« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الأصول

46/05/21

بسم الله الرحمن الرحيم

 مبحث الأوامر

الموضوع: مبحث الأوامر

 

الجهة الثانية: في بيان إمكانه وامتناعه

قد اعترض على إمكان الواجب المعلق بعدة اعتراضات:

 

الاعتراض الأول: ما نقله صاحب الكفاية قدس سره عن المحقق النهاوندي، وبيان إشكاله بذكر مقدمتين:

المقدمة الأولى: أن الإرادة التكوينية مما لا ينفك المراد فيها عن الإرادة، فلا يتصور في الإرادة التكوينية أن تكون الإرادة فعلية والمراد استقباليا، أي: لا يعقل أن يريد الإنسان في هذا اليوم الصوم في شهر رمضان، فإن الإرادة بالفعل مما لا يعقل أن يكون متعلقها أمرا يتوقف على الزمن كالصوم في شهر رمضان أو الحج في شهر الحج وأمثال ذلك.

المقدمة الثانية: بما أن الإرادة التشريعية على وزان الإرادة التكوينية، إذ ليس للإرادة معنيان وحقيقتان بل معناهما واحد، وإنما تختلف الإرادتان من حيث المتعلق، فإن كان متعلق الإرادة فعلا من أفعال النفس سميت الإرادة تكوينية كإرادة الأكل والشرب والمشي ونحو ذلك، وإن كان متعلق الإرادة فعلا من أفعال الغير كما لو أراد الأب من ابنه فعل كذا فالإرادة تشريعية، ولأجل ذلك تكون الإرادة التشريعية على نسق الإرادة التكوينية، فكما لا ينفك المراد عن الإرادة في الإرادة التكوينية فلا يتصور أن تكون الإرادة فعلية والمراد استقباليا فكذلك في الإرادة التشريعية، أي: لا يتصور أن تكون لدى المولى إرادة فعلية لعمل العبد ومع ذلك يكون المراد - وهو عمل العبد - مؤقتا بوقت لم يحن بعد، فالواجب المعلق مصادم لضرورة العقل، لأنه مبني على انفكاك زمن الواجب عن زمن الوجوب ، وهو مصادم لحقيقة الإرادة التشريعية التي لا ينفك المراد فيها عن الإرادة.

ولكن أشكل على كلتا المقدمتين:

الإشكال على المقدمة الأولى: و هو ما ذكر في الكفاية وتبعه جملة من الأعلام، وحاصله منع النكتة في المقيس عليه فضلا عن المقيس، وهو دعوى أن الإرادة التكوينية مما لا ينفك المراد فيها عن الإرادة ، وتقريب ذلك بذكر أمور:

الأمر الأول: أن تعريف الإرادة عند أهل المعقول هو الشوق المؤكد المحرك للعضلات، وليس المقصود من قيد (المحرك للعضلات) المأخوذ فيه اعتبار المحركية الفعلية في قوام الإرادة بحيث لولاها لم تكن الإرادة، وإنما المقصود بهذا القيد الإشارة إلى حصة من الشوق، حيث إن الشوق ذو حصص ، لكن لا يكون الشوق إرادةً إلا إذا كان الحصة المعينة، وهو أن يكون محركا شأناً للعضلات ، ومعنى المحرك شأنا أنه لو كان الفعل قابلا للتحقق ولم يكن مانع من وجوده لكانت محركية الشوق فعلية، فما هو دخيل في الإرادة هو تلك الحصة المساوقة وجودا للمحركية الشأنية، حيث إن من شأن الشوق الذي بلغ حد التأكد أن يحرك لو كان الفعل ممكنا وقابلا للتحقق، فلم يؤخذ في الإرادة المحركية الفعلية كي يقال: إن المراد لا ينفك عن الإرادة.

الأمر الثاني: حيث إن الإرادة هي المتصفة باقتضاء المحركية فعدم تحقق المراد خارجا لا لأجل أن الشوق ناقص، بل عدم تحقق المراد لعدم قابلية الفعل للوجود لا لعدم الإرادة، ومعنى عدم قابليته مع أن الإرادة تامة أن الإرادة لم تتعلق بطبيعي العمل، وإنما تعلقت بحصة من العمل وهي العمل في زمن كذا أوفي ظرف كذا، فحيث إن الإرادة قد تعلقت بالحج في ظرفه فمقتضى تعلق الإرادة بهذه الحصة أن لا يتحقق المراد إلا بهذه الحصة، وإلا لما تطابق المراد مع الإرادة، فهذا هو السر في عدم قابلية المراد للتحقق مع تمامية الإرادة ، وليس معنى عدم قابليته أن الوقت أو الظرف دخيل في الإرادة بمعنى أن تولد الإرادة متوقف على حضور الوقت، لأن الوقت أمر تكويني خارجي والإرادة أمر نفساني ولا يعقل تأثير الأمر الخارجي في الأمور النفسانية لعدم المسانخة بين المؤثر والمتأثر، وإنما النكتة في عدم القابلية أن الإرادة حيث تعلقت بهذه الحصة المعينة - وهي الفعل في زمن مستقبلي - لم يكن لهذا الفعل قابلية للتحقق، أي: لم تكن لحركة العضلات لامن حيث ذاتها بل من حيث تحقيقها للفعل المراد قابلية للانبعاث إلا في ذلك الوقت .

الأمر الثالث: أن الوجدان شاهد بذلك، فإن الإنسان يجد من نفسه أن الشوق البالغ حد المحركية لولا العامل الخارجي قد يتعلق بأمر مستقبلي كما يتعلق بأمر فعلي، والشاهد عليه أنه لو كان للفعل المستقبلي مقدمات فإن الإنسان ينبعث نحو المقدمات، فإذا أراد الحج مثلا في شهر ذي الحجة والمفروض أن الحج يتوقف على استخراج التأشيرة وتهيئة المقومات وحجز التذاكر ونحو ذلك فإن الإنسان بطبعه يبادر إلى فعل المقدمات، وإرادة المقدمات ليست إلا إرادة استطراقية لإرادة ذي المقدمة، أي لولا أن له إرادة فعلية متعلقة بذي المقدمة لما كانت له إرادة استطراقية نحو المقدمات، فهذا شاهد وجداني على أن الإرادة فعلية وإن كان المراد استقباليا.

هذا تقريب ما ذكر في الكفاية مناقشة للمحقق النهاوندي قدس سره، ولكن المحقق الإصفهاني قدس سره[1] ناقش في ذلك، وقال بأن الإرادة متقومة بالمحركية الفعلية، فما لم يكن الشوق محركا للعضلات بالفعل فليس إرادةً، وهذا ما عليه أهل المعقول، وقد أبان مطلبَه بوجهين:

الوجه الأول: أن من الواضح أن الشوق وإن أمكن تعلقه بأمر استقبالي الا أن الإرادة ليست هي طبيعي الشوق، فإن الشوق قد يتعلق بما لا يقع فعلا، بل قد يتعلق بالأمر المحال فضلا عن الأمور المستقبلية، إذ قد يشتاق الإنسان للعيش فوق المريخ مثلا وهو مما لايقع فعلا لمانع ، وقد يشتاق أن يكون طيرا يطير في الفضاء وهو محال، فالشوق يتعلق بالممتنعات فضلا عن المستقبليات، بل الإرادة إما أن تكون مرتبة خاصة من الشوق أو صفة أخرى بعد الشوق، وهي القوة الباعثة فعلا نحو الفعل بحيث لا تتخلف عنها القوة العاملة المنبثة في العضلات، والشاهد الوجداني على ذلك[2] أن مجرد الشوق المتعلق بأمر استقبالي ربمايتعلق بأمر كلي كما هو كذلك غالبا ، مثلا: قد يتعلق الشوق بطبيعي زيارة الحسين عليه السلام، ولا يعقل أن يكون الشوق من حيث هو محركا للعضلات نحو المراد في حصة من طبيعي الزيارة دون أخرى ، إذ من البديهي أن الشوق المتعلق بأمر كلي متساوي النسبة للأفراد المتصورة لهذا الكلي ، فتحريكه لبعض الأفراد ترجيح بلا مرجح، والترجيح بلا مرجح محال، فهذا شاهد على أن الإرادة ليست هي مجرد الشوق المتعلق بأمر استقبالي .

وهذا الوجه محل تأمل ، فإن صاحب الكفاية قدس سره لا يدعي أن الإرادة هي طبيعي الشوق، ولا هي مجرد الشوق المتعلق بأمر استقبالي ، إذ من الواضح أن الشوق المتعلق بأمر استقبالي أعم ، بل الإرادة هي حصة من الشوق المساوق للمحركية الشأنية ، الذي لا يتعلق إلا بما فرغ عن مرجح لوجوده في نفسه في رتبة سابقة على الشوق الخاص، بحيث يكون تعلق الشوق الخاص به، وهو المساوق للمحركية الشأنية منبعثا عنه، إذ المقصود بالمحركية الشأنية كما سبق أن الفعل لوكان قابلا للوجود من حيث حضور وقته أو تحقق ظرفه لكان الشوق الخاص محركا نحوه بالفعل ، وهذا إنما يتم في الشوق البالغ درجة الإقتضاء من حيث المحركية بحيث لايتخلف متعلقه عنه لولا العامل الخارجي وهو عدم حضور وقته ، لا مجرد الشوق المتعلق بأمر استقبالي ، فلب النزاع في أن المأخوذ في حد الإرادة هل هو مرتبة المحركية الشأنية أم مايساوق المحركية الفعلية؟


[1] في نهاية الدراية ج2 ص73.
[2] ص75.
logo