« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الأصول

46/06/27

بسم الله الرحمن الرحيم

 مبحث الأوامر

الموضوع: مبحث الأوامر

 

النكتة الثانية: فعلية الملاك قبل تحقق القيد، وتتضمن أموراً:

 

الأمر الأول: أن يحرز أن القيد كالزمن مثلا دخيل في الاستيفاء وليس دخيلا في أصل الاتصاف بالملاك بمعنى أن المكلف أحرز أن طلوع الفجر مثلاً ليس دخيلا في أصل اتصاف الصوم بالملاك، وإنما هو دخيل في استيفاء الملاك وتحصيله، كما إذا وصف الطبيب الدواء للمريض واشترط عليه أن يكون شرب الدواء بعد الساعة الواحدة، فإن الزمن هنا ليس دخيلاً في أصل الملاك، حيث إن الدواءَ بالنسبة للمريض ذو ملاكٍ، إلا أن التوقيت دخيل في استيفاء الملاك، لا في أصل الاتصاف به، وإحراز أن القيد دخيل في الاستيفاء بطرق عديدة ولو بأن يخبر المولى العبد بأن الملاك فعلي قبل طلوع الفجر، أو أن يأمره بالمقدمة كأن يأمره بغسل الجنابة قبل طلوع الفجر لا من باب البعث والمحركية بل من باب الإرشاد إلى وجود ملاكٍ فعلي، وإنما لم يأمر المولى بالصوم قبل طلوع الفجر مع أن الملاك فعليّ لأنه يستحيل عليه الأمر، إذ لا طريق للأمر إلا بنحو الواجب المعلق أو بنحو الواجب المشروط، وكلاهما محال، فالمولى مضطر إلى أن لا يأمر بالصوم قبل طلوع الفجر، نتيجة استحالة المعلق والمشروط بالشرط المتأخر، وإلا فالملاك فعليّ قبل طلوع الفجر.

الأمر الثاني: بما أن الملاك فعلي قبل طلوع الفجر والمفروض أنه ملاكٌ ملزم فالإرادة فعلية قبل طلوع الفجر، أي أن المكلف قبل طلوع الفجر قد ثبت في حقه ملاكٌ ملزم وإرادةٌ مولوية، وغاية ما في الباب أن المولى لم يخاطبه لأنه لا يمكنه خطابه، فإذا أدرك المكلف أن هناك ملاكاً فعليا وإرادةً فعليةً قبل طلوع الفجر فلا إشكال في أن عقله يحكم عليه بحفظ ذلك الملاك لكونه ملاكا لزوميا فعليا، وحفظ الملاك بالإتيان بالمقدمات، إذ لا طريق لحفظ الملاك إلا بالإتيان بالمقدمات.

الأمر الثالث: بما أن العقل قد اكتشف ملاكاً فعلياً لزومياً قبل طلوع الفجر ولو عن طريق إخبار المولى فذلك الملاك الفعلي كما يقتضي أمرا نفسيا بذي المقدمة - وهو الصوم - فكذلك يقتضي أمراً مقدميا بالغسل قبل طلوع الفجر، فالأمر الغيري بالغسل قبل طلوع الفجر ليس تابعاً للأمر النفسي كي يقال: إن الأمر النفسي ليس فعليا قبل طلوع الفجر، فكيف يكون الأمر المقدمي فعليا وهو تابع له؟ بل إن الملاك والغرض اللزومي الذي أحرزت فعليته قبل طلوع الفجر قد اقتضى أمرين: أمراً بذي المقدمة - وهو الصوم عند الطلوع - وأمرا آخر بالمقدمة، فكلاهما قد نشأ عن ملاكٍ واحد، لا أن الأمر المقدمي تابع للأمر النفسي بذي المقدمة كي يقال بأن فعليته قبل فعليته خلف تبعيته له.

النكتة الثالثة: وتتضمن أمرين:

الأول: أن القيد - وهو طلوع الفجر - ليس دخيلا في الفعلية بل هو دخيل في الاتصاف، أي: لا ملاك قبل طلوع الفجر، وإذا لم يكن ملاكٌ قبل طلوع الفجر فلا إرادة ولا خطاب، مما يعني أن الخطاب منتفٍ لانتفاء مقتضيه إذ لا ملاك ولا إرادة قبل طلوع الفجر، ولكن مع ذلك يحكم العقل بلزوم المقدمة المفوتة، وذلك باعتبار أن الملاك بعد طلوع الفجر فعليّ وإن لم يكن الآن فعليا، فبما أن الملاك اللزومي عند طلوع الفجر فعليّ فعدم الإتيان بالمقدمة قبل الطلوع تفويتٌ اختياريّ لذلك الملاك الفعليّ الملزم في ظرفه، والتفويت الاختياري للملاك الملزم الذي أبرزه المولى قبيح، وإن كان قد أبرزه بنحو الواجب المشروط بالشرط المقارن، ولكن حيث أبرزه المولى انكشف أن فيه ملاكاً ملزما في ظرفه فيجب عليه حفظه بالإتيان بالمقدمات.

الثاني: أن الوجوب الشرعي المتوجه للمقدمة ليس من باب الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع كما فهمه السيد الخوئي والشيخ الحلي من كلام أستاذهما المحقق النائيني قدست أسرارهم، بل ظاهر عبارته في أجود التقريرات[1] ، أن العقل حيث اكتشف ملاكاً لزومياً للمولى - ولو كان في ظرفه - فذلك الملاك اللزومي هو الذي اقتضى جعلين ووجوبين: وجوباً نفسياً للصوم عند طلوع الفجر، ووجوباً نحو المقدمة وهو الغسل، بل إن وجوب الغسل قبل طلوع الفجر ليس وجوباً مقدميا أصلا، وإنما هو وجوب نفسي، أي أن حفظ الغرض اللزومي في الصوم قد اقتضى جعلين نفسيين أحدهما نحو ذي المقدمة والآخر نحو المقدمة. وذلك لأن مقتضى حكمة المولى أن يصون أغراضه اللزومية وأن يحفظها ولا يمكن للمولى الحكيم أن يحفظ غرضه اللزومي إلا بهذين الجعلين وكلاهما وجوب نفسي، لأنه يحتمل أن المكلف لا يبادر نحو حفظ هذا الغرض اللزومي فيترك المقدمة، فتحفظا على غرضه يتصدى لجعل الوجوبين. بل أفاد المحقق النائيني قدس سره: أنه بما أن هذين الوجوبين ناشئان عن غرض واحد فهما بمثابة جعل واحد، فليس لهما إلا إطاعة واحدة وعقابٌ واحد على تقدير ترك المقدمات والصوم، ولا يحكم العقل بأكثر من ذلك، وهذا معنى أن الوجوب النفسي المتوجه للمقدمة متمم الجعل، أي أنه متمم للوجوب النفسي نحو ذي المقدمة، وبالتالي فليس الوجوب نحو المقدمة وجوبا غيريا كي يشكل بعدم تبعيته لوجوب ذي المقدمة.

فتلخص من هذه النكات الثلاث: أنه يمكن الأمر بالمقدمة قبل زمان ذيها إما بنكتة أن الأمر النفسي بالواجب الموجب لترشح الوجوب المقدمي على المقدمة هو من حين الغروب لا من حين الفجر، لأن الواجب هو سد أبواب عدم الصوم مثلا فلم يتحقق تقدم لوجوب المقدمة على وجوب ذيها، وإما بنكتة أن الملاك فعلي قبل فعلية القيد وهو الذي اقتضي جعل وجوبين للمقدمة وذيها، فالوجوب الغيري لم يكن تابعا للوجوب النفسي كي يستحيل تقدمه عليه، وإما بنكتة اكتشاف العقل من خلال إبراز المولى للملاك اللزومي في ظرفه جعل وجوبين نحو المقدمة وذيها في عرض واحد من دون تبعية.

كما تبين مما مضى بيانه: أنه ليس المدار في حكم العقل بلزوم المقدمة المفوتة وبالأمر بالمقدمة على كون القيد دخيلا في الفعلية، بل يشمل فرض كون القيد دخيلا في الاتصاف، كما أنه ليس المدار فيهما على تسجيل القيد في عهدة المكلف وإن لم يأمر به المولى، بل إن إخباره بغرضه اللزومي كافٍ في بعث العبد عقلا نحو حفظ هذا الغرض، واكتشاف أن هناك جعلين: جعلاً للوجوب النفسي وجعلاً للوجوب نحو المقدمة، ولكن هناك ملاحظة عامة تشمل المدعى في المقام وغيره: وهي أن اكتشاف العقل النظري أهمية الغرض المولوي عن طريق إخبار المولى عن فعلية ملاكه ولو في ظرفه أو عن طريق أمر المولى بالصوم المقرون بطلوع الفجر الكاشف عن فعلية الملاك في ظرفه إما أن يكون كافيا في محركية العقل نحو حفظ الغرض، ولازم ذلك أن لا يخشى المولى على غرضه من الفوت، لكون علم العبد بالغرض اللزومي بإخباره بملاكه أو أمره بالواجب النفسي كافيا في محركية العقل نحو حفظ الغرض، فلا يخشى على غرضه من الفوت كي يضطر للقيام بجعلين: نفسي نحو ذي المقدمة وآخر نفسي أو غيري نحو المقدمة. وإما أن لا يكون ذلك كافيا في محركية العقل وصون الغرض وحفظه مما يقتضي أن يتصدى لجعلين وهذا مساوق لإنكار وجوب المقدمة المفوتة عقلا، إذ لا تجب المقدمة عقلاً، فإن السر في وجوبها عقلا كون الغرض المدرك لا يمكن حفظه وصونه عن الفوت إلا بفعل المقدمة، فإذا لم يكن بيان المولى وأمره كافيا في محركية العقل نحو حفظ الغرض اللزومي، فذلك يعني إنكار وجوب المقدمة المفوتة عقلاً، وهو خلف بيانات المحقق النائيني قدس سره من التركيز على حكم العقل بصحة العقاب بمجرد ترك المقدمة لأن في تركها تركاً للواجب في ظرفه وحكمه بقبح تفويت الغرض اللزومي بعد إدراكه، بل ظاهر بعض عبارات أجود التقريرات كما في قوله[2] (فالحق فيه وجوب تحصيل المقدمات من أول أزمنة الإمكان لتحصيل القدرة على الواجب لئلا يفوت الواجب والملاك في ظرفه.. إلى أن قال: فبهذه المقدمة العقلية يستكشف وجوب المقدمة شرعا حفظا للغرض فيكون متمما للجعل الأول) أن الوجوب العقلي المذكور هو الكاشف عن الوجوب الشرعي، وما ذكر إشكال عام على الجمع بين دعوى المحركية العقلية بنكتة صون الغرض اللزومي وحفظه والأمر الشرعي بالمقدمة بنفس النكتة في كلمات النائيني قده وغيره كما سيأتي تفصيله في الأبحاث القادمة.

هذا تمام الكلام في القسمين الأول: عدم دخالة القدرة في الملاك، والثاني: أن الدخيل في الملاك طبيعي القدرة، ثم تعرض المحقق النائيني قدس سره لقسمين آخرين: إذا كانت القدرة الدخيلة في الملاك هي القدرة بعد شرط الوجوب، أو القدرة بعد زمان الواجب[3]


[1] ج1 ص228.
[2] ج1ص٢٢١].
[3] أجود التقريرات ص223.
logo