< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

39/06/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: القواطع(١٣)

الأمر الثاني: رواية النعمان بن عبد السّلام عن أبي حنيفة قال: «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن البكاء في الصَّلاة، أيقطع الصَّلاة؟ فقال: إن بكى لذكر جنة أو نار فذلك هو أفضل الأعمال في الصلاة، وإن كان ذكر ميتا له فصلاته فاسدة»([1] ).

ولعله إلى ذلك أشار الشيخ الصّدوق (رحمه الله) في الفقيه بقوله: «روي أن البكاء على الميت يقطع الصلاة، والبكاء لذكر الجنة والنار من أفضل الأعمال في الصلاة»([2]

وفيه: أنّ ما أشار إليه الشيخ الصّدوق (رحمه الله) -سواءٌ أكان رواية مستقلة أم لا- لا يصح الاعتماد عليهما، لأنّ الرّواية المسندة ضعيفة بأبي حنيفة، وعدم وثاقة النعمان بن عبد السّلام، وعدم وثاقة القاسم بن محمد، وجهالة سليمان بن داوود حيث أنه مشترك بين عدة أشخاص فيهم الضعيف والموثّق ولا مميِّز في البين.

وأما رواية الصّدوق (رحمه الله) فإن لم تكن نفس الرواية السابقة فهي رواية ضعيفة بالإرسال.

لا يقال: إن عمل المشهور جابرٌ لرواية أبي حنيفة.

فإنه يقال: إنّ الكبرى ممنوعة، حيث ذكرنا في أكثر من مناسبة أنّ عمل المشهور غير جابرٍ لضعف السّند، إلا إذا أفاد الاطمئنان أحياناً.

هذا مضافاً إلى أنّ الصغرى غير ثابتة، إذْ لم يثبت عمل مشهور المتقدمين بها، بل يظهر من عبارة صاحب الحدائق (رحمه الله) أنّ هذه الشهرة من المتأخرين، حيث قال: «وهذا الحكم ذكره الشّيخ، ومن تأخّر عنه ...»([3] ).

والخلاصة: أنه لم يثبت بدليل قوي مبطليّة البكاء للصّلاة، إلا أنّ الأحوط وجوباً الاجتناب.

وقد توقف في الحكم بالبطلان المحقق الأردبيلي (رحمه الله)، وصاحب المدارك (رحمه الله).

ثمّ إنه لو سلّمنا أنه مبطِلٌ للصَّلاة إلا أنّ ظاهر الأعلام اختصاصه بغير حال السّهو، وذلك لحديث: «لا تعاد الصلاة».

وأما لو كان البكاء اضطراراً، بحيث غلب عليه قهراً، فالمعروف بينهم أنه مبطلٌ أيضاً، لإطلاق الرّواية السّابقة من دون مقيّد، لأنّ حديث رفع الاضطرار لا يثبت الصحّة، كما تقدم في القهقهة، ونحوها.

وعليه، فلا يكون مقيِّداً للرواية السابقة.

ثمّ إنه وقع الكلام بين الأعلام أيضاً -بناءً على مبطليّة البكاء- في أنّ المبطِل للصّلاة هو البكاء المشتمل على الصوت فقط، أم يشمل مجرد خروج الدمع؟

قال صاحب المدارك (رحمه الله): «وينبغي أن يراد بالبكاء ما كان فيه انتحاب وصوت، لا مجرد خروج الدمع، اقتصاراً على المتيقن»([4] ).

وقال الشّهيد الثاني (رحمه الله) في الرّوض: «واعلم أنّ البكاء المبطل للصّلاة هو المشتمل على الصوت، لا مجرّد خروج الدمع، مع احتمال الاكتفاء به في البطلان؛ ووجه الاحتمالين: اختلاف معنى البكاء لغةً مقصوراً وممدوداً، والشكّ في إرادة أيّهما من الأخبار؛ قال الجوهري: البكاء يُمدّ ويُقصر، فإذا مددتَ أردت الصوتَ الذي يكون مع البكاء، وإذا قصرتَ أردتَ الدموع وخروجها.

قال الشاعر: بكت عيني وحقّ لها بُكاها وما يغني البكاء ولا العويل»([5] ).

أقول: أمّا دعوى «أنه لم يثبت كون المذكور في السؤال ممدوداً»، أو دعوى «قوله (عليه السلام): «بكى» في الجواب مطلق، لأنه مشتقٌ من الجامع بين الممدود والمقصور، على ما هو التحقيق من كون الأفعال مشتقّة ممّا تشتقّ منه المصادر، لا أنّها مشتقّة منها ليكون الفعل مشتركاً لفظياً بين معنى الممدود والمقصور، وحينئذٍ يتعيّن الأخذ بإطلاقه ولا يعوّل على السؤال»، فهي مندفعة بأنّ النسخ المضبوطة كلها بالمدّ.

فقول صاحب الجواهر (رحمه الله) -ولا نسخ مضبوطة، بحيث تقطع النزاع لكل منهما، لمعروفية تسامح النسّاخ- في غير محلّه.

كما أنّ إطلاق الفعل «بكى» ممنوع بعد اقترانه بالبكاء المذكور في السؤال الذي هو بمعنى الصوت، لأنّ الكلام حينئذٍ يكون من قبيل المقرون بما يصلح للقرينية، فلا يثبت الإطلاق في قوله (عليه السلام): «بكى» في الجواب.

مع أنّ الشكّ في كون اللفظ الوارد في الرواية مع المدّ أو القصر كافٍ في الحكم بعدم مبطليّة مجرّد خروج الدمع، وذلك للاقتصار على القدر المتيقن في البطلان، وهو مع الصوت.

وأما الخالي عن الصوت فإنّ مقتضى أصالة البراءة عدم البطلان به.

ومنه يظهر الحال لو شككنا في اللغة في أنّ البكاء اسم لمطلق خروج الدمع وإن لم يكن مع الصوت، أو هو اسمٌ له مع الصوت، فإنّ القدر المتيقن في البطلان هو مع الصوت، والرجوع فيما عداه وهو الخالي عن الصوت إلى أصل البراءة، لأنّ المفهوم حينئذٍ مجملٌ دائرٌ بين الأقل والأكثر، ومقتضى القاعدة الاقتصار على القدر المتيقن، وهو المشتمل على الصوت.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ الموجود في الرواية انقطاع الصلاة بالبكاء على الميّت، إلا أنه لمّا كان ذلك في مقابلة ذكر الجنة والنار جعل الأعلام المدار في البطلان وعدمه البكاء على أمور الدنيا والآخرة.

أما كون البكاء للآخرة من أفضل الأعمال فسيأتي - إن شاء الله تعالى-.

وأما البكاء للدنيا المبطل للصلاة فالمراد به كلّ ما يتعلق بأمور الدنيا، من قبيل فوات المحبوب أو حصول المكروه.

وأما البكاء لأمر دنيويّ يطلبه من الله تعالى، كسعة الرزق أو كثرة المال أو الولد، ونحوه، فقد ذكر صاحب الحدائق (رحمه الله): «أنّ ظاهر كلام الأصحاب (رحمهم الله) من حيث تعليقهم الإبطال بالأمور الدنيوية الذي هو أعم من أن يكون لفوتها أو لطلبها هو حصول الابطال بالبكاء لطلب ولد أو مال أو شفاء مريض، أو نحو ذلك، وهو مشكل، لأنه مأمور به ومندوب إليه في الأخبار، مع أن ظاهر الخبر الذي هو مستند هذا الحكم إنما هو فواتها لا طلبها، وحينئذٍ فالظاهر أنه لا تبطل بالبكاء لطلبها؛ ولا يعارض ذلك بمفهوم صدر الخبر، لدلالته على أنه ما لم يكن من الأمور الأخروية يكون مبطلا، لأنا نقول مفهوم صدر الخبر أنه ما لم يكن كذلك ليس أفضل الأعمال وعدم كونه أفضل الأعمال لا يوجب البطلان»([6] ).

وما ذكره (رحمه الله) في غاية الصحّة والمتانة، لعدم دخول مثل ذلك في النصّ، إذْ الظاهر من البكاء لأمور الدنيا هو البكاء لفواتها أو عدم حصولها، فلا يشمل البكاء تذللاً لله تعالى، واستعطافاً له في حصول المحبوب أو دفع المكروه.

بل لا يبعد أن يكون البكاء على الحسين (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) ملحقاً بالبكاء للآخرة، باعتبار أنّ البكاء عليهم (عليهم السلام) إنما هو لِما أصاب الدين من الوهن والضعف.

وعليه، فإنّ قوله (عليه السلام): «وإن كان ذكر ميّتاً له...»، منصرفٌ عن مثل هذا الفرد الذي يكون البكاء عليه من أفضل القربات.

نعم، إذا كان البكاء على الحسين (عليه السلام) لأجل الرحمية أو الرّقة بحاله، أو غير ذلك من المناسبات المقتضية لها غير راجعة إلى أمر دينيّ، فالأحوط حينئذٍ الترك.

ولكن الذي يهوّن الخطب في المقام: أنّ عمدة الدليل على بطلان الصلاة بالبكاء أثنائها لأمر دنيويّ ضعيف كما عرفت، هذا كله في البكاء للدنيا.

أما البكاء للآخرة خوفاً من العذاب الأخروي، أو البكاء شوقاً إلى الجنة، أو للندامة من الله تعالى على الذنوب، فهي من أفضل الأعمال، وقد استفاضت الأخبار بذلك:

منها: صحيحة معاوية بن عمار قال: «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: كان في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) أن قال: يا علي أوصيك في نفسك بخصال، فاحفظها عني، ثم قال: اللهم أعنه، أما الأولى: فالصدق، ولا تخرجن من فيك كذبة أبدا، والثانية: والورع، ولا تجترئ على خيانة أبدا، والثالثة: الخوف من الله عز ذكره كأنك تراه، والرابعة: كثرة البكاء من خشية الله، يبنى لك بكل دمعة ألف بيت في الجنة، والخامسة: بَذْلك مالك ودمك دون دينك، والسادسة: الأخذ بسنتي في صلاتي وصومي وصدقتي، أما الصَّلاة فالخمسون ركعة، وأما الصيام فثلاثة أيام في الشهر: الخميس في أوله، والأربعاء في وسطه، والخميس في آخره، وأما الصدقة فجهدك حتى تقول قد أسرفت ولم تسرف، وعليك بصلاة الليل، وعليك بصَّلاة الزوال، وعليك بصَّلاة الزوال، وعليك بصلاة الزوال، وعليك بتلاوة القرآن على كل حال، وعليك برفع يديك في صلاتك وتقليبهما، وعليك بالسواك عند كل وضوء، وعليك بمحاسن الأخلاق فاركبها، ومساوي الأخلاق فاجتنبها، فإن لم تفعل فلا تلومن إلا نفسك»([7] )، والرواية صحيحة.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo