الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي
بحث الفقه
41/03/24
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: الموصى به 11/ الوصية بالواجب – الإقرار بالدين
من أوصى بدينٍ أو كفارةٍ أو نذرٍ أو خمسٍ أو زكاة، أو أوصى بحجٍ واجب، فإنها تؤخذ جميعاً من أصل تركته، وذلك لتبيين القرآن الكريم[1] بأن التركة تحتسب بعد الوصية والدين، وهذه جميعاً ديونٌ بذمته يجب أن تخرج من أصل التركة.
وهل يشمل الحكم إذا أوصى بدفع مالٍ لقضاء صلاته أو صيامه، أو سائر الواجبات غير المالية؟
ذهب المشهور إلى أنها تخرج من الثلث لا من أصل المال[2] ، واستدلوا على ذلك بجملة أدلة، أبرزها أصالة كون الوصايا في حدود الثلث، وقد خرج منها الدين قطعاً، فيبقى ما شكّ في خروجه على حاله، نعم خالفهم في ذلك جملةٌ من العلماء[3] ، واستدلوا بأدلةٍ مقابلة.
ولحل النزاع لابد أن نتسائل أولاً عن الواجب على الإنسان إن إشتغلت ذمته بقضاء الصلاة والصيام، هل هو دفع المال ليصلى ويصام عنه بعد وفاته؟
والجواب على ذلك، أنا لم نجد دليلاً يثبت ذلك، بل الثابت هو وجوب القضاء على وليه، فإن لم يقدر إستأجر من يقوم بقضائها، أو يقوم متبرعٌ بذلك عنه، فالقضاء إما يكون واجباً عليه في حياته أو وليّه بعد وفاته.
وحيث لم يثبت وجوب الإيصاء بها مالياً، لا يمكن القول بكونها كالديون الواجبة، بل هي مثل الصدقة وما شابهها من المستحبات التي تكون في الثلث.
أدلة القائلين بالإخراج من أصل التركةعمدة أدلة القائلين بإخراج المال من الأصل هو قياس الأولوية، بتقريب: أن الصلاة أعظم من الحج، فهي إن قبلت قبل ما سواها، وإن ردّت ردّ ما سواها، فيخرج لها من أصل التركة كما في الحج، وكذلك الأولوية من جهة كون حق الله – الصلاة والصيام- أولى من حق الناس – ديون الناس- وقد ثبت خروج الديون من أصل التركة وكذا الصلاة.
ولكن هذا أشبهٌ بالإستحسان منه إلى الأدلة، كما يرى ذلك المرجع الشيرازي قدس سره[4] ، هذا فضلاً عن جعلها من أصل المال قد يؤدي إلى إضاعة حقوق الورثة.
روايات المقامأما روايات المقام الدالة على إخراج مال الحج وسائر الديون الواجبة من أصل التركة فهي:
• عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام فِي رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ، قَالَ: "إِنْ كَانَ صَرُورَةً فَمِنْ جَمِيعِ الْمَالِ إِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ، وَ إِنْ كَانَ قَدْ حَجَّ فَمِنْ ثُلُثِهِ"[5] .
• عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ فِي امْرَأَةٍ أَوْصَتْ بِمَالٍ؟ فِي عِتْقٍ وَ صَدَقَةٍ وَ حَجٍّ فَلَمْ يَبْلُغْ قَالَ عليه السلام: "ابْدَأْ بِالْحَجِّ فَإِنَّهُ مَفْرُوضٌ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ فَاجْعَلْهُ فِي الصَّدَقَةِ طَائِفَةً وَ فِي الْعِتْقِ طَائِفَةً"[6] .
وبحسب مفتاح الكرامة فإن هذه الرواية وردت عن طرقٍ مختلفة بلغت الخمسة، وهي تدل على إخراج الدين من أصل المال.
وعبارة ( إنه بمنزلة الدين الواجب) في الرواية الأولى بيانٌ لعلة إخراج مال الحج من أصل التركة، والعلة المنصوصة تشمل كل الموارد المتحدة في السبب، كالزكاة والخمس، حيث أنهما من الديون في ذمة الإنسان وإن لم يرد فيها نصٌ خاص، خصوصاً إذا قلنا بتعلق الزكاة بالعين.
وهل تشمل العلة المنصوصة الواجبات البدنية أيضاً؟
يجيب المرجع الشيرازي قدس سره: " لكن احتمال اختصاصها بالواجبات المالية كاف في المنع عن خروج البدنية عن الأصل للانصراف"[7] .
تحديد الوصية الواجبة بالثلث
إذا أوصى بالحج الواجب مع تعيينه من الثلث، ولم يفِ الثلث بذلك، فلا يؤبه بالتعيين، بل تؤخذ الأجرة من أصل التركة، نعم إن كان الثلث وافياً بذلك أخرج منه، فإذا كان قد أوصى بجملة وصايا من جملتها الحج، قدّم الحج على سائر الوصايا، كما يستفاد ذلك من الخبر السابق.
الإقرار بالدينلو أقر بدينٍ في ذمته، فهل يقبل إقراره ويخرج الدين من أصل التركة، أم يحدد ذلك بالتركة، وذلك فيما لو شكّ بإقراره لإحتمال الورثة بأن لا يقصد الموصي بذلك إلا منع الورثة من التركة، أو الإضرار بهم؟
في مثل هذه الحالات، إن كان الظاهر أقوى من الأصل كما لو كان بين الموصي وورثته عداءٌ، أو كان مليّاً لا يستدين المال من أحدٍ، فإنه يحكم بالظاهر، وعدم صدقه في إقراره.
ومن هنا، نجد تقييد الأخذ ببعض الإقرارات، بما لو كان الرجل مرضيّاً ومصدّقاً في قوله:
• منصور بن حازم قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام- عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ دَيْناً فَقَالَ: "إِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مَرْضِيّاً فَأَعْطِهِ الَّذِي أَوْصَى لَهُ"[8] .
• عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام، عَنْ رَجُلٍ أَقَرَّ لِوَارِثٍ لَهُ وَ هُوَ مَرِيضٌ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ قَالَ: "يَجُوزُ عَلَيْهِ إِذَا أَقَرَّ بِهِ دُونَ الثُّلُثِ"[9] .
فبالرغم من كون الدين من أصل المال، إلا أن الإمام عليه السلام حدّده بما لو أقر به دون الثلث، لقيام شبهة عدم صحة الإقرار.
• عَنِ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: "قُلْتُ لَهُ الرَّجُلُ يُقِرُّ لِوَارِثٍ بِدَيْنٍ فَقَالَ يَجُوزُ إِذَا كَانَ مَلِيّاً"[10] .
وهذه الرواية هي الأخرى توكل الأمر إلى ظاهر الأمر، فبالرغم من جواز الإقرار، إلا أن الإقرار قد يشوبه الشبهات فيصعب الأخذ به، والله العالم.