الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
38/02/21
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع :القِيام في الصَّلاة (8)
وعليه ، فتصبح أدلَّة الجلوس مختَّصة بمن لا يقدر على القيام مطلقاً ، فلو أمكنه القيام - ولو بلا استقرار - تعَّين .
وممَّا ذكرنا يتَّضح لك عدم صحَّة ما ذكره المصنِّف (رحمه الله) في الذكرى من تقديم الجلوس لأنَّ الاستقرار ركن في القيام ، إذ لا دليل على الركنيَّة ، بل ما ذكرناه يقتضي بعدمه .
وأمَّا إشكال المحقِّق الهمداني (رحمه الله) على التمسُّك بإطلاقات أدلَّة القيام بأنَّ المتبادر من إطلاقات القيام - ولو بواسطة مناسبة المقام أو المعهودية - إَّنما هو إرادة الوقوف لا مطلقة الشَّامل لحال المشي ، بل قد يقال : بأنَّه حقيقة في خصوص الأوَّل ، وهو وإن لا يخلو عن تأمُّل ، بل منع ، إلَّا أنَّه لا ينبغي التأمُّل في انصراف إطلاقه إليه خصوصاً في الصَّلاة ، ونحوها ممَّا يناسبه الوقوف والاستقرار ... )[1] .
أقول : لا إشكال في صدق الصَّلاة من قيام على الصَّلاة حال المشي قائماً ، ضرورة عدم مدخليَّة الاستقرار في أصل القيام ، كما اعترف به (رحمه الله) لِصدقه على الماشي قطعاً .
أضف إلى ذلك أنَّ هذا الانصراف الذي ادَّعاه في غير محلِّه ، وما أسهل دعوى الانصراف ، وإنَّما المهمّ إثباته ، وعهدته على مدَّعيه .
ومن هنا ذكرنا سابقاً صحَّة النافلة حال المشي اختياراً ، وأنَّها معروفة ومعهودة عند الشَّارع ، مع صدق القيام عليها قطعاً .
ومن جملة الأدلَّة على تقديم الصَّلاة ماشياً على الجلوس قاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور .
وفيه : ما قد عرفته سابقاً من أنَّ الرَّواية الواردة بذلك موجودة في كتاب غوالي اللآلي وهي ضعيفة ، فلا حاجة لإعادة ما قيل في حقِّ الكتاب وصاحبه .
هذا ، وقد أشكل المحقِّق الهمداني (رحمه الله) على الاستدلال بها بقوله : (وأمَّا القاعدة فجريانها فرع كون المأتي به لدى العرف ميسور المتعذّر ، أي مرتبة ناقصة من مراتبه - إلى أن قال : - ومن الواضح أنَّ القيام المتحقِّق في ضمن المشي بنظر العرف أمر أجنبي عن القيام المعتبر في الصَّلاة ... ) .
أقول : قد عرفت في الجواب السَّابق أنَّ الصَّلاة ماشياً ليس بنظر العرف أمراً أجنبيّاً عن القيام المعتبر في الصَّلاة .
ومن هنا قلنا : إنَّ صلاة النافلة ماشياً اختياراً ، فضلا عن الاضطرار ، أمر معروف ومعهود عند المتشرِّعة .
فالإنصاف : أنَّه لولا ضعف السَّند لصحَّ الاستدلال بها .
وممَّا ذكرنا من أدلَّة المشهور ومناقشتها تعرف فساد مَنْ ذهب إلى تقديم الصَّلاة جالساً .
والخلاصة : أنَّ الأقوى هو تقديم الصَّلاة ماشياً على الصَّلاة جالساً مستقرّاً ، والله العالم .
فرع : لو دار الأمر بين القيام والإيماء للرُّكوع والسُّجود ، وبين الجلوس والإتيان بهما معه ، فهو يقوم ويومِئ لهما - كما هو المعروف بين الأعلام - أو يقدِّم الجلوس والإتيان بالرُّكوع والسُّجود ، كما أصرَّ على ذلك المحقِّق الهمداني (رحمه الله) .
المعروف بينهم هو الأوَّل ، بل يظهر من بعضهم أنَّه المشهور .
ومهما يكن ، فقدِ استُدلّ للقول الأوَّل بعدَّة أدلَّة :
منها : دعوى الاتفاق عليه ، كما حكاه صاحب الرِّياض (رحمه الله) عن جماعة ، وأنَّ اشتراط الجلوس مشروط في النصوص بتعذُّر القيام .
وفيه : أنَّ الإجماع المنقول بخبر الواحد ليس بحجَّة ، كما عرفت في أكثر من مناسبة .
مضافاً إلى ما ذكره صاحب الجواهر (رحمه الله) ، حيث قال : (ومن العجيب دعوى الإجماعات في المقام مع قلَّة المتعرِّض ، وخفاء المدارك ... )[2] .
ومنها : أنَّ الخطاب بأجزاء الصَّلاة مرتَّب ، فيراعى كلّ جُزء حال الخطاب به بالنسبة إليه وبدله ، ثمَّ الجزء الثاني ، وهكذا إلى تمام الصلاة ، ولمَّا كان القيام أوَّل أفعالها وجب الإتيان به مع القدرة عليه ، فإذا جاء وقت الرُّكوع والسُّجود خوطب بهما ، فإنِ استطاع وإلَّا فبدلهما .
ولا يخفى أنَّ هذا الدليل مبنيّ على الترجيح بالسَّبق الزماني الذي هو من أحد المرجِّحات في التدريجيات ، كمَنْ دار أمره بين ترك الصَّوم في اليوم الأوَّل من شهر رمضان أو الثاني ، فإنَّ السَّابق يتقدَّم بلا إشكال .
وفيه أوَّلاً : أنَّ الترجيح بالسَّبق الزماني مبنيّ على كون المسألة من باب التزاحم ، إذ الأخذ بالأسبق إنَّما يكون في المتزاحمات ؛ ولكنَّ الأمر هنا ليس كذلك .
وتوضيحه : أنَّه إذا دار الأمر بين ترك أحد جُزئين أو ترك الآخر ، أو أحد شرطين ، أو واحداً من الجزء أو الشرط ، لم يكن ذلك داخلاً في باب التزاحم ، لأنَّ الضابط في دخوله في ذاك الباب هو العجز عن امتثال تكليفين نفسيين مستقلّين .
وأمَّا في المقام فليس إلَّا أمر وجداني متعلِّق بالمركَّب من عدَّة أجزاء وشرائط - وهو الأمر بالصَّلاة - .
وعليه ، فالمقام داخل في باب التعارض ، ومقتضى القاعدة سقوط التكليف رأساً ، لكن علمنا في خصوص الصَّلاة أنَّها لا تسقط بحال ، ولذلك نقطع بتعلُّق أمر جديد بالباقي من الأجزاء والشَّرائط الممكنة .
وبما أنَّ متعلّقه مجهول ، وأنَّه هل هو مؤلَّف من هذا الجزء أو الشَّرط أو من ذاك ؟ فلا محالة يقع التعارض بين دليلي ما يتعذَّر الجمع بينهما من جُزء أو شرط ، وبعد التعارض والتساقط نرجح إلى الأصل العملي ، وهو التخيير هنا ، لأصالة البراءة عن كلٍّ من الخصوصيتين ، إذ المتيقَّن وجوبه إنَّما هو الجامع المحتمل انطباقه على الوجوب التخييري ، فتكون الوظيفة الواقعيَّة هي التخيير بين الصَّلاة من قيام مع الإيماء للرُّكوع والسُّجود ، وبين الصَّلاة من جلوس مع الإتيان بهما .
وليس الأصل العملي في المقام هو الاحتياط حتَّى يجب الجمع بينهما بالتكرار ، لأنَّه إنَّما يجب الاحتياط إذا كان الواجب في الواقع أحدهما المعيَّن بخصوصه ، كما لو دار الأمر بين القصر والتمام ، فإنَّه يجب الجمع بينهما ، إذ المتيقَّن إمَّا وجوب التمام أو القصر ، ولا يحتمل التخيير الواقعي ، فلا بدَّ من الجمع حينئذٍ من باب الاحتياط .
وأمَّا في المقام فهناك ثلاث احتمالات : وجوب القيام خاصَّة مع الإيماء للرُّكوع والسَّجود ، ووجوب الجلوس خاصَّة مع الإتيان بالرُّكوع والسُّجود ، والتخيير بينهما ، حيث إنَّنا نحتمل واقعاً هذا التخيير .