< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

39/10/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: المعاملات/ المكاسب المحرَّمة(14)

قوله: (والنياحة بالباطل)

من جملة أفراد ما حرم لعينه، والمعبَّر عنه بالمحرَّم في نفسِه النَّوْح بالباطل.

أقول: اِختلف الأعلام في حكم النياحة على أقوال:

الأوَّل: الحرمة مطلقاً، حكى ذلك المصنِّف رحمه الله في الذِّكرى في مبحث الأموات عن الشَّيخ في المبسوط، وابن حمزة رحمه الله، مع دعوى الأوَّل الإجماع على الحرمة.

ولكنَّه قال بعد ذلك: (والظاهر أنَّهما أرادا النَّوح بالباطل، أوِ المشتمل على المحرَّم، كما قيّده في النَّهاية...).

الثاني: القول بجواز النياحة بلا كراهة إذا كانت النائحة تعتمد الصِّدق؛ ولعلّ المشهور على ذلك.

الثالث: القول بالكراهة مطلقاً؛ وهو المحكي عن مفتاح الكرامة.

الرابع: هو القول بالتفصيل بين النَّوحِ بالحقِّ فيجوز، وبين النَّوحِ بالباطلِ فيحرم.

قال العلَّامة رحمه الله في المنتهى: (النياحة بالباطل محرَّمة إجماعاً، أمَّا بالحقِّ فجائزة إجماعاً).

والإنصاف: أنَّ الرِّوايات الواردة في المقام على طوائف شتَّى:

الأوَّل: ما دلَّ على الجواز مطلقاً:

منها: صحيحة يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله عليه السَّلام (قال: قال لي أبي: يا جعفر! أَوْقِف لي من مالي كذا وكذا لنوادب تندبني عشر سنين بمِنى، أيام مِنى)(1).

قال المصنِّف رحمه الله في الذِّكرى في مبحث الأموات -بعد ذكر هذه الصَّحيحة:- (والمراد بذلك تنبيه النَّاس على فضائله وإظهارها ليُقتدى بها، ويُعلم ما كان عليه أهل هذا البيت، لتُقْتفى آثاراهم، لِزوال التقيَّة بالموت).

ومنها: صحيحة أبي حمزة الثُّمالي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السَّلام (قَالَ: مَاتَ (وَلِيدُ بْنُ خ ل) الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله): إِنَّ آلَ الْمُغِيرَةِ قَدْ أَقَامُوا مَنَاحَةً، فَأَذْهَبُ إِلَيْهِمْ؟ فَأَذِنَ لَهَا -إلى أن قال:- فَنَدَبَتِ ابْنَ عَمِّهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَقَالَتْ:

أَنْعَى الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ* أَبَا الْوَلِيدِ فَتَى الْعَشِيرَة

حَامِي الْحَقِيقَةِ مَاجِدٌ* يَسْمُو إِلى طَلَبِ الْوَتِيرَة

قَدْ كَانَ غَيْثاً فِي السِّنِينَ* وَجَعْفَراً غَدَقاً وَمِيرَة

فَمَا عَابَ ذلِكَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ، وَلَا قَالَ‌ شَيْئاً)(2).

والجعفر: النهر الواسع والملآن؛ والغَدَق: الماء الكثير؛ والمِيرة: الطَّعام؛ والنَّدب: أن تذكر النائحة الميت بأحسن أوصافه وأفعاله والبكاء عليه، والاسم النُّدبة -بالضمّ-.

وهذه الرِّواية ذكرناها سابقاً في مبحث الأمواب، وقلنا: إنها ضعيفة، لأنَّ مالك بن عطيَّة الواقع في السَّند لم يحرز كونه الأحمسي البجليّ الثِّقة، فيُحتمل كونه الآخر المجهول، مع عدم إحراز الاتحاد.

لكن تبين لنا فيما بعد أنَّه متِّحد، وعليه فالرِّواية صحيحة.

ومنها: رواية الحسين بن زيد (يزيد) (قال: ماتت ابنة لأبي عبد الله عليه السَّلام، فناح عليها سنةً، ثمَّ مات له ولد آخر فناح عليه سنةً، ثمَّ مات إسماعيل فجزع عليه جزعاً شديداً، فقطع النَّوح، قال: فقيل لأبي عبد الله عليه السَّلام: أيُناح في دارك؟! فقال: إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال -لمَّا مات حمزة- لكنْ حمزة لا بواكي له)(3).

أقول: إن كان الراوي هو الحسين بن زيد فتكون الرِّواية ضعيفة، لأنَّه مجهول الحال، وإن كان الحسين بن يزيد النَّوفلي فهي معتبرة، لأنَّه من المعاريف الكاشف ذلك عن وثاقته؛ وبما أنَّه لم يعلم أيّهما هو فتكون الرِّواية ضعيفة.

__________

(1) الوسائل باب17 من أبواب ما يكتسب به ح1.

(2) الوسائل باب17 من أبواب ما يكتسب به ح2.

(3) الوسائل باب17 من أبواب الدفن ح2.

 

ومنها: مرسلة الصَّدوق رحمه الله (قال: لمَّا انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله) من وقعة أُحُد إلى المدينة سمع من كلِّ دارٍ قُتِل من أهلها قتيل نوحاً وبكاءً، ولم يسمع من دار حمزة عمّه، فقال (صلى الله عليه وآله): لكن حمزة لا بواكي عليه، فآلى أهل المدينة أن لا ينوحوا على ميِّت، ولا يبكوه حتَّى يبدؤوا بحمزة، فينوحوا عليه ويبكوه، فهم إلى اليوم على ذلك)(1)، وهي ضعيفة بالإرسال.

ومنها: ما رُوي من أنَّ فاطمة (عليها السَّلام) فعلته في قولها:

(يَا أَبَتَاهُ مِنْ رَبِّهِ مَا أَدْنَاهُ* يَا أَبَتَاهُ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ

يَا أَبَتَاهُ إِلَى جِبْرِيلَ أَنْعَاهُ* يَا أَبَتَاهُ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ)(2)، وهي ضعيفة ، إذ لم ترد من طرقنا.

 

ورُوي أيضاً عن عليٍّ عليه السَّلام (أَنَّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَخَذَتْ قَبْضَةً مِنْ تُرَابِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَضَعَتْهَا عَلَى عَيْنِهَا، ثُمَّ قَالَتْ:

مَاذَا عَلَى مُشْتَمِّ تُرْبَةِ أَحْمَدَ* أَنْ لَا يَشَمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا

صُبَّتْ عَلَيَّ مُصِيبَةٌ لَوْ أَنَّهَا* صُبَّتْ عَلَى الْأَيَّامِ عُدْنَ لَيَالِيَا)(3)، وهي ضعيفة أيضاً، لأنَّها عاميَّة لم ترد من طرقنا.

ومنها: موثَّقة حَنَان بن سَدير (قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ مَعَنَا فِي الْحَيِّ، وَلَهَا جَارِيَةٌ نَائِحَةٌ، فَجَاءَتْ إِلى أَبِي، فَقَالَتْ: يَا عَمِّ! أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مَعِيشَتِي مِنَ اللهِ، ثُمَّ مِنْ هذِهِ الْجَارِيَةِ النَّائِحَةِ، فأَحْبّ أَنْ تَسْأَلَ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السَّلام عَنْ ذلِكَ، فَإِنْ كَانَ حَلَالاً، وَإِلاَّ بِعْتُهَا، وَأَكَلْتُ مِنْ ثَمَنِهَا، حَتّى‌ يَأْتِيَ اللهُ بِالْفَرَجِ، فَقَالَ لَهَا أَبِي: وَاللهِ! إِنِّي لَأُعْظِمُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السَّلام أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْ هذِهِ الْمَسْأَلَةِ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَيْهِ، أَخْبَرْتُهُ أَنَا بِذلِكَ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ عليه السَّلام: أَتُشَارِطُ؟ قُلْتُ: وَاللهِ! مَا أَدْرِي تُشَارِطُ، أَمْ لَا، فَقَالَ: قُلْ لَهَا: لَا تُشَارِطُ، وَتَقْبَلُ مَا أُعْطِيَتْ)(4).

ويستكشف من جواز أخذِ الأجرةِ إباحةُ النياحة، وإلَّا فلو كانت محرَّمةً لَمَا جاز أخذ الأجرة على ذلك.

ومنها: صحيحة أبي بصير (قال: قال أبو عبد الله عليه السَّلام: لا بأس بأجرة النائحة التي تنوح على الميت)(5)، ودلالتها كسابقتها.

الطائفة الثانية: ما دلَّ على النَّهي مطلقاً:

منها: رواية جابر عن أبي جعفر عليه السَّلام (قال: قلتُ له: ما الجزع؟ قال: أشدّ الجزع الصُّراخ بالوَيْل والعَوِيل، ولطم الوجه والصُّدور، وجزّ الشَّعر من النَّواصي، ومن أقام النوَّاحة فقد ترك الصَّبر، وأخذ في غير طريقه...)(6)، وهي ضعيفة بسهل بن زياد، وبأبي جميلة، كما أنَّها ضعيفة بالطَّريق الآخر بأبي جميلة.

ومنها: مرسلة الصَّدوق رحمه الله (قال: من ألفاظ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الموجزة التي لم يسبق إليها النياحة من عمل الجاهلية)(7)، وهي ضعيفة بالإرسال.

ومنها: رواية الحسين بن زيد عن الصَّادق عليه السَّلام عن آبائه عليه السَّلام -في حديث المناهي-: (قال: ونهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الرنَّة عند المصيبة، ونهى عن النياحة والاستماع إليها)(8)، والرنَّة: هي الصَّيحة الشَّديدة، أو الصَّوت الحزين عند البكاء، أو الغناء.

ثمَّ إنَّه قد ذكرنا في أكثر من مناسبة أنَّ حديث المناهي ضعيفة جدًّا بجهالة الحسين بن زيد، وشعيب بن واحد؛ كما أنَّ إسناد الصَّدوق رحمه الله إلى شعيب فيه حمزة بن محمَّد العلوي، وهو مهمل، وعبد العزيز بن محمَّد بن عيسى الأبهري، وهو مجهول.

ومنها: رواية عَمْرو بن أبي المقدام (قال: سمعتُ أبا الحسن و(أو) أبا جعفر عليه السَّلام يقول في قول الله عزَّوجل {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}، قال: إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لفاطمة (عليها السَّلام): إذا أنا متُّ! فلا تخمشي عليَّ وجهاً، ولا تُرْخي عليَّ شَعْراً، ولا تنادي بالوَيْل، ولا تُقِيمي عليَّ نائحةً، قال: ثمَّ قال: هذا المعروف الذي قال الله عزَّوجل في كتابه {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ})(9)، وهي ضعيفة أيضاً بسلمة بن الخطاب، وعدم وثاقة الحسن بن راشد وعَمْرو بن ابي المقدام، كما أنَّ عليّ بن إسماعيل الوارد في السَّند مشترك.

__________

(1) الوسائل باب88 من أبواب الدَّفن ح3.

(2) صحيح البخاري: ج6، ص18؛ سنن ابن ماجة: 522، ح1630.

(3) المغني لابن قدامة: ج2، ص411.

(4) الوسائل باب17 من أبواب ما يكتسب به ح30.

(5) الوسائل باب17 من أبواب ما يكتسب به ح7.

(6)و(7) الوسائل باب83 من أبواب الدَّفن ح1و2.

(8) الوسائل باب83 من أبواب الدَّفن ح3.

(9) الوسائل باب83 من أبواب الدَّفن ح5.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo