« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الأصول

46/06/28

بسم الله الرحمن الرحيم

 مبحث الأوامر

الموضوع: مبحث الأوامر

 

سبق أن أقسام القدرة أربعة، ومضى البحث في القسمين الأولين.

القسم الثالث: أن تكون القدرة الدخيلة في الملاك هي القدرة بعد شرط الوجوب كما إذا افترض أن القدرة الدخيلة في ملاك الحج هي القدرة بعد شرط الاستطاعة لا قبلها، وبناءً على ذلك لا يجب على المكلف تحصيل القدرة قبل الاستطاعة، وإنما يجب عليه حفظ القدرة بعد الاستطاعة.

وبيان ذلك:

أما أنه لا يجب عليه تحصيل القدرة قبل الاستطاعة فلأن المفروض أن الحج قبل الاستطاعة ممالا ملاك فيه لأن ملاكه منوط بالقدرة بعد الاستطاعة، فالإتيان بالمقدمات المفوتة - كالسفر مثلا أو إعداد الفيزا - قبل الاستطاعة ليس حفظا للملاك إذ لا ملاك، بل هو في الواقع إيجاد للملاك لا حفظٌ له، ولا يجب على العبد أن يجعل الفعل المطلوب كالحج ذا ملاكٍ، وإنما يجب عليه حفظ الملاك والقدرة، وأما أنه يجب عليه بعد الاستطاعة المقدمات المفوتة عقلا وشرعا كالسفر وإعداد لوازمه - باعتبار أنه صار الحج بالاستطاعة ذا ملاك - فالمقدمة المفوتة حفظ للملاك وحفظ للقدرة المعتبرة.

القسم الرابع: أن تكون القدرة الدخيلة في الملاك هي القدرة في زمان الواجب لا القدرة قبل ذلك، كأن يقال: إن الصلاة الواجبة على المكلف هي الصلاة ذات الاطمئنان، ولكن ملاك الصلاة ذات الاطمئنان منوط بالقدرة عليه بعد دخول الوقت، أي: إذا دخل الوقت وكان المكلف قادرا على الصلاة باطمئنان وجبت وإلا فلا، فملاك شرطية الاطمئنان منوط بالقدرة بعد دخول الوقت، وأما قبل دخول الوقت فلا يجب على المكلف حفظ القدرة على الاطمئنان، كأن يبحث قبل دخول الوقت عن مكان ليصلي فيه باطمئنان، لأن ملاك الصلاة ذات الاطمئنان منوط لا بمطلق القدرة بل بالقدرة بعد دخول الوقت، فلا يجب على المكلف قبل دخول الوقت حفظ القدرة لأنه: جعلٌ للصلاة ذات الاطمئنان ذات ملاك، ولا يجب على المكلف أن يجعل الفعل المطلوب ذا ملاك، بل يجب عليه حفظ الملاك فيه.

وهذا بخلاف الصلاة مع ساتر العورة، فإن الصلاة مع ستر العورة ذات ملاك، والقدرة الدخيلة في هذا الملاك مطلق القدرة لا القدرة بعد دخول الوقت، فلذلك يجب على المكلف قبل دخول الوقت تحصيل ساتر العورة إن علم أنه لا يستطيع تحصيله بعد دخول الوقت، لأن ملاك الصلاة مع الستر منوط بطبيعي القدرة لا القدرة بعد دخول الوقت، فلذلك يجب على المكلف قبل دخول الوقت أن يهيئ ساتر العورة حفظا للملاك.

وهنا أفاد المحقق الإصفهاني قدس سره[1] أمرين:

1- إن قلت: إن من القبيح تفويت التكليف ومنع المولى عن تحصيل أغراضه التي يتصدى لتحصيلها بواسطة التشريع والبعث نحو الفعل، بمعنى أن العبد حيث يعلم أن الصلاة ذات الاطمئنان لا ملاك فيها قبل الوقت، فيقوم بالركوب في السفينة كي لا يصلي باطمئنان عند دخول الوقت، وذلك من تضييع القدرة على الاطمئنان قبل دخول الوقت ودفع للمولى عن التكليف ومنعه من استيفاء غرضه بالبعث - لأنه لا يمكن المولى بعد دخول الوقت أن يكلف العبد بالصلاة مع الاطمئنان لعدم قدرته - ودفع المولى عن استيفاء أغراضه ببعثه وتكليفه قبيحٌ.

قلنا: إن مقتضى العبودية والرقية للمولى الانقياد له باحترام تكاليفه الفعلية أو تحصيل أغراضه اللزومية القائمة بفعل العبد، فيجب عليه امتثال تكاليف المولى وإن لم يكن للمولى تكليفٌ يجب عليه رعاية أغراضه اللزومية، لا أنه يجب على العبد تمكين المولى من استيفاء غرضه القائم بفعله وهو نفس التكليف، عن طريق إيجاد موضوع التكليف، فهذا ليس من شؤون العبودية والرقية، وبعبارة أخرى: إن التكليف الذي هو فعل المولى ليس الا مقدمة لتحصيل الأغراض المولوية القائمة بفعل العبد، فلولم يكن ذلك الغرض المولوي القائم بفعل العبد لازما، لم يكن تفويت الفرصة على المولى بأن يتصدى للتكليف قبيحا، فلذلك لا يجب على العبد تحصيل الاستطاعة للحج، فلو فرض أن العبد يمكنه في دقيقة واحدة اكتساب مال محقق للاستطاعة فضيع تلك الفرصة لم يرتكب محذوراً عقلا ولا شرعا، إذ لا يجب عليه إعداد الموضوع لتكاليف المولى.

2- إن قلت: إن دفع التكليف ومنعه عن الحدوث قبل تحقق موضوعه تفويت للغرض على المولى وهو قبيح ؟ أي أن تضييع الفرصة بأن يقف العبد في مكان لا اطمئنان فيه، مع علمه بعدم التمكن من ذلك بعد دخول الوقت، من دفع التكليف عن نفسه، كمن ينام قبل طلوع الفجر مع علمه بأنه لا يستيقظ قبل طلوع الشمس، حيث التزم سيدنا الخوئي قدس سره بأن هذا مما لا محذور فيه عقلا ولا شرعا، مع أن هذا من دفع التكليف عن نفسه وتفويت الغرض على المولى.

قلت (ص91): إن هناك فرقا بين دفع التكليف مع تمامية اقتضائه ودفع مقتضي التكليف، فالأول خروج عن زي الرقية والعبودية فيستحق العبد عليه العقوبة، ولو لم يكن التكليف به فعليا، بخلاف الثاني.

وتوضيح ذلك: أنه تارة يعلم المكلف أن التكليف تام الاقتضاء لأن مصلحة الفعل اللزومية غير متوقفة على دخول الوقت، كمن علم أن التكليف بالصوم في النهار تام الاقتضاء قبل طلوع الفجر لتمامية ملاكه اللزومي، وإن لم يكن التكليف فعليا، فحينئذ يكون دفع التكليف أي منعه من الفعلية بتعجيز النفس عن الصوم عن طريق ضرب البدن إبرة معجزة مثلا قبيحا، لكونه من دفع التكليف التام الاقتضاء من حيث الملاك وتفويتا لغرض لزومي، وتارة يعلم المكلف أن ملاك الأمر بالحج منوط بالمقتضي وهو الاستطاعة، فلو أنه دفع الاستطاعة بأن منع الفرصة التي يستطيع من خلالها تحقيق الاستطاعة فهذا مما لا محذور فيه لأنه ليس دفعا لتكليف تام الاقتضاء، بل هو دفع لمقتضي التكليف الذي لم يتحقق ملاكه بعد.


[1] نهاية الدراية - تحقيق مؤسسة آل البيت ج2 ص88 في الحاشية.
logo