46/08/26
بيع السَّلف (35)/ كتاب البيع (348/المعاملات
الموضوع: المعاملات / كتاب البيع (348/ بيع السَّلف (35)
قول الماتن: (ولو أقاما بيّنةً بُني على ترجيح الدَّاخل والخارج، وقيل: يقدّم بيّنة القبض لشهادتها على الإثبات)
إذا كان لكلٍّ من المدَّعي والمنكر بيّنة، فإنَّ بيّنة المدَّعي تُسمّى بيّنة الخارج؛ لأنَّ قوله مخالف للأصل، وبيّنة المنكر تُسمّى بيّنة الدَّاخل؛ لأنَّ قوله موافق للأصل.
والمشهور بين الأعلام هو تقديم بيّنة الخارج، أي المدَّعي لقوله (صلى الله عليه وآله): البيّنة على المدَّعي، واليمين على مَنْ أنكر، فإنَّ وظيفة المنكر هي اليمين لا البيّنة.
إذا عرفت ذلك، فنقول: إنَّ مدَّعي الصِّحّة تكون بيّنته هي بيّنة الدَّاخل؛ لأنَّ قوله موافق للأصل؛ لأنَّ الأصل، كما عرفت هو الصِّحّة، وبيّنة الآخر هي بيّنة الخارج.
وقد ذهب العلَّامة (رحمه الله) في بعض كتبه إلى تقديم بيّنة الدَّاخل -أي مدَّعي الصِّحّة- لقوَّة جانبه بأصالة عدم طروِّ المفسد، ولأنَّ دعواه مثبتة، ودعوى الآخر نافية، وبيّنة الإثبات مقدِّمة.
وفيه: أنَّ مقتضى الإنصاف هو تقديم بيّنة الخارج؛ لأنَّ قوله مخالف للأصل، فعليه البيّنة؛ لأنَّ البيّنة على المدَّعى.
وتكون النَّتيجة: هي بطلان العقد.
وأمَّا القول: بأنَّ مدَّعي الصِّحّة دعواه مثبتة، ودعوى الآخر نافية، وبيّنة الإثبات مقدِّمة.
ففيه: أنَّه لا دليل على تقديم بيّنة الإثبات.
ومن هنا، نسب المصنِّف (رحمه الله) ذلك إلى القيل، حيث قال: (وقيل: يقدّم بيّنة القبض؛ لشهادتها على الإثبات...)، والله العالم بحقائق أحكامه.
الأمر الثَّاني: المشهور بين الأعلام أنَّه لوِ اختلفا في أصل قبض الثَّمن، فالقول قول منكر القبض فيه -وهو البائع- وإن تفرّقا، واستلزم بطلان العقد؛ لأنَّ الأصل عدم القبض، ولا تجري أصالة الصِّحّة هنا؛ لأنَّ أصل الصِّحّة متوقِّف على ثبوت الموضوع ذي الوجهَيْن، ويقع الشَّكّ في صحَّته.
وهكذا الحال لو شكّ في أصل القبض في بيع الصَّرف، فلا تجري أصالة الصِّحّة، وأصالة صحَّة العقد لا تقتضي ثبوت ما كان مقتضى الأصل عدمه من الشَّرائط المتأخِّرة.
وتوضيحه: أنَّ صحَّة كلّ شيءٍ بحسبه، فصحَّة الإيجاب مثلاً عبارة عن كونه واجداً للشَّرائط المعتبرة فيه من كونه بصيغة الماضي والعربيَّة، بناءً على اعتبارهما، ونحو ذلك.
وأما تحقُّق القبول بعده -لو شكَّكنا في حصوله-، فهو ليس ممَّا يعتبر في صحَّة الإيجاب، بل الإيجاب إن وقع واجداً لما يعتبر فيه، فهو صحيح تعقّبه القبول أو لم يتعقّبه، فإنَّ صحَّة الإيجاب عبارة عن أنَّه وقع على ما ينبغي أن يقع عليه، بحيث لو تعقّبه القبول لكان مؤثّراً في النَّقل والانتقال، وليس معنى صحَّة الإيجاب وقوع القبول عقيبه.
وبالجملة، فأصالة الصِّحّة في الجزء لا تثبت وجود الجزء الآخر، ولا صحَّته فصحّة الإيجاب مثلاً تأهليَّة بمعنى أنَّه لو انضمّ إليه القبول لكان العقد مركّباً منهما، ومؤثِّراً، فجريان أصالة الصِّحّة في الإيجاب لا تثبت وجود القول، ولا صحَّته.
ويترتّب على هذا الكلام: أنَّه لو شكّ في صحَّة بيع السَّلم، وبيع الصَّرف، والهبة من جهة الشَّكّ في تحقُّق القبض فلا يمكن إثبات القبض بجريان أصالة الصِّحّة في بيع السَّلم وبيع الصَّرف والهبة؛ لأنَّ صحَّة العقد ليس إلَّا عبارة عن تماميَّة العقد بما هو عقد من حيث اقتضائه للتَّأخير.
وهذا المعنى متحقِّق، ولو مع اليقين بعدم حصول القبض في المجلس في بيع السَّلم والصَّرف، فضلاً عن الشَّكّ في حصول القبض.
وبعبارة أخرى: أنَّ الصِّحّة في العقد تأهليَّة معناها كون العقد، بحيث لو تعقّبه ما يتوقّف عليه الصِّحّة الفعليَّة من القبض، ونحوه، لكان مؤثِّراً فعليّاً في النَّقل والانتقال، لا أنَّ الصِّحّة فيه بمعنى المؤثريَّة الفعليَّة، حتَّى يقال: إنَّ القبض لمَّا لم يكن من إجزاء السَّبب، بل من شرائط نفوذه، فالصِّحّة الفعليَّة فيه حينئذٍ تكون مشكوكةً بلحاظ الشَّكّ في تحقُّق ما هو شرط نفوذه وتأثيره، فلا مانع حينئذٍ من إجراء أصالة الصِّحّة الفعليَّة فيه، والحكم بترتُّب النَّقل والانتقال في بيع السَّلم والصَّرف.
بل يقال: إنَّ القبض، وإن لم يكن من إجزاء السَّبب، إلَّا أنَّه مع ذلك لا تجري فيه أصالة الصِّحّة الفعليَّة مع الشَّكّ في تحقُّق القبض؛ لأنَّ العقد من حين حدوثه مع الشَّكّ في تحقُّق القبض، لا تكون الصِّحّة فيه إلا تأهليَّة لا فعليَّة.