< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

41/06/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: بحوث تمهيدية 2/ عن آية سؤال أهل الذكر

الحديث عن رجوع الجاهل إلى العالِم أو "التقليد" في القرآن الكريم، ليس سوى تأكيدٌ على ما وجدان كل إنسان، كما هي أغلب البصائر القرآنية التي تعدّ وجدانيةً لدى البشر، وإيرادها في الكتاب يهدف خلق القناعة التامة وإتمام الحجة على الإنسان.وقبل ذكر آيات الكتاب في هذا المجال، نتسائل عن كونها مطلقة أم لا، وبعبارةٍ أخرى، هل لسان النصوص الدال على التقليد، مطلقٌ وعام، فلا يكون فرقٌ في اتباع العالم بين الأعلم وغيره، وبين الإتباع في بعض الأحكام أم جميعها، أم أنها ليست كذلك فلابد من العمل بالقدر المتيقن، بأن يتم تقليد الأعلم والأورع، والقول بعدم جواز التبعيض أو تقليد الميت، وما أشبه.

ومن الضروري الإلتفات إلى هذه الحيثية أثناء مراجعة نصوص الباب، ومن أبرز تلك النصوص فيما يبدو قوله سبحانه: ﴿وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحي‌ إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون‌ * بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون﴾‌. [1] [2]

ولتبيين بصائر الآية، لابد من مناقشة كلماتها:الرجالهل المقصود بالرجال ما يقال النساء والأطفال؟لا يبدو أنها كذلك، فقد أرسل الرب سبحانه عيسى ويحيى عليهما السلام وهما صغيران، وكذلك استعملت كلمة "الرجال" في القرآن الكريم وشملت النساء، كما في سورة النور.

وفي لفظة "الرجال" ظلالٌ يدل على الكمال، كما في تعبير" الفتى"، ويبدو أن التعبير بـ "إلا رجالاً" جاء لبيان أنهم ليسوا ملائكةً، بل هم بشرٌ إلا أنّ ما يميّزهم عن سائر البشر، ليست قوة البدن أو وفرة المال، أو منعة العشيرة، بل هو الوحي الإلهي إليهم[3] [4]

الأمر بالسؤالهل السؤال في قوله تعالى ( فاسألوا) أمرٌ تشريعي أم تكويني،وبعبارة أخرى هل هو إمضاءٌ للحالة التكوينية لدى الناس من سؤال جاهلهم من عالمهم، أم إنه أمرٌ تأسيسي؟الحق أن ظاهر كلمات القرآن الكريم، التشريع والأمر فيها يدل على الوجوب، إلا في موارد محددة، كالأمر بعد الحضروما أشبه، وما نحن فيه ليس منها، فالأمر بالسؤال تشريعيٌ، لوجوب دفع الضرر عقلاً.من نسأل؟أمر الرب سبحانه أن يتم سؤال أهل الذكر، حيث قال: (فاسألوا أهل الذكر) فماذا تعني هذه الكلمة؟ولأنه كتاب بيان الحقائق، فإن القرآن يبين محور الحقيقة بما لها من شعب ومصاديق، ومحور كلمة أهل الذكر، تتضمن معنيان، هما العلم والوثاقة، فالمطلوب هو سؤال العالم المنتفع بعلمه الذي جعله من أهل الذكر.

والمقصود من الذكر، حضور العلم لدى الإنسان، فليس كل عالمٍ كذلك، لأنه قد يكون ناسياً لما علم أو غافلاً عنه، فأهل الذكر هم العارفون بربهم بحضور هذه المعرفة لديهم بشكلٍ مستمر، ويؤيد هذا المعنى ما ورد في قوله سورة النور، حيث قال الله سبحانه: ﴿في‌ بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ *رِجالٌ لا تُلْهيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ﴾ [5] فليست المعرفة لديهم معرفةً غائبة، بل حاضرةٌ، ولا يلهي عنها تجارةٌ أو بيع.

وبتعبيرٍ آخر: إن نور الرب في مشكاة العلم هو في بيوت، والمقصود من البيوت رجاله لا أحجاره -كما في الرواية- ويجمعهم الهدف والقيم المشتركة، ويبدو أن المراد في هذه الآية فاطمة الزهراء عليها السلام، لأنها هي محور بيت النبوة، فبيتوتة البيت بالمرأة، وكلمة الرجال تضمنّت المرأة في هذه الآية، وهؤلاء هم أهل الذكر حقيقة.

وعن معنى "الذكر" إختلف المفسرون: فقيل إنه القرآن، وقيل إنه النبي صلى الله عليه وآله، وبعضٌ قال بأن الذكر من الإستذكار والعلم والمعرفة [6] [7] [8]

ويبدو أنها جميعاً معانٍ صحيحة ولا تنافٍ بينها، ويدل على ذلك قوله سبحانه: ﴿وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون﴾ [9] ، فالقرآن الكريم ذكرٌ انزل على الرسول ولا معنى لكتابٍ بلا رسول، والرسول هو الآخر مذكّرٌ وذكر[10] [11] ، ولا يمكن أن يؤثر الذكر الإلهي من دون عقلٍ يستوعبه عبر التفكّر المنهجي.

البينات والزبرما معنى (بالبينات والزبر)؟

قيل: يعني أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر، أي أن ما أنزل إلى النبي هو البينات والزبر، أي بالبراهين والكتب. [12]

وقيل: إن معناه أنكم لا تعلمون بالبينات والزبر، برجوع الجار والمجرور إلى أقرب متعلق له، وهو (إن كنتم لا تعلمون)، ويعني ذلك من لا يعلم بالبينات والزبر يرجع إلى أهل الذكر العالمون بالبينات والزبر.وبذلك فإن الآية تبيّن أبرز صفات العلماء الذين لابد من إتباعهم، وهي إحاطتهم بالبينات والزبر، فما المقصود منهما؟

أما البينات، فالمقصود منها البراهين الواضحة، والآيات المحكمة في مقابل الآيات المتشابهة، قال الله سبحانه: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذي أُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى‌ وَ الْفُرْقانِ﴾[13] ، مما يعني ضرورة أن يكون لدى العالم البراهين والحجج الواضحة.

والزبر تعني الكتب، وذلك لأن الإنسان إما يكون مستحضراً للمعارف، أو يستحضرها بالرجوع إلى الكتب، فالزبر هي الدرجة التالية للبينات.دلالة الآيةمن خلال البيان الآنف، يظهر أن في الآية دلالة واضحة على ضرورة رجوع الجاهل إلى العالم، كما أنها تضمنت بعض صفات العلماء، ودلالتها مطلقة، وربما يمكن إستفادة العموم منها.

وبالتأمل في رواية الإمام الصادق عليه السلام: (فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ حَافِظاً لِدِينِهِ مُخَالِفاً عَلَى هَوَاهُ مُطِيعاً لِأَمْرِ مَوْلَاهُ فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ وَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْضَ فُقَهَاءِ الشِّيعَةِ لَا جَمِيعَهُمْ) ، [14] يلاحَظ أنها تبيانٌ وتفسيرٌ لهذه الآية الشريفة، حيث لا يجوز الرجوع إلى كل عالمٍ، بل إلى أهل الذكر منهم، كما لا يقصد من العالم العالم بالعلوم المختلفة، بل العالم بالبينات والزبر.

والذي يبدو لنا، أن هناك أكثر من آية ورواية تدل بالإطلاق على عودة الجاهل إلى العالم، نعم، إن كان العالم أعلم وأتقى كان ذلك أفضل، ولكن في النصوص ما يكفينا إطلاقاً وعموماً لعودة الجاهل إلى العالم، ضمن سائر الشروط، مثل عدم تقليد المرأة وغيرها من المحددات التي وردت فيها الأدلة الخاصة، والله العالم.


[2] وقريبٌ من هذه الآية، هي الآية السابعة من سورة الأنبياء، حيث قال الله سبحانه: (وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحي‌ إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون‌)، ولكن حيث كان السياق في سورة النحل أكثر تفصيلاً لبيان الموضوع، ركّز السيد المرجع الوالد الحديث عنها. [المقرر].
[4] قال الله سبحانه في: (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‌ إِلَيَّ).
[8] الإختلاف بينهم تارةً في بيان معنى لفظة "الذكر"، إلى الأقوال التي ذكرت في المتن، وتارةً الإختلاف في بيان المراد من أهل الذكر، حيث قال بعضٌ بأن المقصود هم أهل الكتاب، وقيل إنهم أهل القرآن، وقيل إنهم أهل العلم مطلقاً، وقيل إن المقصود هم أهل البيت عليهم السلام، أنظر:.
[11] قال الله سبحانه: (قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّنات‌).

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo