« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الأصول

46/06/29

بسم الله الرحمن الرحيم

 مبحث الأوامر

الموضوع: مبحث الأوامر

 

والمتحصل من كلام المحقق النائيني قدس سره[1]

أن الواجب الواحد قد يكون ملاكه منوطاً بالقدرة في زمانه بلحاظ شرطٍ معين، ومنوطاً بطبيعي القدرة بلحاظ شرطٍ آخر، مثلا: الصلاة لها تقيدان: تقيد الصلاة بكونها عن وضوءٍ أو غسل، كما يستفاد ذلك من قوله تعالى: ﴿إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم﴾ إلى أن قال: ﴿وإن كنتم جنباً فاطهروا﴾ بتقريب: أن ظاهر الآية أن ملاك الصلاة بلحاظ هذا التقيد - وهو كون الصلاة عن وضوءٍ أو غسل - منوط بالقدرة في زمان الصلاة لقوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة)، وأثر ذلك أنه يجوز للمكلف قبل الوقت أن ينقض وضوءه أوطهارته بجماع أهله، وإن كان يعلم أنه إن نقض طهوره فلن يتمكن منه بعد الوقت ولو لعدم القدرة لا لعدم الماء، لأن الملاك منوط بالقدرة عليهما في زمان الواجب لا بطبيعي القدرة، ولا يجب إيجاد موضوع الملاك، والثاني: تقيد الصلاة بكونها عن طهارة مائية، والقدرة الدخيلة في هذا الملاك - وهو ملاك كون الصلاة عن طهارة مائية - طبيعي القدرة ولو قبل الوقت، فمن كان بين يديه الماء قبل الوقت ويعلم أنه لو أراق الماء لن يجده بعد الوقت فإنه يجب عليه حفظ الماء، ولا يجوز له إراقته، وقد ذكر المحقق النائيني قدس سره أن ذلك مما يستكشف من الرواية الصحيحة، وقد أورد عليه سيدنا الخوئي قدس سره في التعليقة[2]

أن ذلك من باب الغفلة والاشتباه، حيث لم يرد في هذا الموضوع رواية صحيحة ولا غير صحيحة، ولقد اعترف هو قدس سره بذلك حينما طالبناه بها، والعصمة لأهلها، لكن لا يبعد استناد المحقق النائيني قدس سره لبعض الروايات الصحيحة نحو صحيحة محمد بن مسلم[3] سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يجنب في السفر فلا يجد إلا الثلج أو ماء جامدا، فقال عليه السلام: هو بمنزلة الضرورة يتيمم ولا أرى أن يعود لمثل هذه الأرض التي توبق دينه، بدعوى ظهورها في حرمة السفر لأرض يفوت بالسفر لها التمكن من الطهارة المائية، ونحو صحيحته الأخرى[4] سألت أبا جعفر عليه السلام: عن الرجل يقيم في البلاد الأشهر وليس فيها ماء، إنما يقيم لمكان المرعى وصلاح الإبل ؟ قال عليه السلام: لا.

فدعوى سيدنا عدم وجود رواية في الموضوع ممنوعة - والعصمة لأهلها -، والبحث في ما هو ظاهر آية الوضوء والروايات الشريفة موكول إلى الفقه.

وأشكل على ذلك المحقق الإصفهاني قدس سره[5] بقوله: فإما أن يقال بعدم تمامية مصلحة الواجب إلا بعد دخول الوقت فينافي لزوم التعلم الذي هو مقدمة وجودية قبل الوقت لمن لا يتمكن منه في الوقت، وكذا لزوم إحراز الماء، وإما يقال بتماميتها، فيصح الالتزام بما ذكر، لكنه يستلزم وجوب الوضوء لمن لا يتمكن منه في الوقت، ولا يعقل تمامية المصلحة من جهة مقدمة، وعدم تماميتها من جهة مقدمة أخرى

وبيانه: أن الملاك إن كان تاما قبل الوقت فلا يجوز إراقة الماء الموجود لتمامية الملاك، ويجب تعلم الأحكام الابتلائية قبل الوقت، ولا يجوز نقض الوضوء، بل يجب الوضوء لمن ليس على وضوء لو علم عدم التمكن منه بعد دخول الوقت أيضا، إذ ما دام الملاك تاما قبل الوقت فيجب على المكلف حفظ الملاك، وحفظ الملاك متوقف على حفظ المقدمات، فلا محالة يجب على المكلف حفظ الملاك بحفظ المقدمات قبل الوقت ولا تفصيل، وإن لم يكن الملاك تاما قبل الوقت فلا يجب على المكلف حفظ شيء لعدم ملاكٍ كي يلزم حفظه، وبالتالي يجوز له نقض الوضوء إن كان متوضئا وإراقة الماء ولا يجب تعلم المسائل الابتلائية، فالتبعيض في الملاك الواحد بدعوى تماميته من جهة دون جهة أخرى كما عن المحقق النائيني قدس سره غير معقول.

ولكن الصحيح ما ذكره المحقق النائيني قدس سره، وبيان ذلك: أن ملاك الصلاة - وهو استعداد المكلف للانتهاء عن الفحشاء والمنكر - مثلا له مناشئ متعددة، فمن مناشئه ستر العورة، ومن مناشئه الطهارة المائية، ومن مناشئه الاطمئنان، وبالتالي فمن المعقول جدا أن يختلف تأثير هذه المناشئ المتعددة في الاتصاف بالملاك، فيكون تأثير بعضها - كستر العورة - منوطا بطبيعي القدرة بحيث لو كان المكلف مستور العورة قبل الصلاة أو يمكنه تحصيل الساتر لم يجز له التفريط في ساتر العورة إذا علم بعدم إمكان تحصيله بعد الوقت، بينما تأثير المنشأ الآخر - ككون الصلاة ذات اطمئنان أو عن طهور - منوط بالقدرة في زمان الواجب لا بطبيعي القدرة فلا يجب عليه حفظ القدرة على ذلك قبل زمان الواجب، فاختلاف ارتباط تأثير المناشئ بالقدرة مما يفضي لكون المصلحة تامة من جهة بعض القيود قبل الوقت وليست تامة من جهة بعض القيود الأخرى، إذ ليس المراد بالتمامية التمامية المطلقة، وإنما المراد التمامية الحيثية، والاختلاف فيها أمر معقول جدا وخصوصا في الملاكات الشرعية.

نعم قد يناقش المحقق الإصفهاني قدس سره من ناحية إثباتية بأن يقول: إن العرف يلغي الخصوصية في هذا المورد، ويرى أنه إذا كان المستفاد من الآية أن ملاك الصلاة من حيث الوضوء والغسل منوط بالقدرة زمان الواجب فهو كذلك من جهة وجدان الماء، وإذا كان المستفاد من الروايات الشريفة أن ملاك الصلاة من جهة وجدان الماء منوط بطبيعي القدرة فهو كذلك من جهة الطهور، فالتفكيك غير عرفي.

هذا تمام الكلام فيما ذكره المحقق النائيني قدس سره، وقد سبق أن الوجوه المطروحة لإثبات وجوب المقدمات المفوتة عديدة، الأول: الالتزام بالواجب المعلق الذي ذكره صاحب الفصول رحمه الله، والوجه الثاني الالتزام بالواجب المشروط بالشرط المتأخر الذي أشار إليه صاحب الكفاية قدس سره، والوجه الثالث رأي المحقق النائيني قدس سره من التمسك بمجموع قاعدة أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار وتنوع أقسام القدرة من حيث الدخالة في الملاك وعدمه، وقد مر البحث فيه مفصلا، وظاهر الكلمات أن لب التحقيق في المقدمات المفوتة هو كلام المحقق النائيني قدس سره، ولذلك تدور الكلمات المتأخرة عنه في فلك رؤيته، فالوجوه الآتية إما أن تكون نقداً له أو قبولا له مع تقييد له بقيد معين.

الوجه الرابع: ما ذهب إليه المحقق الحائري قدس سره[6] وتبعه بعض تلاميذه في كتابه تهذيب الأصول قدس سره[7] ، ولكل منهما بيان للنكتة.

البيان الأول: ما ذكره المحقق الحائري قدس سره بقوله: إن الواجب المشروط بعد العلم بتحقق شرطه في محله يقتضي التأثير في نفس المكلف بإيجاد كل شيء منه ومن مقدماته الخارجية في محله، مثلا لو قال: (أكرم زيدا إن جاءك) فمحل الإكرام بعد مجيئه، ومحل مقدماته إن كان قبل المجيء، فمجرد علم المكلف بالمجيء يقتضي إيجادها قبله، والحاصل: أن طلب الشيء على فرض تحقق شيء آخر لايقتضي إيجاد ذلك الشيء المفروض وجوده، ولكن بعد العلم بتحقق ذلك الشيء يؤثر في المكلف، ويقتضي منه أن يوجد كلا من الفعل ومقدماته في محله، وهو بيانٌ وجداني، وحاصله أن الوجدان شاهد بأن المولى إذا أمر بفعلٍ على تقدير شرطٍ معين كما لو قال: (اذبح شاة صدقةً إذا حصل الكسوف) فمن الواضح أن الأمر بذبح الشاة عند حصول الكسوف ليس أمراً بالكسوف، لأنه قد فرض متحققا وأمر بالصدقة على فرض حصوله، ولكن متى علم المكلف بتحقق الشرط وأن الكسوف يحصل غدا فإن علمه بتحقق الشرط له أثر في نفسه وهو استعداده للانقياد لتطبيق الواجب في ظرفه على طبق قيوده، وكما يرى بوجدانه الانقياد لتحقيق الواجب على طبق قيوده فإنه يرى ضرورة الإتيان بالمقدمات، إذ بعد علمه بحصول الكسوف على كل حال فلا إشكال في حكم العقل بضرورة المبادرة إلى المقدمات التي يتوقف عليها ذبح الشاة صدقةً، حيث لا يرى الوجدان فرقاً بين العلم بتحقق الشرط فعلاً أو بتحققه يوم غدٍ.

وقد تستفاد الفذلكة الفنية لهذه النكتة من كلام المحقق الإصفهاني قدس سره[8] حيث قال: وتحصيل الغرض التام الغرضية عقلا لازم ولولم يكن التكليف به فعليا، بل وإن لم يمكن أصل التكليف به لغفلة المولى، وحينئذ كما أن إنقاذ ولد المولى لازم مع غفلة المولى، كذلك تهيئة إنقاذه اليوم - إذا كان يغرق في الغد - لازمة، وكما أن ترك إنقاذه اليوم بترك مقدمته يستحق عليه العقوبة، كذلك ترك إنقاذه غدا بترك مقدمته المنحصرة اليوم يوجب العقاب.

وبيانه: أن النكتة كل النكتة في أن الغرض تام الغرضية، فمتى أحرز المكلف غرضاً تاما كان لازم التحصيل، فإن مقتضى العبودية والرقية للمولى حفظ أغراض المولى، فإذا علم المكلف أن الغرض تام كان مقتضى ذلك لزوم تحصيل الغرض وإن لم يكن تكليف به بل وإن لم يعقل التكليف به، مثلا: إذا كان المولى غافلا وقد غرق ابنه فإنه لا إشكال في حكم العقل بضرورة إنقاذ ابن المولى، لأن المكلف أحرز غرضا تاما للمولى وإن لم يقدر المولى على التكليف بحفظ الغرض نتيجةً لغفلته، وكما يتصور ذلك في الغرض التام بالفعل فإنه يتصور في الغرض التام مستقبلا، فلو أن العبد علم أن ولد المولى سيغرق غداً فلا إشكال في حكم عقله بضرورة تهيئة وسائل الإنقاذ من اليوم تحفظا واستعدادا لإنقاذ ولد المولى غدا، فإنه لا فرق بنظر العقل بين الصورتين، من جهة حكم العقل بصحة العقاب على ترك حفظ الغرض في ظرفه بترك مقدماته الفعلية.


[1] أجود التقريرات ج1 ص225.
[2] ص225.
[3] المحاسن للبرقي ج2 ص372.
[4] تهذيب الأحكام ج1 ص405.
[5] نهاية الدراية ج2 ص93 في الحاشية.
[6] درر الفوائد ج1 ص109- 110.
[7] ج2 ص327.
[8] نهاية الدراية ج2 ص88 في الحاشية.
logo