< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

41/03/13

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الموصى به 6/ تحديد الوصية بالثلث 5/ رجوع الورثة عن الإجازة بداعي عدم العلم بقدر الموصى به

 

من المسائل المتعقلة بأكثر من بابٍ فقهي، الإشتباه في التطبيق، حيث يختلف القصد عن المُظهر الخارجي، فقد يقول المرء شيئاً إعتماداً على معلومةٍ فيتبين خطؤها، فهل يترتب على قوله شيءٌ أم لا؟

ومن الأبواب التي يظهر الخلاف في المسألة فيها، هو باب القضاء، حيث لابد للقاضي من تعيين المدعي عن المنكر، فهل يعتمد في التحديد على مصب الدعوى أم على نتيجتها وغايتها، إذ قد يتمكن المدعي أن يصيغ دعواه بطريقة يظهر نفسه منكراً ويجعل المنكر مدعياً.

ذهب البعض[1] إلى أن العبرة هي بظاهر الكلام، لأنه إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام، أما القصد الباطني فلا علم لنا به، ولهذا يكون المعتمد على ظاهر اللفظ، وذهب آخرون إلى أن المهم هو القصد لا مجرد اللفظ، فالمحتوى هو المعتمد لا الإطار، وبعبارة اخرى: الحقيقة هي المعتمدة دون التعبير المظهر لها، ومن هنا إذا قال شخصٌ "بعتك الدار" وكان قصده بيع البستان، فلا يؤبه بتصريحه ب"الدار"، وذلك لأن العقود تابعةٌ للقصود، وكان قصده هو البستان لا الدار.

مضافاً إلى النصوص الشريفة الدالة على حصر الأعمال بالنيات " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَ لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى‌"[2] ، وقوله سبحانه: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى‌ شاكِلَتِه﴾[3] التي فسرته النصوص بالنية[4] .

وكذلك الآيات الدالة على أن الله سبحانه يحاسب العباد على ما في قلوبهم إن خيراً أو شراً، كقوله سبحانه: ﴿لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في‌ أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ﴾[5] ، وقوله تعالى: ﴿لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‌ مِنْكُمْ﴾[6] .

وهكذا كانت العقيدة في أساسها هي النية القلبية وعقد القلب، لا ما يظهرها، ومن هنا قال ربنا تعالى في حادثة تقية عمار: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإيمانِ﴾[7] .

وهكذا نجد القصد هو المحور ليس في باب العقائد والأخلاق فقط، بل في مختلف أبواب الفقه الإسلامي.

وفيما نحن فيه إن أجاز الورثة الوصية بأكثر من الثلث، ولكنهم اكتشفوا بعدئذٍ بأن ما يملكه الميت أكثر بكثير مما ظنوا سابقاً، فهل لهم أن يرجعوا عن إجازتهم بداعي عدم علمهم السابق أم لا؟

وكذا لو قيل لوارثٍ بأن الموصي أوصى بإعطاء ثلث ماله لشخص وثلثٌ آخر لآخر، فأجاز الوارث بشرط أن لا يزيد الثلث عن المليون -مثلاً- فإذا تبين كونه كذلك، فإنه لا إجازة في الزائد، ولكن إن لم يتلفظ بهذا الشرط ولكنه نواه فعلاً، حيث لم يكن يرى إمتلاك مورثه أكثر من مليون -لإخفاء الموصي جملةً من أمواله عنه- ، فيكون شرطه بينه وبين الله سبحانه، فهل نلزمه بظاهر كلامه أم نلتزم بشرطه القلبي؟

وبعبارة أخرى: كان رضاه وإجازته بالزائد عن الثلث مقيدة بما لو كان الزائد عن الثلث بقدر مليون دينار مثلاً، أما إذا كان أكثر من ذلك فهو ليس براضٍ، ففي هذه الحالة يكون ذلك كالشرط الضمني الذي ينبغي الوفاء به وإن لم يصرّح به، كسائر الشروط الضمنية. وهذا في مقام الثبوت، أما في مقام الإثبات فذلك شأنٌ آخر.

نعم؛ قد يعقد الإنسان العزم ويقصد شيئاً إعتماداً على معلوماتٍ خاطئة، من دون أن يقيد قصده على تلك المعلومات، كما لو باع بيته ظناً منه أن الدولة توفر له أرض سكنى، فتبين خطأ ظنه، فإن البيع لا يبطل لأنه لم يقيّد بيعه لا تصريحاً ولا ضمنياً بهذا الأمر.

وذلك لأن قصد الإنسان وعزمه يعتمد على جملة من الدواعي والمقتضيات، كما لو أراد أن يسافر أحدهم للنجف، فإنه يقصد الزيارة والصلاة في مسجد السهلة، وصلة الأرحام، ومرافقة الأصدقاء و غيرها من الدواعي، وليس بالضرورة أن يقيد قصده بكل تلك الدواعي بحيث لا يريد العقد إلا بتوفرها جميعاً، بل يكون قصده الأصلي واحداً منها.

وفي باب الإجازة بالوصية، إذا أعلن قبوله بأكثر من الثلث، فأراد لاحقاً الرجوع عن الإجازة، لكن ليس من جهة الشرط، بل من جهة أنه كان يتصور حصوله على مالٍ وتبين خطأ تصوره، فلا يقبل رجوعه، لأنه لم يكن شرطاً ولو ضمنياً، بل كان داعياً للقبول، وعرفت أن الدواعي ليست كلها شروطاً في العقد.

وهذا هو الرأي المعتمد عندنا، لأنا نعتمد على المحتوى في القضايا المختلفة، ولذلك إخترنا في باب القضاء أن المعتمد هو مآل الدعوى لا مصبها الظاهري.

قال العلامة الطباطبائي قدس سره: "ذكر بعضهم أنه لو أوصى بنصف ماله مثلا فأجاز الورثة ثمَّ قالوا ظننا أنه قليل قضى عليهم بما ظنوه و عليهم الحلف على الزائد (على الفارق بين ما ظنوه وبين ما هو موجود) فلو قالوا ظننا أنه ألف درهم فبان أنه ألف دينار قضى عليهم بصحة الإجازة في خمسمائة درهم و أحلفوا على نفي ظن الزائد فللموصى له نصف ألف درهم من التركة و ثلث البقية، وذلك‌ ‌لأصالة عدم تعلق الإجازة بالزائد، وأصالة عدم علمهم بالزائد (عن الألف درهم ، ولا يعمل وفقاً للأصول العدمية، مطلقاً، بل بحاجة في تطبيقها إلى القضاء للإختلاف في الموارد) بالزائد بخلاف ما إذا أوصى بعين معينة كدار أو عبد فأجازوا ثمَّ ادعوا أنهم ظنوا أن ذلك أزيد من الثلث بقليل فبان أنه أزيد بكثير فإنه لا يسمع منهم ذلك لأن إجازتهم تعلقت بمعلوم و هو الدار أو العبد، ومنهم من سوى بين المسألتين في القبول و منهم من سوى بينهما في عدم القبول وهذا هو الأقوى (من عدم سماع كلامهم اللاحق مطلقاً) أخذا بظاهر كلامهم في الإجازة، كما في سائر المقامات، كما إذا أقر بشي‌ء ثمَّ ادعى أنه ظن كذا أو وهب أو صالح أو نحو ذلك ثمَّ ادعى أنه ظن كذا فإنه، لا يسمع منه، (ولكنا قلنا بأن المحور هو الحقيقة، نعم إذا لم نستطع إثبات الواقع فذاك بحثٌ آخر، أما لو علمنا بصدقهم يقيناً، ففي هذه الحالة ينبغي قبول كلامهم) بل الأقوى عدم السماع حتى مع العلم بصدقهم في دعواهم إلا إذا علم كون إجازتهم مقيدة بكونه بمقدار كذا فيرجع إلى عدم الإجازة و معه‌ا ‌يشكل السماع فيما ظنوه أيضا‌"[8] .

 


[1] كما سيأتي من تقوية العلامة الطباطبائي قدس سره لهذا الرأي. [المقرر].
[2] مصباح الشريعة: ص53.
[3] سورة الإسراء: الآية 84.
[4] أنظر: تفسير القمي: ج2، ص26، وروي عن أبي عبد الله عليه السلام: " أَلَا وَ إِنَّ النِّيَّةَ هِيَ الْعَمَلُ ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ عَزَّ وَ جَلَّ- قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى‌ شاكِلَتِهِ‌ يَعْنِي عَلَى نِيَّتِهِ" ( الكافي: ج2، ص85). [المقرر].
[5] سورة المائدة: الآية 89.
[6] سورة الحج: الآية 37.
[7] سورة النحل: الآية 106.
[8] العروة الوثقى: ج2، ص891-893.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo