46/05/01
بيع الثِّمار 23// كتاب البيع
الموضوع: كتاب البيع // بيع الثِّمار 23
القول بتقديم قول البائع
القول الثَّاني: ما عن ابن الجنيد أبي علي الأسكافيّ (رحمه الله) من تقديم قول البائع إن كانت في يده لكن للمشتري الخيار بين الأخذ والتَّرك، وقول المشتري إن كانت في يده أو أحدث بها حدثاً؛ إذ هو يد أيضاً.
والوجه في ذلك: أمَّا بالنِّسبة للبائع، فالمشتري يريد انتزاعه من يده، وذو اليد -وهو البائع- ينكر ذلك، فيكون القول قوله ترجيحاً لليد، فإنَّ الخارج هو المدَّعى.
وأمَّا بالنِّسبة للمشتري، فإنَّ العين بيده، والبائع حينئذٍ يدَّعي زيادةً على ما أقرَّ به المشتري، والأصل عدمها، فيكون المشتري منكراً، فالقول قوله مع يمينه.
وأمَّا بالنِّسبة إلى حدث المشتري، فإنَّ الحدث دليل اليد، فيكون القول قوله مطلقاً.
وأُشكل على ذلك: بأنَّ كون السِّلعة في يد البائع مع اعترافه بزوال ملكه عنها بالبيع الَّذي ادَّعاه لا أثر له في تقديم قوله؛ لاعترافه بأنَّ هذه اليد ليست يد ملكٍ، بل هي أمانة في يده.
وأمَّا المشتري، فإنَّه معترف بابتناء يده على يد البائع، وسَبْق ملكه، فكيف تعتبر يده؟!
وأمَّا حدث المشتري، فهو دليل اليد الَّتي قد عرفت حالها.
وسيتَّضح لك -إن شاء الله تعالى- أنَّ القول قول المشتري مع يمينه؛ لأنَّ النِّزاع في قدر الثَّمن، لا في أصل المبيع للانتقال بالبيع، فيكون التَّنازع في الزِّيادة وعدمها، والأصل عدمها، والبائع يدَّعي الزِّيادة، والمشتري منكر لها، فإذا لم يكن ببيَّنةٍ للبائع فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنَّه منكر لها.
القول الثَّالث: حكى المصنِّف (رحمه الله)، والعلَّامة (رحمه الله) في المختلف عن أبي الصَّلاح (رحمه الله) أنَّه قال: (يتحالفان إن تنازعا في المبيع أو الثَّمن قبل التَّقابض، ويفسخ البيع، ولم يتعرَّض لما بعد القبض)، وهذا خلاف ما حكاه عنه في السَّرائر.
وفيه: أنَّ الكلام في النِّزاع في قدر الثَّمن لا في المبيع، ولا في نفس الثَّمن، ولو كان الكلام في المبيع، أو في نفس الثَّمن، فسيأتي -إن شاء الله تعالى- أنَّ القول بالتَّحالف
هو الأقوى؛ لرجوع الدَّعوى إلى دعوتَيْن، فيكون من باب التَّداعي.
وأمَّا ما حكاه المصنِّف (رحمه الله) عن ابن ادريس (رحمه الله) من أنَّه يحلف صاحب اليد، فقدِ اتَّضح حاله ممَّا تقدَّم في القول الثَّاني المحكيّ عن ابن الجنيد (رحمه الله).
القول الرَّابع: أنَّهما يتحالفان مطلقاً، ويبطل البيع، وهذا الَّذي صحَّحه فخر الإسلام (رحمه الله) في الإيضاح وشرح الإرشاد، والمصنِّف (رحمه الله) في قواعده، وفي جامع المقاصد: أنَّه لا يخلو من قوَّة.
واحتمل العلَّامة (رحمه الله) التَّحالف مطلقاً، ونسبه المصنِّف (رحمه الله) هنا -أي في الدُّروس- إلى النُّدرة.
ووجه التَّحالف: هو أنَّ كلّاً منهما مدعٍ، ومنكرٌ؛ وذلك لأنَّ العقد الَّذي يتضمَّن الأقلّ، وتشخَّص به ينكره البائع، والعقد الَّذي تضمَّن الثَّمن الأكثر، وتشخَّص به، ينكره المشتري، فيكون هذا النِّزاع في قوَّة ادِّعاء كلٍّ منهما عقداً ينكره الآخر، فيتحالفان، ويبطل البيع.
وبعبارة أوضح: أنَّ البائع لمَّا لم يكن اعترافه بالملك مطلقاً، بل كان على وجه إن ثبت ثبت به الثَّمن المخصوص كان منكراً لما يدَّعيه المشتري أيضاً، ومدَّعياً عليه ثمناً مخصوصاً اقتضاه عقد آخر، والمشتري ينكره، ويدَّعي عليه ثمناً مخصوصاً اقتضاه عقد آخر، فلا قدر مشتري بينهما محقّق قدِ اتَّفقا عليه كي تتوجَّه الدَّعوى حينئذٍ إلى الزَّائد عليه، وينتفي التَّحالف الَّذي ضابطه تنافي الدَّعويَيْن.
ثمَّ إنَّ الوجه في بطلان البيع مع التَّحالف: هو انتفاء كلٍّ من دعوى أحدهما بيمين صاحبه.
ويرد عليه: أنَّه لا وجه للتَّحالف؛ لاتِّفاقهما على عقد واحد، واتِّفاقهما على انتقال المبيع إلى المشتري، وثبوت الثَّمن الأقلّ في ذمَّة المشتري، وإنَّما يختلفان في الزَّائد فالبائع يدَّعي الزِّيادة والمشتري ينكرها، فيحلف المشتري على عدم الزِّيادة الَّتي يدّعيها البائع، وبذلك تقطع الدَّعوى، ويرتفع النِّزاع والخصومة، والله العالم.
القول الخامس: أنَّه يقدَّم قول المشتري مطلقاً؛ لأنَّه منكر، وفي مفتاح الكرامة: (قال في المسالك: هذا لم یذکره أحد من أصحابنا في کتب الخلاف، وذکره العلَّامة في التَّذکرة عن بعض العامّة، انتهى، وهو كذلك؛ ولذلك ذكره في الدروس احتمالاً للفاضل، ونسبه إلى الندرة، وفي التذكرة والروضة أنَّ فيه قوَّة ، وفي الميسية: أنَّه حسن، وفي المسالك: أنَّه أقوى الأقوال، وفي مجمع البرهان: أنَّه الظاهر الموافق للقوانين...)[1] ، إلى آخر ما ذكره صاحب مفتاح الكرامة (رحمه الله).
وفي الحدائق: (أنَّه الأوفق بالقواعد الشَّرعيّة، إلَّا أنَّه لا معدل عن النَّصّ المذكور)[2]
أقول: هذا هو القول الصَّحيح؛ لأنَّ النَّصّ المذكور ضعيف، كما عرفت، كما لا وجه للتَّحالف، كما تقدَّم؛ لأنَّهما متَّفقان على عقد واحد، وعلى انتقال المبيع إلى المشتري، ومتَّفقان أيضاً على ثبوت الثَّمن الأقلّ في ذمَّة المشتري، وإنَّما يختلفان في الزِّيادة فالبائع يدَّعيها والمشتري ينكرها، فيحلف على عدمها، وبذلك تقطع الدَّعوى، ويرتفع النِّزاع والخصومة، والله العالم بحقائق أحكامه.