« قائمة الدروس
الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه

46/10/17

بسم الله الرحمن الرحيم

/ كتاب الخيارات (6)/المعاملات

 

الموضوع: المعاملات / كتاب الخيارات (6)/

 

المعروف بين الأعلام أنَّ خيار المجلس مختصٌّ بالبيع، فلا يجري في غيره من العقود؛ وذلك لأنَّ الأدلَّة المتقدِّمة موردها البيع البيِّعان بالخيار ما لم يفترقا.

وبالجملة، فهو مختصّ بالبيع بأنواعه، كبيع السَّلم والنَّسيئة والمرابحة والمساومة، ولا يجري في غيره من العقود، كالإجارة والصُّلح والوكالة ونحوها، وسيأتي المزيد من التَّفصيل حول عدم جريانه في غير البيع عند قول المصنِّف (رحمه الله) في الفرع الرَّابع: لا خيار في الإجارة والإقالة؛ لأنَّهما ليستا بيعاً عندنا، وكذا الحوالة والصُّلح على الأقرب....

نعم، حكي عن الشَّيخ (رحمه الله) في المبسوط أنَّه أثبته في العقود الجائزة مثل الوكالة والمضاربة والوديعة.

ولكنَّه في غير محلِّه؛ لأنَّ العقود الجائزة يصحُّ فسخها في المجلس وبعده، فلا معنى لإثبات خيار المجلس فيها.

لا إشكال بين الأعلام في ثبوت هذا الخيار للمتبايعَيْن ما داما في المجلس، أي لم يفترقا، وكذا يثبت لو فارقا المجلس مصطحبَيْن وإن طال الزَّمان، ما لم يتباعد ما بينهما حال الاصطحاب عمَّا كان ما بينهما حال العقد.

والدَّليل على ذلك: ما ذكرناه من الرِّوايات المتقدِّمة البيِّعان بالخيار ما لم يفترقا.

ومن المعلوم أنَّهما لو فارقا المجلس مصطحبَيْن فيصدق عليهما أنَّهما لم يفترقا، وإن طال زمان الافتراق حال الاصطحاب.

المعروف بين الأعلام أنَّه لو ضرب بينهما حائل لم يبطل الخيار؛ لعدم صدق التّفرُّق به، سواء أكان الحائل رقيقاً، كالثَّوب ونحوه، أم غليظاً، كالجدار ونحوه.

وفي الجواهر: بلا خلاف أجده بيننا بل وبين غيرنا، عدا ما في التَّذكرة عن الشَّافعيّة...[1] .

وبالجملة، هناك تسالم بين الكلّ في جميع الأعصار والأمصار على أنَّ الحائل لا يبطل الخيار به؛ لعدم صدق الافتراق به.

اِختلف الأعلام في معنى الافتراق الموجب لسقوط الخيار على ثلاثة أقوالٍ:

الأوَّل: أنَّه يكفي مجرَّد الافتراق، ولو كان أقلّ من خطة؛ لصدق مُسمّى الافتراق، منهم الشَّيخ الأنصاريّ (رحمه الله)، وجماعة من الأعلام.

الثَّاني: كفاية الخطوة الواحدة، ولا يكفي الأقلّ منها، منهم المصنِّف والشَّهيد الثَّاني (رحمهما الله) في الرَّوضة، والمحقِّق (رحمه الله) في الشَّرائع، وصاحب الجواهر (رحمه الله)، حيث قال: وتحصل -أي المفارقة- ببُعْد أحدهما عن صاحبه ولو بخطوة بلا خلاف يعتدّ به أجده فيه؛ لعدم تحديدها بالشَّرع، فيُكتفى بمسمَّاها المتحقِّق بالخطوة قطعاً...[2]

الثَّالث: هو الصِّدق العرفيّ، فالموجب لسقوط الخيار ما صدق عليه عرفاً الافتراق، ذهب إليه كثير من الأعلام.

أقول: ذكرنا في أكثر من مناسبة أنَّه إذا لم يرد تحديد من الشَّارع يرجع في ذلك إلى العرف في تحديد المفهوم، ولا إشكال في عدم صدق الافتراق عرفاً على ما لو كان بأقلّ من خطوة، بل وكذا لو كان بخطوة أو خطوتَيْن أو ثلاث أو أكثر من ذلك بقليل؛ لعدم الصِّدق العرفيّ.

 

وعليه، فلو لم يرد شيء في الرِّوايات ما يدلّ على كفاية الافتراق ببعض الخطوات لكان المتعيّن في ذلك الرُّجوع إلى العرف في تحديده.

ولكن عندنا بعض الرِّوايات الواردة في المقام لابُدّ من التّوفُّر عندها:

منها: صحيحة الحلبيّ عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: إنَّ أبي (عليه‌السلام) اشترى أرضاً يُقال لها: العريض، فلمَّا استوجبها قام فمضى، فقلتُ له: يا أبه! عجلت القيام، فقال: يا بنيّ! أردتُّ أن يجب البيع

ولكن هذه الصَّحيحة لا دلالة فيها على أنَّه كان خطوةً أو أكثر.

كما أنَّه لا إطلاق فيها؛ لأنَّها حكاية فعل، والفعل مجمل.

ومنها: صحيحة مُحمّد بن مسلم قال: سمعتُ أبا جعفر (عليه‌السلام) يقول: إنِّي ابتعتُ أرضاً فلمَّا استوجبتها قمت فمشيت خطاً، ثمَّ رجعت، فأردت أن يجب البيع

ونحوها: حسنته الأُخرى

وهي، وإن كانت دالَّةً على حكاية فعلٍ لا إطلاق فيه، إلَّا أنَّها دلَّت على أنَّ المشي خُطاً يكفي في حصول الافتراق.

والخُطا: جمع خطوة، وهو يصدق على الثَّلاث وما فوق.

وعليه، فالتّفرقة بمقدار خُطا الَّذي أقلَّه ثلاثة كافٍ في حصول الافتراق، وسقوط الخيار، ولولا هاتان الرِّوايتان لكان لابُدّ من الرُّجوع إلى الصِّدق العرفيّ في حصول الافتراق.

ثم لا يخفى عليك أنَّه لا يعتبر قصد الإسقاط بالافتراق.

وعليه، فلا فرق بين حصوله من الجاهلَيْن أو العالمَيْن أو المختلفَيْن، ولا بين النَّاسيَيْن للبيع أو الخيار وغيرهما.

كما أنَّه لا فرق بين الافتراق له أو لغرض آخر.

وفعل الإمام الباقر (عليه السلام) لا يقتضي حصر الإسقاط به.

واعلم أيضاً أنَّ الافتراق يحصل، ولو بانتقال الواحد، كما هو صريح الصِّحاح المتقدِّمة -حيث حصل الافتراق من جانب الإمام (عليه السلام)- ولا يشترط في حصوله افتراق كلّ منهما عن الآخر.

بقي شيء في المقام، وهو أنَّه هل يشترط في حصول الافتراق أن يكون عن رضا أم يكفي مع الإكراه؟ سيأتي الكلام عنه -إن شاء الله تعالى- عند قول المصنِّف (رحمه الله): ولا عِبْرة بالتّفرُّق كُرهاً مع منعهما من التَّخاير...


[1] الجواهر: ج23، ص9.
[2] الجواهر: ج23، ص13.
logo