< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

39/10/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: المكاسب المحرَّمة(12)

قوله: (إلَّا غناء العِرْس إذا لم يدخل الرِّجال على المرأة، ولم يتكلّم بالباطل، ولم تلعب بالملاهي؛ وكَرِهه القاضي، وحرَّمه ابن إدريس والفاضل في التذكرة؛ والإباحة أصحّ طريقاً وأخصّ دلالةً)

هذا هو الأمر الثالث من الأمور المتقدِّمة، وهو المستثنيات من حرمة الغناء، والمعروف بين الأعلام استثناء أربعة أمور من حرمة الغناء:

الأوَّل: الغناء في الأعراس بالشُّروط الآتية.

الثاني: الحُدَاء لِسَوْق الإِبل.

الثالث: رثاءُ الحسين "عليه السلام".

الرَّابع: الغناء في قراءة القرآن الكريم.

وهذا خلافاً لجماعة من الأعلام، حيث لم يستثنوا شيئاً، منهم ابن إدريس "رحمه الله" والعلَّامة "رحمه الله" في التذكرة وولده فخر المحقّقين "رحمه الله"، ترجيحاً لإطلاق النَّهي عن الغناء وعموماته، بل قيل: إنَّ تحريم الغناء كتحريم الزِّنا، أخبارُه متواترة وأدلَّتُه متكاثرة.

وأمَّا المصنِّف "رحمه الله" فقدِ اقتصر في الاستثناء على المغنية التي تزفّ العرائس، ولم يستثنِ سواها، وكذا العلَّامة "رحمه الله" في المنتهى، وصاحب الحدائق "رحمه الله"، بل جماعة كثيرة، وهو الإنصاف، كما سيتضح لك -إن شاء الله تعالى-.

أقول: أمَّا جواز الغناء في الأعراس، فقد يدلّ عليه جملة من الرِّوايات:

منها: صحيحة أبي بصير (قال: قال أبو عبد الله "عليه السلام": أجرُ المغنية التي تزفُّ العرائس ليس به بأس، وليست بالتي يدخل عليها الرِّجال)(1).

ومنها: روايته الثانية عن أبي عبد بالله "عليه السلام" (قال: المغنية التي تزفُّ العرائسَ لا بأس بكَسْبها)(2)، ولكنَّها ضعيفة بجهالة حكم الحنَّاط (الخيَّاط)؛ ووجوده في كامل الزِّيارات لا ينفع، لِعدم كونه من مشايخه المباشرين.

ومنها: روايته الثالثة (قال: سألتُ أبا عبد الله "عليه السلام" عن كَسْب المغنيات، فقال: التي يدخل عليها الرِّجال حرام، والتي تُدعى إلى الأعراس ليس به بأس...)(3)، وهي ضعيفة أيضاً بعليّ بن أبي حمزة.

وأمَّا الإشكال على استثناء المغنية في زفِّ العرائس: بأنَّ الرِّوايات ضعيفة السَّند، ففي غير محلِّه، لأنَّ الرِّواية الأُولى صحيحة السَّند.

كما أنَّ الإشكال في الدَّلالة غير وارد، حيث أُشكِل بأنَّ غايتها نفي البأس عن الأجرة، وهو غير ملازم لنفي الحرمة.

وتوضيحه: أنَّ المستفاد من هذه الصَّحيحة إباحة أجرة المغنية في الأعراس، وهي لا تقتضي جواز غنائها فيه، لِعدم التلازم.

وفيه: أنَّ هذا الإشكال غير وارد أيضاً، لأنَّ التلازم بين إباحة الأجرة عليه، وبين إباحته، ثابت بلا إشكال.

نعم، اشترط جماعة من الأعلام، بل المشهور، في جواز غنائها في الأعراس: عدم دخول الرِّجال عليها، وعدم تكلّمها بالباطل، وعدم اللعب بالملاهي، كضَرْب الأَوْتار ونحوها، وإلَّا كان حراماً.

لكن قد يناقش بأنَّ ذلك كلَّه محرّمات خارجة عنه، لا مدخليَّة لهذه الأمور فيه، فإنَّ اللعب بالملاهي شيء أجنبيّ عن الغناء، وهو محرَّم آخر.

وكذا الكلام بالباطل، لِما عرفت أنَّ الغناء من كيفيَّات الأصوات، والكلام ليس هو إلَّا اللفظ الذي هو عبارة عن الصَّوت.

________

(1)و(2)و(3) الوسائل باب15 من أبواب ما يكتسب به ح3و2و1.

 

نعم، مع فرض إبراز الغناء بكلام باطل يحرم حينئذٍ لِكونها في الخارج فرداً واحداً، أي هما متِّحدان خارجاً، وكذا دخول الأجانب عليها لا ربط له بحقيقة الغناء.

نعم، ظاهر صحيحة أبي بصر المتقدِّمة هو ربط جواز الأجرة -المستفاد منه الحلية بالتلازم- بعدم دخول الرِّجال عليها، فيُعمل حينئذٍ على مقتضى هذا الظَّاهر، والله العالم.

ثمَّ إنَّ الوارد في النصّ هو زفُّ العرائس الذي هو عبارة عن إهداء العروس إلى زوجها، المعبَّر عنه في الاصطلاح في هذه الأزمنة بـ (ليلة الدُّخلة)، فلا يتعدّى إلى المغني، ولا إلى غير الزِّفاف، كما لو كان لمجرد العقد على الزَّوجة بدون الزّفاف، كما هو الشَّايع في هذه الأيام، حيث يُؤتى بالمغنية فتغني للنساء بعنوان ما يسمّونه في الاصطلاح الدَّارج بالمولد، فإنَّ هذا خارج عن مورد الصَّحيحة.

وأيضاً لا يُتعدَّى إلى غير الأعراس، كالختان، ونحوه؛ كلّ ذلك اقتصاراً على مورد النصّ.

وأمَّا المورد الثاني الذي استثناه الأعلام: هو جواز الحُدَاء -على وزن دُعَاء- لِسَوْق الإِبل.

ولكنَّ الإنصاف: أنَّه لا دليل على هذا الاستثناء، سوى النَّبويّ المرسل (أنَّه (صلى الله عليه وآله) قال لعبد الله بن رواحة: حرِّك بالنوق، فاندفع يرتجز، وكان عبد الله جيد الحُدَاء، وكان مع الرِّجال؛ وكان أَنْجَشَةُ مع النِّساء، فلمَّا سمعه تبعه، فقال (صلى الله عليه وآله) لأَنْجَشَة: رويدك! رِفقاً بالقوارير)(1)، أي النِّساء.

وفيه أوَّلاً: أنَّ هذه الرِّواية عاميَّة ضعيفة جدًّا، لم ترد من طرقنا.

وثانياً: أنَّه لم يحرز أنَّ ذلك منه على صِفة الغناء.

أقول: قد يستدلّ للاستثناء بمعتبرة السَّكوني عن جعفر بن محمَّد عن آبائه عليهم السلام (قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): زاد المسافر الحداء والشّعر، ما كان منه ليس فيه جفاء -وفي نسخة ليس فيه خناء-).

قال صاحب الوسائل رحمه الله: (تسميته زاداً من حيث معونته على السَّفر، كالزَّاد، فهو مجاز، والخنا من معانيه الطَّرب...).

وفي الجواهر: (بل ربّما ادُّعي أنَّ الحُدَاء قسيم للغناء بشهادة العرف، وحينئذٍ يكون خارجاً عن الموضوع، لا عن الحكم، ولا بأس به)، وهو جيِّد.

وأمَّا المورد الثالث الذي استُثني -وهو رثاء الحسين "عليه السلام"- قال السُّبزواري "رحمه الله" في الكفاية: (وهو غير بعيد...).

أقول: بناءً على ما ذكرناه سابقاً، فإنَّ رثاء الحسين "عليه السلام" يكون خارجاً عن الغناء موضوعاً، لأنَّ الغناء هو الصَّوت المشتمل على المدّ والترجيع المتّخذ للهو.

وأمَّا رثاء الحسين "عليه السلام"، وإن كان فيه المدّ والترجيع، إلَّا أنَّه لم يُتّخذ للهو، كما هو واضح.

ويؤكِّده: أنَّ الرِّثاء داخل في النَّوح، وقد ذكرنا سابقاً أنَّ النَّوح مقابل للغناء، وقسيم له، وسنذكر -إن شاء الله تعالى- أنَّ النَّوح بالحقّ جائز.

وإنْ أبيت، إلَّا أن يكون الرَّثاء داخلاً في الغناء، فلا دليل حينئذٍ على استثنائه من الحرمة، إلَّا ما قيل: من كونِ البكاء على الحسين "عليه السلام" مطلوباً ومرغوباً فيه، وفيه أَجْر عظيم، والغناء مُعِين على ذلك.

ومن قيامِ السِّيرة على رثاء الحسين "عليه السلام" في بلاد المسلمين قديماً وحديثاً، مع عدم الاعتراض على ذلك.

ومن عمومات أدلَّة البُكاء والرّثاء.

أقول: أمَّا قيام السِّيرة في بلاد المسلمين على ذلك قديماً وحديثاً، وإن كان أمراً مسلَّماً، إلَّا أنَّه لا نسلم أنَّ ذلك من باب كونه غناءً، بل من باب النياحة الجائزة المقابلة للغناء.

وأمَّا القول: بأنَّ الغناء مُعِين على البكاء فهو غريب، لأنَّ الغناء ما يكون فيه مدّ وترجيع على سبيل اللهو، فكيف يكون مُعِيناً على البكاء؟!

ولو فرضنا أنَّه مُعِين عليه إلَّا أنَّه يدخل تحت عنوان: "لا يطاع الله من حيث يعصى".

_________

(1) سنن البيهقي ج1، ص227.

 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo