< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

41/06/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: بحوث تمهيدية 9/ نصوص فضل العلم، ودور العلماء 5/ طغيان طابع النفي في النصوص الشريفة فيما يرتبط بنظام الحكم 2

 

ذُكر في البحث السابق تساؤلاً عن السبب في عدم وجود بيانٍ تفصيلي في النصوص الشريفة، عن نظام الحكم وفق الرؤية الإسلامية، الأمر الذي يلاحَظ حتى في الديانات السابقة، أيضاً، وكذلك عن السبب في طغيان طابع النفي الآيات الكريمة والروايات الشريفة فيما يرتبط بنظام الحكم، وقلّة الحديث عن الجانب الإيجابي، وبتعبيرٍ أوضح غلبة الأمر بهدم الباطل، على الأمر بإقامة بنيان الحق، ولكي تتضح معالم الإجابة عن هذه التساؤلات لابد من بيان ما يلي:[1]

 

التوحيد وكرامة الإنسان

المعركة الأولى والأساسية بين الرسل والأمم كانت تدور حول التوحيد، فما هو التوحيد؟

بإمعان النظر نجد أن كرامة الإنسان وحريته وإنسانيته مختطفة مِن قِبل بني جنسه، وأول هدف للإنسان السوي يتجسّد في إستعادتها، وهذه هي الدورة الحياتية التي يتكامل بها البشر، فحين يولد طفلاً لا حول له ولا قوة، يخضع قهراً لضغوط الأبوين، بالرغم من أن الله أودع فيه فطرة التوحيد والإيمان والحرية، وكما قال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: " كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَ إِنَّمَا أَبَوَاهُ‌ يُهَوِّدَانِهِ وَ يُنَصِّرَانِهِ وَ يُمَجِّسَانِه‌" [2] ، فيولد طاهراً موحّداً[3] ، ولكن المحيط يختطف ذلك منه، عبر التربية الخاطئة أو الضغوط المختلفة، فيختطف المحيط إنسانيته.

ومن هنا كانت معركة التوحيد هي معركة تخليص الإنسان من العبودية والذل، وهي المعركة الأساس، التي تهدف تطهير الإنسان من الشرك، حيث يتشعب منه كل المشاكل الأخرى، فتطفيف البائع ينتج لوجود نسبةٍ من الشرك في قلبه، وكذا الموظف المرتشي، والطاغوت هو الآخر يعلو في الأرض لوجود شعبةٍ قويةٍ من الشرك في قلبه.

وفي المقابل، فإن القابل للتطفيف والرشا والمتعاطي معهما، والراضي بظلم الطاغية، هو الآخر يعاني من نسبةٍ من الشرك في نفسه، بعد أن كانت المعادلة ذات شعبتين بين الموجِب والمتقبل، حيث يتكون العقد الإجتماعي وإن كان خفياً.

ومن هنا، فإن الشعب الذي يمكّن الطاغوت من نفسِه، لا يقل جريمةً من الطاغوت ذاته، فالمظلوم شريكٌ في الجرم إن رضي بالظلامة، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: " إِنَّمَا يَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضَا وَ السَّخَطُ فَمَنْ رَضِيَ أَمْراً فَقَدْ دَخَلَ فِيهِ وَ مَنْ سَخِطَهُ فَقَدْ خَرَجَ مِنْهُ" [4]

وهكذا كانت رسالة الأنبياء وأوصيائهم، والصديقون والشهداء والصالحون من بعدهم تتثمل في دعوة الإنسان لتحدي الشرك، ومن هنا؛ نجد أن الحديث عن إسقاط الطغات في الآيات والروايات، أكثر من الحديث عن نصب الإمام الصالح، فيحتل الأول تُسع أعشار نصوص الباب، بينما الثاني لا يعدو نصيبه العُشر.

تأملاتٌ في سورة الشعراء

ومن خلال التدبر في أيات سورة الشعراء، يتضح لنا معالم هذا الأمر، حيث نجد في آخر آية من السورة حديثٌ عن الإنتصار على الظلمة، الأمر الذي يتكرر في أكثر من موضع في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ في‌ كُلِّ وادٍ يَهيمُونَ* وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ* إِلاَّ الَّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثيراً وَ انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَ سَيَعْلَمُ الَّذينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾[5] .

وبهذا البيان يتضح جزءاً من الإجابة عن التساؤل الذي طرحناه في البحث السابق عن السبب في عدم وجدان الحديث المفصّل عن النظام السياسي الإسلامي، فقبل أن تطهّر النفوس من الشرك، ويتطهّر المجتمع من الطاغوت، وقبل أن يسقط نظام السلطة الفاسدة المتمثل بالسخرية والاستكبار والاستعباد، فلا معنى للتنظير للنظام السليم، لأن الأنظمة الطاغوتية تتخذ مال الله دولاً وعباده خولاً، فتستلب إنسانية الإنسان أيضاً، وحينئذٍ لا يمكنه أن يعي معنى النظام الصحيح، ومن هنا نجد أن الإمام الحسين عليه السلام، كان يهدف -أولاً- في حركته المباركة تحرير الناس من عبودية الطغاة، ليعودوا إلى إنسانيتهم وكرامتهم، ولم يكن يهدف الحكم والسلطة، حيث قال عليه السلام: " اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَا كَانَ مِنَّا تَنَافُساً فِي سُلْطَانٍ وَ لَا الْتِمَاساً مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ" [6]

وعلّم عبر كلماته المجتمع على الحرية والتحرر، لأن المجتمع الخاضع والذليل والذي لا يريد دفع ثمن الكرامة، لا يستحق القيادة الصالحة، فقال عليه السلام: "أَلَا وَ إِنَّ الدَّعِيَّ ابْنَ الدَّعِيِّ قَدْ تَرَكَنِي بَيْنَ السَّلَّةِ وَ الذِّلَّةِ وَ هَيْهَاتَ لَهُ ذَلِكَ مِنِّي هَيْهَاتَ مِنَّا الذِّلَّةُ أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ لَنَا وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ حُجُورٌ طَهُرَتْ وَ جُدُودٌ طَابَتْ أَنْ يُؤْثَرَ طَاعَةُ اللِّئَامِ عَلَى مَصَارِعِ الْكِرَام‌"[7]

أبرز صفات الطغاة

يحدثنا الرب سبحانه في سورة الشعراء، عن الفرق بين الرسل وما يتلقونه عن الملائكة وبين الذين تتنزل عليهم الشياطين، قال تعالى: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى‌ مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطينُ * تَنَزَّلُ عَلى‌ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ * وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ * أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ في‌ كُلِّ وادٍ يَهيمُونَ * وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ﴾[8]

يتصّف الطغاة بالإفك وكثرة الكذب على مستوى الخطاب، وسوء العمل وركوب القبائح على مستوى السلوك العملي، والغواية والضلال على متسوى الأتباع والمطيعين لهم، إذ ليس المقصود من الشعراء في الآية هم من ينشدون الأشعار ويكتبون القصائد، لعدم الأتباع لهم على أرض الواقع، بل المراد من الشعراء في الآية، كل متبوعٍ من دون الحجة سواءاً كان عالماً طلب العلم لغير الله، أو طاغياً في الأرض، فقد روي عن أبي جعفرٍ عليه السلام في قوله تعالى (وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ‌) قَالَ نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ غَيَّرُوا دِينَ اللَّهِ بِآرَائِهِمْ- وَ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ هَلْ رَأَيْتُمْ شَاعِراً قَطُّ تَبِعَهُ أَحَدٌ- إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ الَّذِينَ وَضَعُوا دِيناً بِآرَائِهِمْ- فَيَتَّبِعُهُمُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ- وَ يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ يَعْنِي يُنَاظِرُونَ بِالْأَبَاطِيلِ وَ يُجَادِلُونَ بِالْحُجَجِ الْمُضِلَّةِ- وَ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ يَذْهَبُونَ وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ قَالَ يَعِظُونَ النَّاسَ وَ لَا يَتَّعِظُونَ- وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لَا يَنْتَهُونَ- وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ لَا يَعْمَلُونَ وَ هُمُ الَّذِينَ غَصَبُوا آلَ مُحَمَّدٍ حَقَّهُمْ"[9] ، وعن أبي عبد الله عليه السلام: من رأيتم من الشعراء يتبع؟ إنما عنى هؤلاء الفقهاء الذين يشعرون قلوب الناس بالباطل، فهم الشعراء الذين يتبعون» [10]

سورة الشعراء وبيان سيرة الأنبياء

تحكي آيات السورة سيَر الأنبياء مع أقوامهم، من دون اعتماد التسلسل التاريخي، بل إعتماداً على هدف السورة في الإعتبار بسيرتهم والإقتداء بها، فيذكر الرب فيها أولاً سيرة النبي موسى عليه السلام في مقابل فرعون، الذي كان أمثولةً سيئةً جمع سيئات الطغاة، قال تعالى: ﴿وَ إِذْ نادى‌ رَبُّكَ مُوسى‌ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَ لا يَتَّقُونَ * قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَ يَضيقُ صَدْري وَ لا يَنْطَلِقُ لِساني‌ فَأَرْسِلْ إِلى‌ هارُونَ * وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ﴾[11]

وفي هذه الآيات رسالةٌ لكل المصلحين في الأرض، بأن لا يدعوا الخوف يمنعهم من القيام بواجبهم، لأن الله سبحانه معهم.

وبعد حكاية جوانبٍ من حركة النبي موسى عليه السلام، يذكر القرآن الكريم سيرة ابراهيم عليه السلام ومن بعده سائر الأنبياء، والملاحظ أنهم عليهم السلام دعوا الناس إلى أمرين تمثلاً في تقوى الله سبحانه وإطاعة الرسول: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطيعُون‌﴾ [12] [13] [14] [15] [16] [17] [18] [19]

ويعني ذلك، تحطيم الطغاة أولاً، وإطاعة الرسول ثانياً، فطاعة الرسول هي طاعة القيادة الربانية البديلة عن القيادات الأخرى، فمادامت القيادات الفاسدة موجودة، لا يمكن للقيادة الصالحة أن تقوم بدورها في الأمة.

 

أذرع الطغاة

في سبيل التخلص من الطغاة – كتمهيدٍ لقيام النظام الصالح- تبيّن النصوص الشريفة أذرعهم التي يجب أن تواجَه هي الآخرى، لأجل إسقاطهم، فما هي أبرز تلك الأذرع؟

أولاً: لكل فرعون هامان، وهو يمثل رئيس الوزراء وكبار الموظفين، وأجهزة المخابرات الذين باعوا أنفسهم ودينهم للطاغوت ويطيعوهم في كل شيء، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئين﴾[20]

ثانياً: علماء السوء المضلّين للناس في سبيل ارضاء الطغاة، والنصوص الشريفة في القرآن والروايات تشير إلى عِظَم جرمهم، فقد قال تعالى: ﴿وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوين‌ * وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون﴾[21]

ويسعى هؤلاء إلى إستعباد الناس ثقافياً وإستلاب حريتهم الفكرية خدمةً للطغاة، ومن هنا كان على الناس أن يتجنبوهم ليتحرروا، قال الله سبحانه:﴿وَ الَّذينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَ أَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى‌ فَبَشِّرْ عِباد* الَّذينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْباب﴾[22]

فعلى الناس أن يفتشوا بأنفسهم عن العلماء المستقلين الذين لا يخشون جور الطغاة وإرهابهم، وزهدوا في الحياة الدينا ابتغاء مرضاة الله سبحانه.وقد ذكرنا سابقاً بأن من الفوارق الأساسية بين أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام وغيرهم، في أنا نحمّل كل إنسانٍ -كفرد- مسؤوليته في قيادة الأمة، بأن يفتش – ابتغاء رضوان الله – عن عالمٍ فيه كل الصفات الصالحة ويقلّده، وهذه هي معادلة الكرامة والحرية، فالتقليد ليست مجرد إتباعٍ ساذج، بل تعني سيادة الإنسان لنفسه عبر إختياره هو لقيادته، الأمر الذي ينتج سيادة الأمة كلها.

 


[1] من المقرر.
[3] قال أبو عبد الله عليه السلام: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، يَعْنِي الْمَعْرِفَةَ بِأَنَّ اللَّهَ- عَزَّ وَ جَلَّ- خَالِقُه‌".

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo