46/06/04
مبحث الأوامر
الموضوع: مبحث الأوامر
وحاصل ما أفاده المحقق العراقي قدس سره - في مقام الإشكال على وجوب المقدمات المفوتة قبل فعلية التكليف بفعلية القيد المأخوذ فيه - أن المناط في صحة العقوبة على ترك امتثال التكليف هو البيان أي: العلم بالتكليف في ظرف تحقق موضوعه لا قبله، كما أن المناط في قبح العقوبة على اللابيان في ظرفه أيضا، وبالتالي لا مجال لحكم العقل بصحة العقوبة على ترك التكليف بترك المقدمة المفوتة.
ويمكن تقريب كلامه بنحو آخر، وهو أن مراحل الحكم بحسب ما هو المعروف بينهم ثلاث مراحل: مرحلة الإنشاء، ومرحلة الفعلية، ومرحلة التنجز. فإذا قال المولى: ﴿لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا﴾ فإن الخطاب الصادر من المولى بقصد اعتبار الفعل على ذمة المكلف عبارةٌ عن مرحلة الإنشاء، وإذا صار الموضوع فعليا بمعنى تحقق الاستطاعة خارجا من المكلف فقد انتقل الحكم إلى مرحلة الفعلية، وإذا علم المكلف بهذا الحكم تحققت مرحلة التنجز - الذي هو عبارة عن حكم العقل بضرورة العمل دفعا للعقوبة على الترك - ولأجل ذلك فإن المتنجز هو الفعلي، فلا يعقل أن يكون ما ليس فعليا متنجزا، فحكم العقل بالعقوبة على مخالفة التكليف موضوعه الحكم الفعلي لا مطلق الحكم، فلذلك لا معنى لدعوى القوم أن المقدمات المفوتة واجبة قبل فعلية التكليف بذي المقدمة، لأن معنى وجوب المقدمات المفوتة - كما صرح به عدة منهم المحقق الحائري قدس سره - هو حكم العقل بصحة العقوبة على ترك التكليف في ظرفه، وحيث إن ترك التكليف في ظرفه يتحقق بترك المقدمات المفوتة فعلا، فلازم ذلك أن التكليف المشروط قد تنجز قبل شرطه،
مثلا: إذا قلنا: (يجب الغسل عقلا قبل طلوع الفجر) فمنشأ الوجوب العقلي هو حكم العقل بصحة العقوبة على ترك الصوم في ظرفه المتسبب عن ترك المقدمة الآن وهي الغسل، فلولا أن التكليف بذي المقدمة قد تنجز فعلا فلا معنى لوجوب المقدمة عقلا، إذ لا معنى لوجوب المقدمة إلا ما ترتب على حكم العقل بصحة العقوبة، وحكم العقل بالعقوبة إما أن يكون غير فعلي قبل تحقق الشرط فلا تجب المقدمة، وإما أن يكون فعليا فمعناه أن التكليف المشروط بطلوع الفجر قد تنجز على المكلف قبل طلوع الفجر، ومقتضى ذلك كون التنجز قبل مرحلة الفعلية، حيث إن التكليف لا يكون فعليا إلا بطلوع الفجر، لكنه قد تنجز على المكلف قبل طلوع الفجر، والشاهد على تنجزه وجوب المقدمة المفوتة، إذ لا معنى لوجوب المقدمة المفوتة عقلاً إلا نفس حكم العقل بضرورة فعل المقدمة تخلصا من محذور ترك التكليف بترك المقدمة وهو موجب لصحة العقوبة، ولازمه أن المتنجز بالفعل ماليس فعليا إلا بفعلية طلوع الفجر.
هذا على مبنى القوم، وأما على مبنى المحقق العراقي قدس سره - من أن التكليف فعلي قبل شرطه، لأن التكليف عبارةٌ عن الإرادة المبرزة والإرادة المبرزة فعلية من حين الخطاب - فإن التكليف فعلي من الأول، لذلك لا محذور في تنجزه قبل طلوع الفجر، ومقتضى فعليته وتنجزه قبل طلوع الفجر وجوب المقدمة المفوتة شرعا .
ولكن هنا تعليقتان:
الأولى: أن النكتة في المنجزية إما حق المولوية أو دفع الضرر المحتمل، أو إدراك العقل النظري تضمن التكليف للوعيد على الترك، بمعنى أن التنجز - أي: حكم العقل بضرورة الفعل دفعا للعقوبة على مخالفة تكليف المشرع - إما بنكتة حق المولوية بمعنى أن مقتضى المولوية احترام تكاليف المولى ، وأن عدم احترامها ظلم، والظلم موضوع للمذمة وصحة العقوبة، وإما بنكتة دفع الضرر المحتمل بمعنى أن علم العبد بتكليف المولى مساوق لاحتمال ضرر خطير على العبد حين تركه، سواء أكان هذا الضرر دنيويا أو أخرويا، فالتكليف مساوق لاحتمال الخطر عند تركه ، ودفع الضرر المحتمل واجب عقلا، وإما بنكتة أن علم العبد بالتكليف علم بتضمنه لعنصر الوعيد على الترك، ومقتضى ذلك هو الفعل فرارا من الوعيد .
فإذا كانت النكتة هي أحد هذه الوجوه فلا فرق فيها بين كون العلم في ظرف التكليف أو قبله، إذ لا تقتضي هذه النكتة العقلية الضيق والتقييد في موضوعها، بحيث لا يكون العلم بالتكليف منجزا له إلا في ظرف فعلية التكليف بفعلية موضوعه، وإلا فالعلم قبله مما لا أثر له، بل العلم المنجز للتكليف هو العلم به حين تحقق شرطه وموضوعه، فإنه تخصيص وتضييق لا تقتضيه نكتة المنجزية - بل مقتضى أحد الوجوه المذكورة أنه متى علم المكلف بحكم المولى وكان للعلم أثرٌ عملي في حقه كان التكليف متنجزا، سواء أتحقق شرط الفعلية أم لم يتحقق، فإن المهم وجود أثر فعلي للتكليف في حق المكلف، فمقتضى العلم به تنجزه بلحاظ ذلك الأثر، كما هو في المقام، فإن المكلف قبل طلوع الفجر علم بوجوب الصوم عند طلوع الفجر وأن لهذا التكليف على تقدير تنجزه أثراً وهو وجوب المقدمة المفوتة عقلا، فمقتضى نكتة المنجزية - من حق المولوية أو دفع الضرر المحتمل، أو تضمن التكليف للوعيد - تنجز التكليف عقلا في حقه من حين العلم، وأثر تنجز التكليف في حقه قبل طلوع الفجر هو وجوب المقدمات المفوتة.
فإن قلت: إن لازم ذلك التبعيض في التنجز حيث إن التكليف متنجز بلحاظ وجوب المقدمة المفوتة ، وليس متنجزا بلحاظ ذي المقدمة لعدم فعلية قيده؟
قلت: التبعيض في المتنجز لا في التنجز، وهو لازم حتى على مبنى العراقي قدس سره، فإن مقتضى مبناه أن القيد - كطلوع الفجر - وإن لم يكن دخيلا في الفعلية لفعلية التكليف من الأول، إلا أنه دخيل في الفاعلية أي ترتب الأثر ومنه المنجزية، وإلا لكان القيد لغوا، ولازم ذلك هو التبعض في المتنجز أي كون المتنجز هو وجوب المقدمة دون وجوب ذيها.
التعليقة الثانية: أن لوجوب المقدمة المفوتة تقريبين في كلمات الأعلام: تقريبا بلحاظ الواجب في ظرفه، وتقريبا بلحاظ الغرض اللزومي. وإشكال المحقق العراقي قدس سره لو تم فإنما يرد على التقريب الأول - كما هو المنظور في كلامه - وهو أن منشأ وجوب المقدمة المفوتة حكم العقل بصحة العقوبة على ترك الواجب في ظرفه بترك المقدمة المفوتة فعلا، وأما على التقريب الآخر الناظر للغرض اللزومي ومحصله: أن المكلف حيث علم أن هناك أمراً بالصوم عند طلوع الفجر فقد علم أن هناك غرضاً لزوميا للمولى وأن ترك المقدمة تفويت لذلك الغرض اللزومي، وتفويت الأغراض اللزومية للمولى قبيحٌ عقلاً وموردٌ للمذمة كقبح ترك امتثال تكاليفه ، فإن مقتضى العبودية للمولى أن تحفظ أغراضه كما تحفظ تكاليفه، فتجب المقدمة المفوتة عقلا من الآن بملاك قبح تفويت الغرض اللزومي بلحاظ تحقق التفويت فعلا بترك المقدمة .