< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

41/03/25

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الموصى به 12/ إقرار الموصي

هناك بحثٌ حول إقرار الموصي قبل وفاته، حيث نجد أن هناك روايات تشكك في هذا الإقرار وتشترط للاخذ به بعض الشروط، بينما هناك رواياتٌ عامة لقبول الإقرار، واختلف الفقهاء في توجيه هذا الإختلاف، وقبل الخوض في المسألة، لابد أن نمهد بتمهيد:

الأدلة الشرعية إبتداءاً من الإقرار الذي هو سيد الأدلة وإستمراراً بالبينة وبالشاهد العادل الواحد، واليد وسائر الأدلة التي تقام لإثبات شيءٍ ما، هل هي تأسيسٌ أم تأكيد، وبعبارة أخرى، هل هي أدلةٌ عقلية وعرفية أمضاها الشارع، أم أسسها الشارع كأدلة لإثبات الحقائق؟

نحن نرى أنها جائت لتأكيد ما لدى البشر، فكلهم، منذ القِدم إعتمدوا عليها لإثبات الحقائق، فكان الإقرار ولا يزال دليلاً على إثبات الحقائق، وهذا لا يقتصر على الأمور الشرعية بل يعم كل الأمور الحياتية، وهكذا يكون الأصل فيما لو شكّ في حكمٍ أنه تأسيسيٌ أم إمضائي هو إعتباره من الإمضائيات.

ومن هنا، ففي الأدلة العرفية لابد من الرجوع إلى العرف لمعرفة مدى حجية الدليل، توضيح ذلك: إذا إعتمدنا -سوق المسلمين- كدليل لحلية ما في السوق، ولكن سوقاً للمسلمين كان يعتمد كلياً على إستيراد البضائع من بلاد الكفر، فإن قاعدة سوق المسلمين لا يمكن الإعتماد عليها.

وكذا في قاعدة (اليد) حيث يعتمد عليها لإثبات مالكية الشخص للشيء، ولكن إذا حدث وأن هجر أهل بلدةٍ بيوتهم، واغتصبها آخرون، وعلمنا إجمالاً بأن أغلب بيوت البلدة مغصوبة، فلا يمكن إعمال قاعدة اليد لإثبات الملكية.

وهكذا الإقرار، فهو حجةٌ في مقام الإثبات، ولكن هل يجوز إقرار العقلاء على غيرهم، كما لو علمنا أن الموصي إنما يقر بشيءٍ للإضرار بورثته؟

كلا؛ لا يعدّ هذا الإقرار حجةً، لأن هناك سياقات عرفية تنفي حجية هذا النوع من الإقرار، ويبدو أن صاحب الجواهر عدّ إقرار المريض من هذا النوع، وعلّق المرجع الشيرازي على ذلك بأن كل إقرارٍ له جانبٌ يرتبط بالآخرين -كما مرّ الحديث عن ذلك-، ومثّلنا بالإقرار بزوجية المرأة حيث يستتبع أحكاماً عليها أيضاً.

والحق، أن هناك فرقٌ بين الحالتين، فتارةً يكون لحاظ المقر نفسه وتتعلق به تبعاتٌ خارجية، ولكن قد يكون لحاظ الإقرار هو الآخر في أصل الإقرار، فالمريض المشرف على الموت تقع إقراراته أصلاً على الآخرين لا على نفسه، وحتى في مثل الإقرار بالزوجية لو كان لحاظه الإقرار على الغير لا يقبل.

وفيما نحن فيه هناك رواياتٌ مختلفة، في قبول الإقرار وتقييده بشروط والمنع من قبوله، حتى قال البعض[1] بأن الروايات المانعة وردت للتقية، ولكن جمع صاحب الوسائل بينها جمعاً دلالياً[2] ، بحمل الروايات المطلقة على الروايات المقيدة، حيث لوحظ حالة الشك بصحة الإقرار إذا اتهم الموصي بكون إقراره على الآخرين لا على نفسه.

ونحن نرتضي ذلك، لأنا حيث ندرس تعابير النصوص، نجد أن قبول الإقرار وعدمه يتمحور حول مدى إطمئناننا بالإقرار أو عدم الإطمئنان، ولذلك فإن الوجه الذي أفاده الحر العاملي وجيهٌ.

الروايات

وأما الروايات في المقام، فتدل بعضها كصحيحة أبي ولاد على حجية الإقرار بشكلٍ عام:

     عَنْ أَبِي وَلَّادٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام- عَنْ رَجُلٍ مَرِيضٍ أَقَرَّ عِنْدَ الْمَوْتِ لِوَارِثٍ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ قَالَ يَجُوزُ ذَلِكَ قُلْتُ فَإِنْ أَوْصَى لِوَارِثٍ بِشَيْ‌ءٍ قَالَ: "جَائِزٌ"[3] .

وفي المقابل دلّت بعض الروايات على قبول الإقرار بشرط الإطمئنان إلى قول الموصي:

     منصور بن حازم قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام- عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ دَيْناً فَقَالَ: "إِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مَرْضِيّاً فَأَعْطِهِ الَّذِي أَوْصَى لَهُ"[4] .

     عَنِ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: "قُلْتُ لَهُ الرَّجُلُ يُقِرُّ لِوَارِثٍ بِدَيْنٍ فَقَالَ يَجُوزُ إِذَا كَانَ مَلِيّاً"[5] .

     عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام، عَنْ رَجُلٍ أَقَرَّ لِوَارِثٍ لَهُ وَ هُوَ مَرِيضٌ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ قَالَ: "يَجُوزُ عَلَيْهِ إِذَا أَقَرَّ بِهِ دُونَ الثُّلُثِ"[6] .

وهكذا تقيّد صحيحة أبي ولاد بما لو لم يكن الموصي متهماً.

 

الوصايا المختلفة

إذا أوصى الموصي بجملة وصايا مترتبة أو متناقضة، فهل تعدّ الثانية ناسخةً للأولى فنعمل بالثانية، أم إذا كانت مكملة للأولى، أو في ذات الوصية هناك عدة وصايا، فأيها يكون مقدماً؟[7]

الوصايا التي ترجع إلى الدين تقدم على غيرها للآية القرآنية[8] ، والدين على قسمين، دين الله ودين عباده، ومثال الأول الحج والزكاة وما أشبه، وأما دين العباد فكل دينٍ للناس، وحيث لا دليل على تقديم أحدهما على الآخر يصار إلى التخيير في المقام.

فعن معاوية بن عمار، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل مات فأوصى أن يحج عنه، قال: إن كان صرورة فمن جميع المال، وإن كان تطوعاً فمن ثلثه([9] ).

وفي حديث آخر، عنه (عليه السلام)، قال: يقضى عن الرجل حجة الإسلام من جميع ماله([10] ).

وعن حارث بياع الأنماط، إنه سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن رجل أوصى بحجة، فقال: إن كان صرورة فهي من صلب ماله إنما هي دين عليه، وإن كان قد حج فهي من الثلث([11] ).

أما صحيح معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، في رجل توفي وأوصى أن يحج عنه، قال: إن كان صرورة فمن جميع المال، إنه بمنزلة الدين الواجب، وإن كان قد حج فمن ثلثه، ومن مات ولم يحج حجة الإسلام ولم يترك إلاّ قدر نفقة الحمولة وله ورثة فهم أحق بما ترك، فإن شاؤوا أكلوا، وإن شاؤوا حجوا عنه([12] ).

 

وتحمل هذه الرواية الأخيرة على حالة تضرر الورثة ببذل المال للحج، والله العالم.


[1] وهو الشيخ قدس سره، كما حكى ذلك عنه الحر العاملي في الوسائل: ج19، ص296.
[2] قال في الوسائل: ج19، ص296: "بَابُ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ وَ غَيْرِهِ بِدَيْنٍ وَ أَنَّهُ يَمْضِي مِنَ الْأَصْلِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَ يَكُونَ الْمُقِرُّ مُتَّهَماً فَمِنَ الثُّلُث‌". [المقرر].
[3] الكافي: ج7، ص42.
[4] الكافي: ج7، ص42.
[5] الكافي: ج7، ص41.
[6] الكافي: ج7، ص42.
[7] وهذا في حال عدم كفاية الثلث لها جميعاً.
[8] سورة النساء، الآية 11 والآية 12.
[9] () الوسائل: ج13 ص426 الباب41 من أبواب الوصايا ح3.
[10] () الوسائل: ج13 ص425 الباب40 من أبواب الوصايا ح1.
[11] () المستدرك: ج2 ص525 الباب36 من أبواب الوصايا ح1.
[12] () الوسائل: ج8 ص46 الباب8 من أبواب الحج ح4.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo