< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

39/10/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: المكاسب المحرَّمة(4)*

 

وقد تعرَّض لطلب الرِّزق مباشرةً الإمام الباقر (عليه السلام) أيضاً، كما في حسنة عبد الله بن الحجّاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: قَالَ إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ كَانَ يَقُولُ: مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) يَدَعُ خَلَفاً أَفْضَلَ مِنْه حَتَّى رَأَيْتُ ابْنَه مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ (عليه السلام)، فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِظَه فَوَعَظَنِي، فَقَالَ لَه أَصْحَابُه: بِأَيِّ شَيْءٍ وَعَظَكَ، فقَالَ خَرَجْتُ إِلَى بَعْضِ نَوَاحِي الْمَدِينَةِ فِي سَاعَةٍ حَارَّةٍ، فَلَقانِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ (عليه السلام)، وكَانَ رَجُلاً بَادِناً ثَقِيلاً، وهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى غُلَامَيْنِ أَسْوَدَيْنِ، أَوْ مَوْلَيَيْنِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: سُبْحَانَ اللَّه! شَيْخٌ مِنْ أَشْيَاخِ قُرَيْشٍ فِي هَذِه السَّاعَةِ عَلَى هَذِه الْحَالِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا، أَمَا لأَعِظَنَّه، فَدَنَوْتُ مِنْه فَسَلَّمْتُ عَلَيْه، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ بِنَهْرٍ (ببهر خ ل) وهُوَ يَتَصَابُّ عَرَقاً، فَقُلْتُ أَصْلَحَكَ اللَّه! شَيْخٌ مِنْ أَشْيَاخِ قُرَيْشٍ فِي هَذِه السَّاعَةِ، عَلَى هَذِه الْحَالِ، فِي طَلَبِ الدُّنْيَا، أرَأَيْتَ لَوْ جَاءَ أَجَلُكَ وأَنْتَ عَلَى هَذِه الْحَالِ (مَا كُنْتَ تَصْنَعُ خ ل)؟، فَقَالَ: لَوْ جَاءَنِي الْمَوْتُ وأَنَا عَلَى هَذِه الْحَالِ جَاءَنِي وأَنَا فِي طَاعَةٍ مِنْ طَاعَةِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ، أَكُفُّ بِهَا نَفْسِي وعِيَالِي عَنْكَ وعَنِ النَّاسِ، وإِنَّمَا كُنْتُ أَخَافُ أَنْ لَوْ جَاءَنِي الْمَوْتُ وأَنَا عَلَى مَعْصِيَةٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّه، فَقُلْتُ: صَدَقْتَ يَرْحَمُكَ اللَّه! أَرَدْتُ أَنْ أَعِظَكَ فَوَعَظْتَنِي)(1).

وقوله: (موليين)، يطلق المولى كثيراً على غير العربي، وقد يطلق على التّابع.

وقوله: (بنهر)، أي زجر، وإنَّما زجره لما استفرس منه التحذلق والتكايس بالنسبة إليه، ولأنَّ الرّجل كان من العامَّة ومن الصُّوفيين، وممَّن يزعم بنفسه أنَّه من أهل العلم، ومع أنَّه ليس كذلك.

وعلى رواية (ببهر) -بالباء الموحدة المضمومة-: فمعناه تتابع النَّفَس، وهو يعتري الإنسان عند السَّعي الشَّديد والعَدْو.

قوله: (ورُوي عن النَّبيّ (صلى الله عليه وآله): أنَّه مَنْ طلب العِلم تكفّل الله برزقه، وفُسِّر بأن يعطف عليه قلوب أهل الصَّلاح)

لم يرد ذلك من طرقنا، بل هي مرويَّة في كتب العامَّة(3).

وعليه، فهي نبويَّة ضعيفة.

ثمَّ اعلم أنَّ الأخبار الكثيرة دلَّت على طلب العلم، ووجوب التفقّه بالدِّين، وأنَّه فريضة على كل مسلم، رغم أنَّ الأخبار تواترت بالأمر بطلب الرِّزق وذمّ تاركه.

ومن المعلوم أنَّ الأعلام اليوم وقبل اليوم، وكذا طلبة العلم، كلّهم مشغولون بالدّرس والتدريس، ونشر أحكام الشّريعة، والتصنيف والتأليف من غير اشتغال بطلب الرِّزق، مع أنَّك عرفت أنَّ الأخبار الكثيرة ذمَّت التَّارك لطلب الرِّزق حتَّى ورد اللعن بذلك.

________

    1. الوسائل باب4 من أبواب مقدمات التجارة ح1.

    2. من لا يحضره الفقيه: ج3 ص101، ح47، باب المعايش والمكاسب والفوائد والصناعات.

    3. كنز العمال: ج10 ص139.

 

ووجه الجمع بين تلك الأخبار، وإن أمكن ببعض الوجوه، إلَّا أنَّ الأظهر ما ذكره جملة من الأعلام، وهو تخصيص الأخبار الدَّالة على وجوب طلب الرِّزق بهذه الأخبار الدَّالة على وجوب طلب العلم.

بأن يقال: بوجوب السعي للمعاش ، وطلب الرزق على غير طالب العلم المشتغل بتحصيله أو تعليمه وإفاته.

وبهذا الوجه صرح الشَّهيد الثاني (رحمه الله) في كتاب منية المريد في آداب المفيد والمستفيد، حيث قال في جملة شرائط تحصيل العلم: (وأن يتوكَّل عليه ويفوض أمره إليه، ولا يعتمد على الأسباب فيوكَل إليها وتكون

وبالاً عليه، ولا على أحد من خلق الله تعالى، بل يلقي مقاليد أمره إلى الله تعالى في

أمره ورزقه وغيرهما، يظهر عليه حينئذٍ من نفحات قدسه، ولحظات أُنْسه ما يقوم به

أوده(1)، ويحصل مطلبه، ويصلح به أمره. وقد ورد في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله): أنَّ الله تعالى قد تكفَّل لطالب العلم برزقه خاصَّة عما ضمنه لغيره؛ بمعنى أنَّ غيره يحتاج إلى السَّعي على الرِّزق حتَّى يحصل غالباً، وطالب العلم لا يكلِّفه بذلك، بل بالطَّلب، وكفاه مؤونة الرِّزق إن أحسن النيَّة، وأخلص العزيمة.

وعندي في ذلك من الوقائع والدَّقائق ما لو جمعته بلغ ما يعلمه الله من حُسْن صنع

الله تعالى بي، وجميل معونته، منذ اشتغلت بالعلم، وهو مبادئ عشر الثلاثين وتسع مائة إلى يومي هذا، وهو منتصف شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وتسع مائة.

وبالجملة، فليس الخبر كالعيان.

وروى شيخنا المتقدِّم محمَّد بن يعقوب الكليني -قدَّس الله روحه- بإسناده إلى

الحسين بن علوان: قال: كنَّا في مجلس نطلب فيه العلم، وقد نفدت نفقتي في بعض

الأسفار، فقال لي بعض أصحابنا: من تؤمِّل لِما قد نزل بك؟ فقلتُ: فلاناً، فقال:

إذن، والله! لا تسعف حاجتك، ولا يبلغك أملك، ولا تنجح طلبتك، قلت:

وما علمك رحمك الله ؟ قال: إنَّ أبا عبد الله -عليه السَّلام- حدثني أنَّه قرأ في بعض

الكتب: أنَّ الله -تبارك وتعالى- يقول: وعزتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي! لأقطعن أمل كلّ مؤمِّل غيري باليأس، ولأكسونَّه ثوب المذلَّة عند النَّاس، ولأنحينه من قربي، ولأبعدنه من وَصْلي، أيؤمِّل غيري في الشَّدائد، والشَّدائد بيدي، ويرجو غيري، ويقرع بالفكر باب غيري؟! وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقه، وبابي مفتوح لمن دعاني.

فمن الذي أملني لنوائبه فقطعته دونها؟! ومن الذي رجاني لعظيمة فقطعت رجاءه منّي؟! جعلت آمال عبادي عندي محفوظة، فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي ممَّن لا يملّ من تسبيحي، وأمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني

وبين عبادي، فلم يثقوا بقولي!

ألم يعلم من طرَقَته نائبة من نوائبي أنَّه لا يملك كشفها أحد غيري، إلَّا مِن بعد إذني، فمالي أراه لاهياً عني؟! أعطيته بجودي

ما لم يسألني، ثم انتزعته عنه، فلم يسألني ردّه، وسأل غيري!

أفيراني أبدأ بالعطاء قبل المسألة، ثمَّ أسأل فلا أجيب سائلي؟! أبخيل أنا فيبخلني عبدي؟!

أوليس الجود والكرم لي؟! أوليس العفو والرَّحمة بيدي؟ أوليس أنا محلّ الآمال؟! فمن يقطعها دوني؟! أفلا يخشى المؤمِّلون أن يؤمِّلوا غيري؟!

فلو أن أهل سماواتي، وأهل أرضي أملوا جميعاً، ثم أعطيت كلّ واحد منهم مثل ما أمل الجميع ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرَّة، وكيف ينقص ملك أنا قيِّمه؟! فيا بُؤساً

للقانطين من رحمتي، ويا بُؤساً لِمَنْ عصاني ولم يراقبني(2).

ورواه الشيخ المبرور(3) رحمة الله عليه بسند آخر عن سعيد بن عبد الرحمن، وفي

آخره: فقلتُ يا ابن رسول الله! أملِ عليَّ، فأملاه عليَّ، فقلت: لا، والله ما أسأله حاجة

بعدها(4).

أقول: ناهيك بهذا الكلام الجليل، السَّاطع نورُه من مطالع النبوَّة، على أُفُق

الإمامة، من الجانب القُدُسي، حاثّاً على التوكُّل على الله تعالى، وتفويض الأمر إليه،

والاعتماد في جميع المهمَّات عليه، فما عليه مزيد من جوامع الكلام في هذا المقام)، انتهى كلام الشهيد الثاني (رحمه الله) في منية المريد -قدِّس سرُّه- الله روحه الزكية.

أقول: ما ذكره الشَّهيد (رحمه الله) في غاية الصَّحّة المتانة.

نعم، السَّند الأوَّل لحديث الكافي ضعيف بعدم وثاقة كلٍّ من مُعَلَّى بن محمَّد والحسين راشد، والسَّند الثاني ضعيف بالإرسال، وبعدم وثاقة عباد بن يعقوب الرَّواجني.

__________

(1) أقام أَوَدَه: أزال اعْوِجاجَه، أصلح أمرَه، قوَّمه.

(2) الكافي: ج2، باب التفويض إلى الله والتوكيل عليه ح7، ص66.

(3) يعني الشيخ الكليني (قدِّس سره).

(4) الكافي: ج2، باب التفويض إلى الله والتوكيل عليه ح8، ص66.

 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo