< قائمة الدروس

الأستاذ السيد محمدتقي المدرسي

بحث الفقه

41/03/07

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: تحديد الوصية بثلث المال/1

 

من المسائل المتعلقة بالموصى به، أن الوصية لا تنفذ في أزيد من ثلث المال، فبالرغم من أن آيات الوصية مطلقة من هذه الجهة حيث يقول سبحانه: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصي‌ بِها أَوْ دَيْنٍ﴾[1] ، إلا أن الأحاديث المتظافرة دلّت على التحديد، وقام المشهور على ذلك[2] ، والأصل قد يؤيده أيضاً.

نعم، ذهب ابن بابويه من فقهائنا السابقين إلى نفاذ الوصية في كل المال[3] ، إلا أن من تأخر عنه رفضوا ذلك، واستدل إبن بابويه على بعض الروايات التي يظهر منها نفاذ الوصية في كل المال، خلافاً للنصوص المحددة بالثلث، وقد حملت الروايات المطلِقة على حال رضا الورثة أو عدم وجودهم، خصوصاً وأن حديثين من ثلاث في هذا المجال جاءا في إطار نقل سيرة المعصوم عليه السلام وهي مجملة.

قال العلامة الطباطبائي قدس سره: " يشترط في نفوذ الوصية كونها بمقدار الثلث أو بأقل منه‌ فلو كانت بأزيد بطلت في الزائد (أو بتعبير أدق: ردّت إلى الثلث) إلا مع إجازة الورثة بلا إشكال و ما عن علي بن بابويه من نفوذها مطلقاً على تقدير ثبوت النسبة شاذٌ ولا فرق بين أن يكون بحصة مشاعة من التركة أو بعين معينة، ولو كانت زائدة و أجازها بعض الورثة دون بعض نفذت في حصة المجيز فقط و لا يضر التبعيض كما في سائر العقود فلو خلف ابنا و بنتا و أوصى بنصف تركته فأجاز الابن دون البنت كان للموصى له ثلاثة إلا ثلث من ستة و لو انعكس كان له اثنان و ثلث من ستة‌"[4] .

نصوص المقام

والعمدة في الإستدلال على هذا الحكم هو النصوص الشريفة، ويظهر منها التسليم بعدم النفاذ في أزيد من الثلث، بعد تساؤل الرواة عن بعض التفاصيل والفروع، كما في حالة جمع الموصي العتق وسائر الوصايا أيها يقدم إن لم يسع الثلث لهما جميعاً، وفيما يلي بعض تلك النصوص:

     عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ وَ أَعْتَقَ مَمْلُوكَهُ فِي مَرَضِهِ فَقَالَ: "إِنْ‌ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ رُدَّ إِلَى الثُّلُثِ وَ جَازَ الْعِتْقُ"[5] .

     عَنْ حُمْرَانَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام فِي رَجُلٍ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ أَعْتِقْ فُلَاناً وَ فُلَاناً وَ فُلَاناً وَ فُلَاناً وَ فُلَاناً فَنَظَرْتُ فِي ثُلُثِهِ فَلَمْ يَبْلُغْ أَثْمَانَ قِيمَةِ الْمَمَالِيكِ الْخَمْسَةِ الَّتِي أَمَرَ بِعِتْقِهِمْ قَالَ: "يُنْظَرُ إِلَى الَّذِينَ سَمَّاهُمْ وَ يُبْدَأُ بِعِتْقِهِمْ فَيُقَوَّمُونَ وَ يُنْظَرُ إِلَى ثُلُثِهِ فَيُعْتَقُ مِنْهُ أَوَّلُ شَيْ‌ءٍ ثُمَّ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِثُ ثُمَّ الرَّابِعُ ثُمَّ الْخَامِسُ فَإِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ كَانَ فِي الَّذِي سَمَّى أَخِيراً لِأَنَّهُ أَعْتَقَ بَعْدَ مَبْلَغِ الثُّلُثِ مَا لَا يَمْلِكُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ"[6] .

     عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَأَعْتَقَ مَمْلُوكَهُ وَ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ فَكَانَ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ؟ قَالَ: "يُمْضَى عِتْقُ الْغُلَامِ وَ يَكُونُ النُّقْصَانُ فِيمَا بَقِيَ[7] .

     عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام فِي رَجُلٍ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِمَالٍ لِذَوِي قَرَابَتِهِ وَ أَعْتَقَ مَمْلُوكاً لَهُ وَ كَانَ جَمِيعُ مَا أَوْصَى بِهِ يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ كَيْفَ يَصْنَعُ فِي وَصِيَّتِهِ؟ فَقَالَ: "يَبْدَأُ بِالْعِتْقِ فَيُنَفِّذُهُ"[8] .

وهذه النصوص وغيرها تدل بوضوح على الحكم، نعم؛ لو أجاز الورثة إمضاء الوصية فيما زاد عن الثلث صحت، ويدل على ذلك جملةٌ من النصوص، أما مع إختلاف الورثة في الرضا وعدمه، مضى الزائد بنسبة حصة من رضي بإمضائها دون المانع.

فعن عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ كَتَبَ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ ع أَنَّ دُرَّةَ بِنْتَ مُقَاتِلٍ تُوُفِّيَتْ وَ تَرَكَتْ ضَيْعَةً أَشْقَاصاً فِي مَوَاضِعَ وَ أَوْصَتْ لِسَيِّدِهَا مِنْ أَشْقَاصِهَا بِمَا يَبْلُغُ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ وَ نَحْنُ أَوْصِيَاؤُهَا وَ أَحْبَبْنَا أَنْ نُنْهِيَ إِلَى سَيِّدِنَا فَإِنْ هُوَ أَمَرَ بِإِمْضَاءِ الْوَصِيَّةِ عَلَى وَجْهِهَا أَمْضَيْنَاهَا وَ إِنْ أَمَرَ بِغَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَيْنَا إِلَى أَمْرِهِ فِي جَمِيعِ مَا يَأْمُرُ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ فَكَتَبَ عليه السلام بِخَطِّهِ: "لَيْسَ يَجِبُ لَهَا مِنْ تَرِكَتِهَا إِلَّا الثُّلُثُ وَ إِنْ تَفَضَّلْتُمْ وَ كُنْتُمُ الْوَرَثَةَ كَانَ جَائِزاً لَكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ"[9] .

والرواية واضحة الدلالة على المطلوب، وهناك أيضاً نصوصٌ أخرى تدل على هذا الأمر:

     عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ وَ وَرَثَتُهُ شُهُودٌ فَأَجَازُوا ذَلِكَ فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ نَقَضُوا الْوَصِيَّةَ هَلْ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا مَا أَقَرُّوا بِهِ قَالَ: "لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ الْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ عَلَيْهِمْ إِذَا أَقَرُّوا بِهَا فِي حَيَاتِهِ"[10] .

     خبر الدعائم عن امير المؤمنين عليه السلام: "مَنْ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ أَوْ أَوْصَى بِمَالِهِ كُلِّهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَ يُرَدُّ إِلَى الْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ فَمَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ فِي الْوَصِيَّةِ وَ خَافَ فِيهَا فَإِنَّهَا تُرَدُّ إِلَى الْمَعْرُوفِ وَ يُتْرَكُ لِأَهْلِ الْمِيرَاثِ حَقُّهُمْ"[11] .

وهذه الروايات هي الأخرى واضحة، خصوصاً إذا لوحظت مع الروايات المحددة للوصية بالثلث، بيد أن هناك أخباراً يظهر منها معارضة الطائفة الأولى من النصوص، حيث يظهر منها نفاذ الوصية من جميع المال:

     عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ فَضَّالٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبْدُوسٍ قَالَ: أَوْصَى رَجُلٌ بِتَرِكَتِهِ مَتَاعٍ وَ غَيْرِ ذَلِكَ لِأَبِي مُحَمَّدٍ علیه السلام فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ جُعِلْتُ فِدَاكَ رَجُلٌ أَوْصَى إِلَيَّ بِجَمِيعِ مَا خَلَّفَ لَكَ وَ خَلَّفَ ابْنَتَيْ أُخْتٍ لَهُ فَرَأْيُكَ فِي ذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيَّ علیه السلام: "بِعْ مَا خَلَّفَ وَ ابْعَثْ بِهِ إِلَيَّ فَبِعْتُ وَ بَعَثْتُ بِهِ إِلَيْهِ فَكَتَبَ إِلَيَّ قَدْ وَصَلَ"[12] .

ويظهر من الرواية أن الإمام لم يورّث ورثة الميت، بل أمر ببيع المتاع كله، وربما يمكن حمل ذلك على حالة رضا الورثة أو عدم إستحقاقهم الإرث لسببٍ من الأسباب المانعة من التوريث.

ومع عدم إمكان الحمل فإن الأخذ بالروايات الصريحة هو الأولى، لأن روايات السيرة مجملةٌ في العادة، فضلاً عن أن المكاتبة أضعف وأقل إعتباراً من الرواية المسندة.

ومثلها الرواية التالية:

     قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ وَ مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَارَةَ فَأَوْصَى إِلَى أَخِي أَحْمَدَ وَ خَلَّفَ دَاراً وَ كَانَ أَوْصَى فِي جَمِيعِ تَرِكَتِهِ أَنْ تُبَاعَ وَ يُحْمَلَ ثَمَنُهَا إِلَى أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام فَبَاعَهَا فَاعْتَرَضَ فِيهَا ابْنُ أُخْتٍ لَهُ وَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ فَأَصْلَحْنَا أَمْرَهُ بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ وَ كَتَبَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ وَ دَفَعَ الشَّيْ‌ءَ بِحَضْرَتِي إِلَى أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ- وَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ جَمِيعُ مَا خَلَّفَ وَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ وَ ابْنُ أُخْتِهِ عَرَضَ فَأَصْلَحْنَا أَمْرَهُ بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ فَكَتَبَ: "قَدْ وَصَلَ‌ ذَلِكَ وَ تَرَحَّمَ عَلَى الْمَيِّتِ وَ قَرَأْتُ الْجَوَاب"[13] .‌

وهذه كسابقتها في الإجمال، فضلاً عن إرضاء الورثة بشيءٍ من المال، وكيف كان فإنها كسابقتها لا تنهض لمخالفة تلك النصوص الصريحة.[14]

النقص في حصة الورثة بعد إخراج الثلث

لو نقصت قيمة الثلثين بعد إخراج الثلث، كما لو كان الموصى به داراً فأخرج ثلثة، فنقص قيمة الباقي، فإن الوصية تنفذ، لأن المطلوب هو تنفيذ الوصية بإخراج الثلث، وليس علينا إحراز الثلثين للورثة.

الموصى به بين العين والإشاعة

لا فرق في الوصية بين أن يكون الموصى به عيناً معينة، أو حصةً مشاعةً، فيؤخذ في الحالتين مقدار الثلث ويدفع في مورد الوصية، فلو أوصى بداره وكان كل تركته، دفع ثلثه فقط، ورجع في الباقي إلى إجازة الورثة.

 


[1] سورة النساء، آیة 11.
[2] بل أدعي عليه الإجماع بقسميه، كما في المهذب: ج22، ص177. [المقرر].
[3] في عبارة الصدوق قدس سره تعارضٌ بين الصدر والذيل، حيث قال قدس سره في فقه الرضا، ص289: " و إن أوصى بالثلث فهو الغاية في الوصية فإن أوصى بماله كله فهو أعلم بما فعله و يلزم الوصي إنفاذ وصيته على ما أوصى به"، حيث يستفاد من العبارة الأولى تحديد الوصية بالثلث، ولكن عاد ليقول بعدئذٍ بلزوم تطبيق الوصي وصية الموصي، ولذلك انبرى الفقهاء لحمل هذه العبارة على محامل، منها ما لو كانت ديونه الشرعية مستغرقةً للتركة كلها فأوصى بها، ليرتفع التعارض بين صدر عبارته وذيلها. [المقرر].
[4] العروة الوثقى: ج2، ص890.
[5] الكافي: ج7، ص17.
[6] الكافي: ج7، ص19.
[7] الكافي: ج7، ص17.
[8] الكافي: ج7، ص17.
[9] الكافي: ج7، ص10.
[10] الکافی: ج7، ص12.
[11] دعائم الإسلام: ج2، ص357.
[12] تهذيب الأحكام: ج9، ص195.
[13] تهذيب الأحكام: ج9، ص196.
[14] يظهر من رواية عمار بن موسى المخالفة الصريحة، بعد وضوح دلالة النص المخالف، حيث روى عن أبي عبد الله عليه السلام: "الرَّجُلُ أَحَقُّ بِمَالِهِ مَا دَامَ فِيهِ الرُّوحُ إِذَا أَوْصَى بِهِ كُلِّهِ فَهُوَ جَائِزٌ" [وسائل الشيعة:ج19، ص282] وحيث يثبت التعارض ترجّح روايات التحديد الأكثر عدداً والأقوى سنداً. [المقرر].

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo