< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

41/06/13

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: بحوث تمهيدية 3/ الآيات القرآنية الدالة على حكومة العلماء -1

تدلنا جملةٌ من آيات الكتاب على ضرورة قيادة العلماء للأمة، وهو بحثٌ هامٌ ومفصّل، وقبل التدبّر في بعض تلك الآيات لابد من تدوين ملاحظتين:

الأولى: من عادة المفسّرين للقرآن الكريم، ملاحظة البناء الفردي للإنسان في خطابات الكتاب العزيز، في حين أن الهدف الأسمى لآيات القرآن -حسبما يبدو- هو بناء المجتمع، وبناء الفرد إنما يكون ضمن البناء الإجتماعي.

ويؤيد هذه الرؤية، ما يلاحظ من كون نسبة الواجبات الإجتماعية التي تعرّضت له الآيات الشريفة أكثر من الواجبات الفردية، كما أن الحديث عن الفرد قد يأتي بصيغة الجمع أو ضمن إطار الواجبات الإجتماعية.

وإن كان الأمر كذلك، فلامناص للمجتمع من محورٍ ومتصدٍ لشؤونه، وكما قال أمير المؤمنين عليه السلام: " وَالٍ ظَلُومٌ غَشُومٌ خَيْرٌ مِنْ فِتْنَةٍ تَدُومُ" [1] ، مضافاً إلى ما ورد من ضرورة وجود الحجة في الأرض.

الثانية: إن المنهجية المتبعة لدى الفقهاء في بحوثهم الإستدلالية في الفقه، تبدأ من مناقشة آراء العلماء، وبعدئذٍ البحث عن القواعد والأصول المتبعة في المسألة، وفي النهاية يناقشون الأدلة الخاصة، بدءاً بالروايات وإنتهاءاً بالآيات.

وربما يبرر لهم ذلك، لكون الأجواء التي دوّنت فيها الفقه، كانت مشحونة بالخلافات بين المذاهب أو حتى في إطار المذهب الواحد.ولكن اليوم لابد من تغيير أولويات البحث، فتكون المرحلة الأولى بعرض المسألة على العقل وأصوله الثابتة، ومن ثم التدبر في الآيات القرآنية – العامة منها قبل الخاصة- ومن ثم مناقشة الروايات الواردة في المسألة، وفي نهاية المطاف يتم ملاحظة أقوال العلماء ومناقشتها.ذلك لأن العقل هو الحجة الأولى لله سبحانه على الإنسان، وقد أودع الله فيه الكثير من الحقائق فطرياً، ولا تحتاج إلى سوى الإثارة والإستخراج، ولكن لابد من الإلتفات إلى أن التدبر في الآية لا يعني تحميل الفكرة عليها، فإذا ما قرأ الفقيه الآية وتأمل فيها، فلا يصرّ على رأيه، أو يفسّرها على رأيه، والآيات إما تتناول الموضوع بشكلٍ خاص، وإما هي الآيات العامة، حيث لا صغير ولا كبير إلا وأصله في كتاب الرب سبحانه.وبعد تسجيل هاتين الملاحظتين، نتأمل في الآيات القرآنية الشريفة المتعرضة لدور العلماء في المجتمع الإسلامي.شروط الفقيه المتّبَع

في سياق الحديث عن حكم التوراة والإنجيل والقرآن الكريم، يقول الرب سبحانه في الآية الرابعة والأربعين من سورة المائدة،: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذينَ أَسْلَمُوا لِلَّذينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتي‌ ثَمَناً قَليلاً وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُون﴾[2]

بين الهدى والنور

الهدى إرائة الطريق، والنور الوصول إليه، والأول للجميع والثاني للخواص وهم العلماء بالله، اي العلماء بنور الله سبحانه.

والتوراة وسيلةٌ للحكم لدى النبيين عليهم السلام، والنبيون هم الذين أسلموا أنفسهم لله سبحانه، وكما قال الله سبحانه لنبيه إبراهيم: ﴿إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمين﴾[3] وهم خالصون له تعالى من دون أي شكٍّ أو ريبي.

أما المحكوم عليهم، فهم الذين هادوا ( اليهود) وكلمة هادوا لا تدل على المدح بل فيها تعريضٌ بهم، وكيف كان؛ فهم إطارٌ لحكم الإنبياء والأحكام بنفعهم لمكانة اللام في (للذين).

ومع فقد الأنبياء تصل النوبة في الحكم إلى الربانيين، أو بتعبير الآية في سورة آل عمران[4] [5] (ربيون)، وهم المتصلون بالرب، ويبدو لي أن المقصود بهم "الصديقين" حيث تأتي منزلتهم بعد منزلة الأنبياء، ولا نبيٌ إلا ولديه بعض الأوصياء والحواريين.

ومع فقدان الربانيين تصل النوبة إلى الأحبار، جمع (حَبر) و (حِبر)، والتي تعني الزينة، فمحبَر يعني مزيّن، وسمي العلماء بالأحبار لأنهم زينة المجتمع، فالمقصود من الأحبار في السياق، العلماء كما يبدو، ونوبتهم بعد الأنبياء والصديقين، ولكن الرجوع إليهم يتوقف على توفّر جملةٍ من الشروط فيهم، بينتها الآية الشريفة.

وقبل التفصيل فيها، نتسائل، هل الشروط تخص الأحبار، أم تشمل الربانيين أيضاً؟

فمن جهة يمكن القول أنها تتعلق بالأحبار فقط، لوصول الربانيون إلى القمم، ومن جهةٍ أخرى نلحظ بيان الرب صفة حكم النبيين بأنهم أسلموا لله، ولم يبيّن صفة حكم الربانيين، ويبدو أن الثاني أقرب فقوله سبحانه: (بما استحفظوا) شاملٌ للفئتين.

شروط حكومة الربانيين والأحبار

أولاً: استحفاظ الكتاب

إستحفاظ كتاب الله سبحانه، بأن يودعهم الله علم الكتاب ويجعلهم حفظةً له، ومستودعاً لعلمه، فتعهد هؤلاء، بحفظ الكتاب وعدم إدخال شيءٍ آخر من غير الكتاب في الكتاب، بحيث لا يدعون اختلاط الأفكار المختلفة مع كتاب الله.

ثانياً: الشهداء على الكتاب

تعني الشهادة ثلاثة أمور:

     القتل في سبيل الله، ولم نجد في القرآن الكريم، مصطلح الشهيد بهذا المعنى.

     الذي يشهد حادثةُ ما أو يشهد بوحدانية الرب سبحانه.

     قيادة الأمة ، وهو الأقرب في الإستعمال القرآني حيث ورد في أكثر من موضع لفظة الشهيد بمعنى القيادة، قال الله سبحانه: ﴿وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيدا﴾[6] ولكن المقصود في الآية، أن الشهداء يتصدون للأمر بما أمر الله سبحانه في كتابه، وينفذ حكمه.

ثالثاً: عدم خشية الناس

نهيٌ في مقام بيان صفة العلماء، بأن لا يخض للقوى المادية، بل خشيته من الله سبحانه وحده.

رابعاً: عدم بيع الدين

لا يخضعون لا للقوة ولا للثروة، فلا يفتش عن المال عند هذا الغني أو ذاك، بل يهدف القيام بالحق مطلقا.

ومع توّفر هذه الصفات الأربع، كانوا قادة الأمة، ولزم المجتمع إتباعهم، ثم قال سبحانه: ﴿ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الكافرون﴾.

وبالرغم من أن ما قاله البعض بأن الخطاب هنا راجعٌ إلى العلماء، صحيحٌ للدلالة على كفر من لا يحكم بما أنزل الله سبحانه، إلا أنه يعني أيضا: أن من لا يلتزم بحكم هؤلاء الانبياء والربانيون والأحبار كافرٌ، لأنه كفر بنعمة الله سبحانه.

وقد أطنب المفسرون في تفسير هذه الآية ومناقشتها، ولكن ما يهمنا في المقام أمران:

الأول: قيل: إن الآية ترتبط باليهود فلا شأن للمسلمين بها.

وفيه: أولاً: الشرائع الإلهية واحدة ، وثانياً: ذكر الشرائع السابقة في القرآن وبيانها مرتبطٌ بالمسلمين لا غيرهم، وقد قال الله سبحانه: ﴿أُولئِكَ الَّذينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِه﴾[7] ( اولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده)

 

الثاني: إن قيل إن معنى الحكم في الآية، هو القضاء بين شخصين.

فنقول: بمراجعة لفظة الحكم في القرآن الكريم، وما آتاه الله النبي داوود وسليمان، وطالوت من الحكم، ليس مجرد القضاء بين المتخاصمين، نعم؛ القضاء جزءٌ أساسيٌ في الحكم، ولكن هناك شؤون أخرى للحكم أهم من القضاء، كالقيادة السياسية للمجتمع وتوجيهه.

بلى؛ من عادة المجتمع الرجوع إلى العلماء في نزاعاتهم، فيتصدى العلماء لحلها، ولكن ذلك لا يحجّم دورهم، ويتضح ذلك أكثر بملاحظة الآية الثالثة والستين من سورة المائدة حيث يقول الله سبحانه معرّضاً بالربانيين والأحبار في عدم قيامهم بدورهم المطلوب: ﴿لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُون﴾[8]

مما يعني ضرورة تصدّيهم للواقع الإجتماعي، الأمر الذي بات متروكاً بسبب عهود التقية الماضية، ولكن الحقيقة أن العلماء هم قيادات المجتمع الإسلامي، سواءً كانوا مبسوطي اليد وبيدهم الحكم أم لم يكن كذلك، فمرجع التقليد مرجعٌ للناس، سواءً كان في السجن أو المهجر أو حالة التقية أو ما أشبه، فالإمام الكاظم عليه السلام كان إمام الأمة وهو في السجن، وإبنه الرضا كان إماماً وهو على كرسي ولاية العهد.

 


[4] قال تعالى في سورة (وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثيرٌ).

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo