« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الأصول

46/06/22

بسم الله الرحمن الرحيم

 مبحث الأوامر

الموضوع: مبحث الأوامر

 

كان البحث في أن استعانة المحقق النائيني قدس سره بقاعدة (الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار) هل هي في محلها أم لا؟ وذكرنا أن السيد الصدر قدس سره أفاد في بحوثه[1] أن الغرض من ذكر القاعدة تنقيح الموضوع وبيانُ أن التفويت اختياري لا قسري.

ومن أجل تدقيق المطلب لا بد من تحديد منظور المحقق النائيني قدس سره في تحرير محور المسألة ففيه محتملان:

المحتمل الأول: أن محور المسألة بحسب منظوره هو العمل المأمور به في ظرفه.

المحتمل الثاني: أن محور المسألة بحسب منظوره هو تفويت الملاك بترك المقدمة أو عدم تفويته بفعلها.

المحتمل الأول: ما هو ظاهر تقرير بحثه في فوائد الأصول[2] من نظره إلى أن محور البحث في هذه المسألة هو المأمور به في ظرفه، وبيان ذلك: أن هناك نكتتين عقليتين لا ملازمة بينهما: النكتة الأولى: قبح تكليف العاجز، والنكتة الثانية: قبح عقاب العاجز.

وهما مختلفان في المناط، فالمناط في النكتة الأولى هو المحركية والداعوية بمعنى أن التكليف متقوم بالداعوية والمحركية، وحيث إنه لا مجال للمحركية والداعوية في حق العاجز فلذلك حكم العقل بقبح تكليف العاجز، لانتفاء الداعوية والمحركية فيه، ونتيجة ذلك أنه لا فرق بين العاجز بذاته أو من عجز نفسه، فإن المكلف إذا عجز نفسه لم يكن قابلا للمحركية أيضا، فلا خطاب في حقه كما لا خطاب في حق العاجز، (وإن كنا قد ناقشنا هذه النقطة وقلنا: إن هناك فرقا بين الفاعلية والفعلية، فعدم القابلية للمحركية ينفي الفاعلية لا الفعلية، بمعنى أن التكليف لا فاعلية له، أي: ليس متنجزا، لا أنه لا فعلية له، فإن فعلية التكليف لا تدور مدار المحركية، بل تدور مدار فعلية الموضوع، وما دام المكلف قد دخل عليه الوقت وهو قادر على الامتثال فقد تحقق الموضوع وإن عجز نفسه، ومقتضى تحقق الموضوع أن التكليف ما زال فعليا أي الاهتمام المولوي الواقعي بالملاك فعلي، وإن كان لا فاعلية له باعتبار عدم قابلية المكلف للمحركية).

وأما النكتة الثانية - وهي قبح عقاب العاجز - فالمناط فيها الاختيار لا المحركية، أي بما أن مناط التكليف قابلية المحركية بنظر المحقق النائيني قدس سره فيسقط التكليف في فرض العجز وإن كان عن تعجيز، ولكن مناط العقوبة ليس المحركية بل الاختيار، والمفروض أن المكلف قد عجز نفسه بسوء اختياره، فلذلك تصح عقوبته.

فتبين من ذلك أنه لا ملازمة بين قبح تكليف العاجز وقبح عقابه لاختلاف النكتة، وبذلك نستنتج أن هذه القاعدة - وهي أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وينافيه خطابا – ليست إلا عبارة عن جمع هاتين النكتتين العقليتين: وهما أن قبح تكليف العاجز يدور مدار المحركية فإذا لم تكن محركية - ولو بتعجيز النفس - فلا تكليف، وأن قبح عقاب العاجز يدور مدار الاختيار، وحيث إن من عجز نفسه استند لسوء اختياره فهو قادر بحسب المرتكز العقلائي فلا يسقط عقابه، فليست هذه القاعدة إلا جمعا بين هاتين النكتتين، وبناء على ذلك فلا فرق في مناط النكتة العقلية الثانية بين من صار التكليف في حقه فعليا ثم عجز نفسه أو من التفت إلى أنه سيؤمر بالتكليف فعجز نفسه، فإن من صار التكليف فعليا في حقه ثم عجز نفسه لا تسقط العقوبة عنه لأن عجزه عن اختيار منه، وكذلك من سيؤمر بالتكليف في ظرفه وهو قابل لو احتفظ بقدرته لأن يؤمر بالتكليف في ظرفه فعجز نفسه قبل ظرف التكليف، فإنه لا تسقط العقوبة عنه لكون العجز عن اختيار منه، فلا فرق في مناط النكتة العقلية بين الحالتين.

ولذلك ذهب المحقق النائيني قدس سره إلى حكم العقل بصحة عقوبة من ترك الواجب في ظرفه بترك مقدماته التي يتوقف عليها إمكانه لكون الترك اختياريا.

فإذا كان مصب نظره قدس سره على الواجب في ظرفه وأن العجز عن الواجب في ظرفه لا يسقط العقوبة، والسر في عدم سقوطها هو أنه عن تعجيز بسوء الاختيار، فيصح للمحقق النائيني أن يستشهد بهذه القاعدة، لإثبات وجوب ترك المقدمة المفوتة عقلا، حيث إن الوجه في وجوبها حكم العقل بصحة العقوبة على ترك الواجب بتركها، وبالتالي فالقاعدة المذكورة الجامعة للنكتتين العقليتين تثبت المحمول - وهو حكم العقل بصحة العقوبة على ترك الواجب في ظرفه بترك المقدمة - لا الموضوع.

المحتمل الثاني: وهو أن محور المسألة بمنظور المحقق النائيني قدس سره للمقدمة نفسها لا للواجب في ظرفه، وذلك من خلال ركنين:

أحدهما: تحقيق الموضوع وهو أن التفويت الحاصل بترك المقدمة تفويت اختياري أم لا؟

وثانيهما: تحقيق المحمول وهو أن التفويت الاختياري للملاك الملزم جائز أم لا؟

فإذا كان المنظور للمقدمة لا لذيها فلا حاجة للاستشهاد بالقاعدة لا في تحقيق الموضوع ولافي تحقيق المحمول، أما عدم الحاجة لها في تحقيق الموضوع فلأن فعل المقدمة أو تركها أمر اختياري بالبداهة، فاتصاف الترك بالتفويت من جهته اتصاف واقعي، وكونه اختياريا بالبداهة حتى لو مات المكلف أو أغمي عليه، فإن فوت الملاك الملزم لا من زاوية فقد الحياة أو زاوية الإغماء بل من زاوية ترك المقدمة اختياري قطعا. فلا حاجة للاستشهاد عليه بالقاعدة من أجل إثبات الموضوع، وأما أنه لا حاجة لها لإثبات المحمول فلأن حكم العقل بقبح تفويت الملاك الملزم للمولى واضح - عند المشهور - لا يحتاج للسند.

والملخص: أنه إن كان منظور المحقق النائيني قدس سره هو المحتمل الأول - وهو حكم العقل بصحة العقوبة على ترك الواجب في ظرفه أم لا - فالاستشهاد بالقاعدة لإثبات المحمول صحيح - مع غض النظر عن الملاحظات الآتية - وإن كان المنظور للمقدمة من حيث اتصاف تركها بالتفويت الاختياري للملاك الملزم - بلحاظ أن محل البحث في تحديد الوظيفة تجاه المقدمة وأنها لازمة عقلا أم لا؟ - فلا حاجة للقاعدة لافي إثبات الموضوع لأن صدق التفويت الاختياري على ترك المقدمة لا يحتاج إلى الاستشهاد بالقاعدة، فإنه من الواضح وجدانا أن تفويت الغرض يتحقق بمجرد ترك المقدمة فيكون مصب القبح هو ترك المقدمة وهو فعل اختياري لتعلق الإرادة به بالمباشرة لا بالواسطة، فتوجيه مطلب النائيني قدس سره بأن وجه الاستشهاد بالقاعدة إثبات أن التفويت اختياري غير تام.

هذا مضافا إلى أن ظاهر عبارة أجود التقريرات[3] أنه لم يستشهد بالقاعدة على إثبات الموضوع - وهو الاختيارية وعدمها - بل استشهد بها على المحمول وهو وجوب المقدمة عقلا، حيث قال: (فالحق وجوب تحصيل المقدمات من أول أزمنة الإمكان لتحصيل القدرة على الواجب، ووجوب حفظها لواجدها لئلا يفوت الواجب والملاك في ظرفه، إذ المفروض أن الملاك في ظرفه تام لا قصور فيه، فتفويته ولو بتفويت أول مقدماته تفويت بالاختيار، وهو لا ينافي العقاب وإن كان ينافي الخطاب في ظرفه).

ومما يؤكد ذلك ما أفاده بتعقيبه على ما مضى بأن هذه القضية العقلية تكشف عن وجوب المقدمة شرعاً، حيث قال: (فبهذه المقدمة العقلية يستكشف وجوب المقدمة شرعا حفظا للغرض)، فإن القضية العقلية لا تكشف عن وجوب المقدمة شرعا إلا بثبوت وجوب المقدمة عقلا، ولكن من الواضح أنه يكفي في إثبات المحمول وهو وجوب المقدمة عقلا هو حكم العقل بقبح تفويت الغرض الملزم في ظرفه بلا حاجة للقاعدة إلا على نحو دفع دخل.

وهو: إن قلت: إن قبح تفويت الملاك الملزم فرع مبغوضية فوته في ظرفه، ومبغوضية فوته في ظرفه غير معقولة لكون المكلف عاجزا عنه في ظرفه بسبب ترك المقدمة؟

قلت: إن العجز عنه في ظرفه ناشئ عن سوء الاختيار وما نشأ عن سوء الاختيار لا يرفع القبح والعقوبة.

الملاحظة الثالثة: أنه هل يكفي الوجوب المشروط مع كون الشرط دخيلا في أصل الاتصاف بالملاك في الكشف عن تمامية الملاك في ظرفه بنحو تستدعي وجوب المقدمة شرعاً؟ فمثلا: إذا قال المولى: (يجب الحج عند الاستطاعة) واستفدنا منه أنه لا وجوب قبل الاستطاعة بل لا ملاك لدخالة الاستطاعة في أصل الاتصاف بالملاك، فهل يكفي ذلك في استكشاف أن الملاك من الأهمية والتمامية أنه يجب تحصيله وحفظه قبل فعلية التكليف بحفظ مقدماته؟ حتى مع الإضافة التي أضافها السيد الشهيد قدس سره[4] وهي: أن المولى لا يتمكن من إبراز ملاكه إلا بهذا المقدار، إذ لو أراد المولى إبراز تمامية الملاك فلا طريق له إلا هذا الطريق لأن المفروض أن إبراز الملاك بالواجب المعلق مستحيل عند المحقق النائيني، وإبرازه بالواجب المشروط بالشرط المتأخر مستحيل عنده أيضا، فتعين أن يكون إبراز الملاك بهذه الصورة، فحيث إن هذا المقدار هو الممكن فهل يستفاد من ذلك تمامية الملاك؟ بحيث يجب على المكلف عقلاً إعداد المقدمات قبل الاستطاعة، ويستكشف منه الوجوب الشرعي ؟ بل أن الوجوب الشرعي نفسي لا غيري، كما أفاد في[5] وهذه مشكلة أخرى.


[1] ج2 ص206.
[2] ج1 ص196.
[3] ج1ص221.
[4] ج2ص206.
[5] الأجود ج1ص228.
logo