< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

41/06/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: تمهيدات / آياتٌ عن مقام العلم والعلماء

قبل الشروع بالحديث عن باب الإجتهاد والتقليد، الذي يعدّ من أهم الأبواب الفقهية لإرتباط سائر الأبواب به إرتباطاً وثيقاً، نذكّر ببعض المقدمات:الأولى: الدعوة إلى الفقه القرآنينحن ندعو إلى فقهٍ قرآني ولا يعني ذلك أن فقنها منفصلٌ عن القرآن، بل يعني وجود فجوةٍ -ولا سيما في بعض الأبواب- بين المباحث الفقهية والآيات القرآنية، ولربما يتم الرجوع -للإستدلال بالمسائل الفقهية- إلى مباحث مختلفة دون التعرض لآيةٍ قرآنية.ويعود السبب في ذلك إلى أمرين:

الأول: البناء القرآني للمجتمع الإسلامي سابقاً، حيث كان الإعتماد على آيات القرآن حتى في تعلم الهجاء والكتابة، الأمر الذي كان يغني الفقيه عن إظهار العلاقة بين الفقه والقرآن كثيراً، أما اليوم حيث استبدلت هذه الحالة في المجتمع ولم تعد الثقافة العامة ثقافة قرآنية، كان لزاماً تغيير الأسلوب في تحرير الفقه ومناقشة مسائله.

الثاني: التخصص في الفقه ومسائله، -بالرغم من فائدته للتعمق في المسائل- إلا أنه يؤدي إلى الغياب عن رؤى القرآن الكريم وبصائره، والحال أن التخصص في مجالٍ ما ينبغي أن لا يمنعنا من الرؤية العامة للدين، وعلى رأسها القرآن الكريم، وكذلك الأحاديث المحكمة والأدعية الشريفة التي ورد فيها جملة من القيم التي نحتاج إليها في المسائل الفقهية.

الثانية: المرجعية سور المجتمعنظام "المرجعية " أو "ولاية الفقيه" وجوهرها: (رجوع الجاهل إلى العالم) سورٌ للمجتمع، ومن هنا؛ فإن هذا النظام هو محور هجمات أعداء الدين، منذ السقيفة وإلى اليوم وحتى ظهور الإمام الحجة عجل الله فرجه، ولابد من الإلتفات إلى هذه الحقيقة.

والذين يسعون في مواجهة النظام المرجعي -وإن لم يصرّحوا بذلك، فإنهم يقومون بذلك لعلمهم أن ضعف هذا النظام أو إنهياره، يؤدي بالمجتمع الإسلامي كله إلى الضعف والإنهيار، ومن هنا فإن الله سبحانه يقدّم ولاية المؤمنين على بعضهم البعض، على سائر ركائز الشرع، حيث قال سبحانه: ﴿وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ يُطيعُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيم﴾[1]

وقبل أن يكون هذا النظام سياسياً، فإنه نظامٌ إجتماعي جعله الله سبحانه في خلقه، وقد روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: "لَوْ لَمْ يَبْقَ فِي الْأَرْضِ إِلَّا اثْنَانِ لَكَانَ أَحَدُهُمَا الْحُجَّةَ". [2]

فليس نظام المرجعية خاصّاً بالحقل السياسي، بل إن بناء المجتمع الإسلامي كان على أساس بصيرة المرجعية بما فيها من أحكام شرعية كثيرة، ولابد من الإلتفات إلى هذه النقطة وعدم التنازل عن هذه الحقيقة، لأن التنازل عنها تنازلٌ عن سور المدينة.

ونعم ما فعل علماؤنا المتأخرين من جعل هذا الموضوع هو الأول في الفقه، خلافاً للسابقين الذين جعلوه في باب القضاء أو باب الولاية على الصغير في كتاب البيع[3] .

الثالثة: مباني الباب

الحديث عن الاجتهاد والتقليد، قد يعتمد على الأدلة عقلية، وقد يعتمد على النقلية منها، وسنتعرض لكلا الجانبين، فبالرغم من أن صعوبة الإستدلال لكل الأحكام بالعقل، إلا أن العقل المستنير بالقرآن الكريم والذي تزكّى بتزكية النبي واهل بيته -وهو الحجة- ينبغي أن يعتمد حتى في تفاصيل الأحكام، ولا نعني كل عقلٍ إنما العقل البعيد عن الهوى والحميّات.[4]

آيات الإجتهاد:الآيات التي يمكن أن تستفاد كمبانٍ لهذا الباب على ثلاثة أقسام، قسمٌ منها تدعو إلى العلم وتبين مقام العلماء، وقسمٌ تؤد على أن العلماء مرجعية الأمة التي ينبغي الرجوع عليهم، وقسمٌ ثالث تبين القيادة السياسية للعلماء في الأمة.أولا: دور العلم والفقه ومقامه:

قال الله سبحانه : ﴿وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ في‌ ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمين﴾[5]

وقال تعالى: ﴿وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُون﴾ [6]

يستفاد من الآية في سورة الروم، وجود علاقة وثيقة بين الدين والعلم، إذ لا يمكن للإنسان أن يعرف الدين بعيداً عن طريق العلم، فالعالم هو الذي يفهم معنى الإختلاف وكيف أن الله جعل لكل شيءٍ قدر، وكل شيءٍ جعل ضمن الهدف الذي خلق له فيه كل المقومات الموصلة إلى ذلك الهدف، كما أن العالم وحده هو الذي يعقل الأمثلة التي يضربها القرآن الكريم، كما تبين ذلك الآية في سورة العنكبوت.ويستفاد من التعبير بـ "إختلاف ألسنتكم" في الآية، الإختلاف في العقول، وإختلاف "الألوان" يفيد إختلاف العواطف بين البشر.

وأيضاً في إختلاف المخلوقات قال الله سبحانه: ﴿وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ غَفُور﴾ [7]

والعالم وحده هو الذي يدرك معنى الإختلاف في ألوان الخليقة، وما ورائها من حقائق، ويورث ذلك الخشية من الله سبحانه، فالعالم الذي يستوعب هذه الآيات يخشع قلبه، ومنه يظهر أهمية العلم.

وعن دور هذا العالم في المجتمع قال تعالى :﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا قيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَ إِذا قيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبير﴾.[8]

فالعالم الذي فهم الآيات وخشي الله سبحانه، ينبغي أن يحترم في المجتمع، فدرجاته أرفع من غيره ممن لا علم له، وهي حصيلة علمه وخشيته من الله سبحانه.

وعن العلم المرتبط بالرسالة، قال الله سبحانه : ﴿أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى‌ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْباب﴾[9]

فقد شبّه الرب سبحانه غير العالم بالأعمى، وذلك لعدم قدرته على كشف الحقائق وتبصّرها.

وقال تعالى : ﴿أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْباب﴾‌. [10]

تهدف هذه الآية إثارة وجدان قارئها، فهل ثمة تساوي بين العالم وغير العالم؟ولا يتذكر هذه الحقيقة إلا ذوي الألباب، الذين جعلوا العقل قائد قلوبهم.

[3] ومنهم من بحث الأمر في باب الحدود وإجرائها، كما أن الكثير منهم تعرّض للمسألة في مباحث علم الأصول. [المقرر].
[4] يرى السيد المرجع المدرسي دام ظله، التطابق بين أحكام العقل -المعصوم من الخطأ والذي عرّفته النصوص الشريفة ودلّت عليه- وأحكام الشرع، قال في التشريع الإسلامي: ج1، ص75: " تعالوا قبل أن نخوض في الأدلة القياسية التي ساقها البعض على مدى التطابق بين العقل والشرع، وأنّه ما حكم العقل بشي‌ء كشف عن حكم الشرع أيضاً، تعالوا قبل ذلك نبحث في أحكام العقل والشرع ما هي؟ أليس العقل يهدينا إلى أنّ في خلق السموات والأرض آياتٍ تدلنا على خالقٍ عزيز حكيم، وأنّ من حكمته البالغة هدايته للإنسان عبر الرسل، وأنّ الإنسان رهين ما اكتسب، إنْ خيراً فخير وغن شرّاً فشرّ، وأنّ الصدق والوفاء والإحسان والعدل والنشاط والتعاون، والإيثار هي الخصال الحميدة، وأنّ أضدادها هي الصفات السيئة، وأنّ الكبر والحسد والحقد والنفاق وسوء الأخلاق هي الرذائل الذميم وأضدادها المثل العليا؟.وإذا كانت هذه هي أحكام العقول، ووصية الحكماء من الناس، فما هي أحكام الشريعة! أَوَلَيست مثل ذلك، أيُّ حكمٍ في كتاب الله لا يصدقه العقل، ولا يتواصى به العرف؟ بلى، قد يكون الإنسان غافلًا أو ناسياً فإذا ذكّره الوحي تذكّر واستبصر، ووجد أنّ النور الذي يشعّ من مشكاة الوحي هو ذاته النور الذي يضي‌ء في فؤاده.وإنّ هذا التطابق هو أكبر شهادةٍ على صمدنق الرسول، وأعظم حجة لله على الناس، والى هذه الحجة تعود سائر الأدلة التي اعتمدها الحكماء والمتكلمون في صدق الرسالات. وهذا التطابق هو الذي جعل الرسول والعقل حجةً واحدة، فذاك عقل ظاهر، وهذا رسول باطن ..وهذه الأحكام العامة التي يتطابق الوحي والعقل فيها هي مصدر سائر الأحكام الجزئية التي تخص الظواهر المحددة والمتغيرات.ولا يعجز العقل المستنير بالوحي معرفة حكم واقعة جزئية استنباطاً من تلك الأحكام العامة. ولذلك كان الشرع كاملًا حيث قال ربّنا سبحانه: (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نِعمتي ورضيتُ ركُمُ الإسلامَ ديناً)". [المقرر].

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo