« قائمة الدروس

الأستاذ السید محمدتقی المدرسي

بحث الفقه

45/10/21

بسم الله الرحمن الرحيم

/فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون/بحوث تمهيدية

الموضوع: بحوث تمهيدية/فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون/

 

﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ﴾ ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾[1]

 

كان الحديث عن آيات سورة البقرة، التي حكت إعادة ابراهيم واسماعيل عليهما السلام، تشييد البيت ورفع قواعده، وبقيت جملة بصائر فيما ترتبط بهذه الآيات ولا سيّما في دعاء وسلوك ابراهيم النبي عليه السلام:

البصيرة الأولى: العمل الصالح والتوبة إلى الله

مما يدفع الإنسان نحو العمل الصالح اخطاؤه السابقة، ذلك لأنه عند ارتكاب الخطأ تراه يؤنب نفسه إذا كان مسلماً _وهذا من الإيمان_ فيمتلئ شعوراً بالندم، وحينئذٍ يكون أمامه طريقان:

الطريق الأول: اليأس من صلاح نفسه، وهذا طريق خطير، لأن اليأس بذاته جريمة وذنب عظيم.

الطريق الثاني: الإنابة إلى الله سبحانه وإصلاح ما فات بالعمل الصالح، فكلما وقع الإنسان في خطأ أو خطيئة لابد أن يستشعر أن كفارة ذلك الخطأ أن يقدم المزيد من العمل الصالح، لأن الحسنات يذهبن السيئات كما قال الله تعالى في كتابه الكريم، ولأن الله تعالى يوم القيامة يبدل السيئات إلى حسنات للذين كانوا يعملون الصالحات.

ومن هنا نجد أن النبي إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، طلبا من الله التوبة وهما يقومان بتشييد البيت ﴿رَبَّنَا وَ اجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَ تُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾[2]

البصيرة الثانية: دور الرسول في الأمة

ثم قال الله سبحانه: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾

فهناك جملةٌ من الأدوار الهامة للرسول تضمنّها دعاء ابراهيم عليه السلام:

أولاً: تلاوة الآيات ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾

التلاوة تعني أن يقرأ الإنسان الكلمة تلو الكلمة، الآية تلو الآية، فمجموعة الآيات المتتالية تسمى تلاوة، أي تترى الآيات بعضها بعد بعض.

ونستفيد من ذلك: أن على الداعية إلى الله أن تكون دعوته إلى الله عبر القرآن الكريم، فلا يجوز للداعية إلى الله أن يتلو على الناس غير ما أنزل الله ليدعوهم إليه سبحانه، فليس في كتاب الله نقصٌ لتكون الحاجة إلى غيره وإلى أفكارٍ أجنبيةٍ عنه.

والقرآن يفهم بالقرآن، وبأهل البيت عليهم السلام، لا أن يفهم بنظريات أخرى كما قد يرى البعض أنه لا يفهم إلا من خلال النظرية الماركسية مثلاً..!

كيف يتلى القرآن؟

من تجليّات تلاوة القرآن، أن يكون القرآن الكريم مرآةً صافيةٍ لمعرفة الواقع الخارجي، فتكون آياته تبياناً لحُكم الواقع، وحكمةٍ عمليةٍ تجاهه، وبذلك تكون آيات الكتاب حاضرةً في كل واقعة، فصاحب المال تُقرأ عليه آيات الإنفاق والزكاة، والظالم تقرأ له آيات النهي عن الظلم، وصاحب المنصب يؤمر بالعدل والإنصاف وهكذا.. تتلى كل آيةٍ بحسب الموقع المناسب لها، لتكون علاجاً للواقعة، وبياناً لحكم الله فيها.

فقراءة الآية في الموقع والوقت المناسبين لها أثرها البالغ، ولعل هذا مما نستفيده من معنى ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ﴾.

ثانياً: تعليم الكتاب والحكمة ﴿وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، فما هو المقصود منهما؟

يبدو أن الكتاب هو منظومة الحقائق القرآنية، والتي ندرسها اليوم في كتب الفقه، وهي موجودة في الآداب وفي السنن وفي الأخلاق والمعارف الأولية أيضاً، كل هذه حقائق قرآنية وهي من الكتاب.

وأما الحكمة فمن الحُكم، وفي القرآن الكريم العشرات من الآيات حول الحُكم، ﴿وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾[3] ، فما هو الحكم؟

من الناحية اللغوية: الحكم هو الكلمة القاطعة، ويقال للشيء القوي محكما أيضاً، وإذا الناس تشابكوا فيما بينهم واختلفوا فهم بحاجة إلى قطع الخلاف وفض النزاع بكلمة قاطعة، والكلمة القاطعة تمثل الحُكم، الحكم بالقسط والحكم بالعدل.

أما الخلاف فيكون في مصاديق الآيات، فالقسط واجب ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[4] ، والعدل واجب ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾[5] ، وكذلك الإحسان ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾[6] ، وهذا لا خلاف فيه، إنما الاختلاف في تطبيقاتها وتأويلاتها على الواقع، وهنا يأتي الحُكم عبر تأويل الكتاب وتطبيقه على المواقع والموراد الخاصة.

ولعل مفهوم الحِكمة من هذا البعد، فهي مستوحاة من الحُكم، وتعني معرفة الكيفية في تطبيق الأحكام الكلية على الموارد الجزئية.

ولعل الاستفتاء أو الفتوى هي من هذا القبيل أيضاً، أي معرفة الحقائق الكبرى المنطبقة على القضايا الخارجية المختلف فيها، وهذا هو الدور الموكل إلى الفقهاء.

فالنبي صلى الله عليه وآله، يعلّم الحكمة، أي يبيّن كيفية الحكم، حيث الإرشاد إلى موازين تطبيق الأحكام على الوقائع الخارجية.

اليوم يوجد في العالم أنظمة دولية حديثة، وفيها المشرّعين، ومسؤولية المشرّع تصدير القانون، ولكن تطبيق القانون على الواقع الخارجي يكون من دور القاضي ومسؤوليته، فالقاضي هو الذي يعتني بتطبيق القانون العام على الموارد الخاصة.

وعادة يلحق الدستور بملاحظة أن القانون ينظر بقوانين أخرى، فالقوانين بحاجة إلى لوائح قانونية مستوحاة منها في التطبيق، وهكذا القوانين والأحكام الكلية في الإسلام، لابد من معرفة موارد تطبيقها الخاصة، وهذا دور الحكمة ﴿وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾[7] .

ثالثاً: تزكية النفوس ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾

بما أن جزء من الحكمة يتصل بإرادة الإنسان ومدى ضبطه لحالاته النفسية، حيث يمكن للإنسان أن يبرر أخطاءه، أو يغيّر الأحكام عبر التفسيرات والتأويلات فيتبع ما تشابه منها، فمن أجل الوقوف أمام هذه الحالة النفسية فإن على الرسول مسؤولية أخرى وهي التزكية.

فتعليم الكتاب أمرٌ والتزكية أمرٌ آخر، وليست التزكية مجرد إلقاء كلمات، إنما هي توجيهات وتوصيات مباشرة للإنسان، من أوامر ونواهي تهدف تهذيبه وتربيته.

ولننظر كيف تعامل الإمام الباقر عليه السلام مع محمد ابن مسلم رضوان الله عليه، الذي كان من الرواة الثقاة عند إمامين عظيمين عليهما السلام، وكان شيخاً في عشيرته في الكوفة، ورجلاً محترماً في قومه وكبيراً، عن جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُولَوَيْهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ اَلْعَيَّاشِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اَللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ كَانَ رَجُلاً شَرِيفاً مُوسِراً فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ تَوَاضَعْ يَا مُحَمَّدُ، فَلَمَّا اِنْصَرَفَ إِلَى اَلْكُوفَةِ أَخَذَ قَوْصَرَةً مِنْ تَمْرٍ مَعَ اَلْمِيزَانِ وَجَلَسَ عَلَى بَابِ مَسْجِدِ اَلْجَامِعِ وَجَعَلَ يُنَادِي عَلَيْهِ، فَأَتَاهُ قَوْمُهُ فَقَالُوا لَهُ فَضَحْتَنَا، فَقَالَ إِنَّ مَوْلاَيَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ فَلَنْ أُخَالِفَهُ وَ لَنْ أَبْرَحَ حَتَّى أَفْرُغَ مِنْ بَيْعِ مَا فِي هَذِهِ اَلْقَوْصَرَةِ، فَقَالَ لَهُ قَوْمُهُ أَمَّا إِذَا أَبَيْتَ إِلاَّ أَنْ تَشْتَغِلَ بِبَيْعٍ وَ شِرَاءٍ فَاقْعُدْ فِي اَلطَّحَّانِينَ فَهَيَّأَ رَحًى وَجَمَلاً وَجَعَلَ يَطْحَنُ.[8]

ومن هنا نرى اهتمام علمائنا بهذا الأمر، فكان لدرس الأخلاق عند عالم كبير أهمية باللغة كأهمية طلب العلم في الدراسة الحوزوية.

ثم يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، لعل العزة إشارة إلى الكتاب، والحكمة إشارة إلى الحكم.

البصيرة الثالثة: الرغبة عن دين إبراهيم عليه السلام سفاهة

ثم يقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾

الملة هي الطريقة، فملة ابراهيم عليه السلام طريقته، فمن يرغب عن هذه الملة إنما هو سفيه، والسفيه ذلك الذي يخسر نفسه ويعمل عملاً بخلاف مصلحته.

﴿وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ﴾

إبراهيم عليه السلام قدوة حسنة فلماذا يتركها الإنسان ولا يقتدي بها؟

واصطفاء الله تعالى له من بين العباد أمر عظيم، فالذين ينتمون لملته وطريقته الملايين من البشر وعلى مر السنين، وهذا في الدنيا، وأعظم منه في الآخرة.

وفي هذا عبرةٌ لنا بأن تكون بداياتنا ونهاياتنا كبدايات ونهايات النبي إبراهيم عليه السلام، وإلا ما الفائدة من بدايات حسنة وعاقبة سيئة ووخيمة؟!

كيف اصطفى الله إبراهيم عليه السلام؟

متى أصبح إبراهيم عليه السلام في هذه القمة السامقة؟ وكيف؟

الجواب من سياق الآيات إذ يقول الله تعالى:

﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾

هذا أمر عجيب..! إبراهيم عليه السلام هو الذي سلّم نفسه للنيران وسلم ابنه للذبح، وسلم أهله وذريته إذ جعلهم في الصحراء، وسلم لله في كل شيء، ومع ذلك فإن الله تعالى يقول له ﴿أَسْلِمْ﴾، لماذا؟

يبدو أن هناك سببين:

الأول: ربنا سبحانه يبين في كتابه الكريم وفي آيات عديدة أن الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا آلهة، فمع كل عظمتهم وعلو مقامهم إلا أنهم لا يزالون في مرتبة العبودية، وكلما كانت عبودية أحدهم أكبر كان مقامه عند الله أعلى، وهذا لنفي شبهة الألوهية عنهم.

الثاني: مهما ارتفع الإنسان مقاماً عالياً فإن مشكلة النفس الأمارة بالسوء حاضرة معه، وربنا في الآية يقول: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى﴾[9] ، فهذا النهي لا يكون مرة واحدة إنما هو نهي وجهاد مستمر حتى آخر لحظة من الدنيا، وهنا يعني الإسلام والتوجه إلى الله تعالى في كل حركة من الزمن.

وهكذا الأمر بما يرتبط بالبشر، فكلما اقتربنا من الله تعالى وازددنا تسليماً له ومخالفة لأهوائنا كلما ازددنا قوة وإرادة وإيمانا.

البصيرة الرابعة: امتداد التسليم في ذرية إبراهيم عليه السلام

﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾

هناك فرق بين كلمة (أوصى) وكلمة (وصى)، فالأولى مرة واحدة، أما الثانية فهي تعني المرة بعد الأخرى، [ووصى بها ابراهيم بنيه].

بماذا أوصاهم؟

﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ﴾

الدين الذي عندكم هو صفوة الحقائق وصفوة الشرائع.

﴿فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾

لابد على الإنسان المؤمن أن يحرص على إسلامه لله ما زال في الدنيا، وأن لا يعدل عنه إلى ما سواه، والأمر خطير للغاية إذ تكون عاقبة السوء بدلاً من العاقبة الحسنة مع الإسلام، وربنا سبحانه يقول: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾[10] ، فإذا سلم الإنسان المؤمن روحه لملك الموت حينها تنتهي الفتنة وينتهي الاختبار فيكون ذلك سروره أن مات على الإيمان، وما لم تأت تلك اللحظة فلابد من المكابدة والمجاهدة والاستقامة على هذا الطريق.

هذه الآيات من سورة الحج يبدو أنها تشكل الإطار العام لموضوع البيت الحرام، بما في ذلك من الحج والعمرة والقبلة وما أشبه، وستأتي الآيات تباعاً حول المسائل الأخرى بإذن الله.


logo