أنَّه لا يلزم.
ومنها: ما ذكره الشَّيخ الأنصاريّ (رحمه الله)، وهو فهم العلماء، حيث إنَّهم فهموا من هذه الرِّوايات نفي اللُّزوم لا نفي صحَّة المعاملة، فإنَّ فهمهم نفي اللُّزوم من هذه الرِّوايات دليلٌ على ظهور الرِّوايات في ذلك.
والإنصاف:
أمَّا الأمر الأوَّل: فهو تامّ، ولا ينافيه ما في صحيحة ابن يقطين (وإلَّا فلا بيع بينهما)؛ لصدق نفي اللُّزوم بينهما، ولو بنفيه للبائع منهما.
وأمَّا الأمر الثَّاني: فليس تامّاً؛ إذ لم يظهر من الرِّوايات كون دفع الضَّرر علّةً لهذا الخيار، بل هو حكمة، والحكمة لا يشترط اطّرادها؛ إذ قد توجد في بعض الأفراد، ولا توجد في البعض الآخر.
وأمَّا الأمر الثَّالث: فهو في محلِّه؛ لأنَّ مقتضى المقابلة بين الشَّرطيّة الأُولى والثَّانية هو كون المراد من قوله (عليه السلام) (وإلَّا فلا بيع له) هو نفي اللُّزوم، لاسيَّما مع وقوع مثله في خيار ما يفسد ليومه مع إطباقهم عليه، حيث ورد في الرِّواية (في الرَّجل يشتري الشَّيء الَّذي يفسد من يومه ويتركه حتَّى يأتيه بالثَّمن، قال: إنْ جاء فيما بينه وبين اللَّيل بالثَّمن وإلَّا فلا بيع له).
وسيأتي -إن شاء الله تعالى- الكلام بالتَّفصيل حول سند هذه الرِّواية، وحول هذا الخيار عند قول المصنِّف (رحمه الله) (وخامسها: ما يُفسده المبيت).
وأمَّا الأمر الرَّابع: فإن كان فهم الأعلام يفيد الاطمئنان بذلك فبها، كما لو كان فهمهم ناشئاً من نفس الرِّوايات، وإلَّا فمجرَّد الظَّنّ بذلك غير كافٍ؛ إذ يحتمل أن يكونوا قدِ استندوا ذلك إلى قرينة خارجيَّة، كما هو الأقرب.
والخُلاصة إلى هنا: أنَّ ما ذهب إليه المشهور من ثبوت الخيار للبائع هو الصَّحيح، لاسيَّما وأنَّ الشَّيخ (رحمه الله) في المبسوط يحتمل أن يكون مراده من بطلان البيع هو بطلان اللُّزوم؛ بقرينة كلامه في غيره من كتبه.
خصوصاً الخلاف الَّذي نُسب فيه الخيار إلى إجماع الفرقة وأخبارهم.
وعليه، فالمخالف من المتقدِّمين منحصر بابن الجنيد أبي عليّ الأسكافي (رحمه الله) الَّذي لا يزال مخالفاً، ومخالفته لا تضرّ، والله العالم بحقائق أحكامه.