46/05/08
مبحث الأوامر
الموضوع: مبحث الأوامر
المطلب الثالث: أن النسبة لما كانت متقومة بطرفيها حيث لا تنسلخ عنهما فإنها تكتسب الصفات من طرفيها، فقد تكتسب النسبة المماثلة والمضادة من طرفيها، فمثلا: النسبة بين زيد وقيامه مماثلة للنسبة بين زيد وقيامه، فلو أن زيدا قام في الساعة الثانية وكرر قيامه في الساعة الثالثة فإن النسبة بين زيد وقيامه في الساعة الثالثة مماثلة للنسبة بين زيد وقيامه في الساعة الثانية، والسر في ذلك أن النسبة بما أنها متقومة بالطرفين تكتسب من طرفيها المماثلة، كما تكتسب من طرفيها المضادة، مثلا النسبة بين زيد وقيامه مضادة للنسبة بين زيد وقعوده، والنسبة بين زيد وجلوسه مضادة للنسبة بين زيد ونومه، وإنما اكتسبت النسبة صفة المضادة من التضاد بين الطرفين حيث إنها متقومة بطرفيها فينعكس عليها صفات الطرفين، وبهذا اللحاظ يمكن القول : إن النسبة إنما تكون كلية أو جزئية بلحاظ طرفيها لا بلحاظ ذاتها، فمثلا: إذا قال المولى: (إذا زرت كربلاء فليكن سيرك من النجف) فهذا القانون - وهو مطلوبية ابتداء السير من النجف - قانون على نحو القضية الحقيقية، أي أنه قانون كلي، فالنسبة تكتسب الكلية من طرفيها، وهما: السير والنجف، فالسير عنوان كلي قابل للانطباق على أنحاءٍ من السير، والنجف عنوان كلي قابل للانطباق على أنحاء من هذه البقعة، ولذلك فالنسبة بينهما كلية، ولولا أنها كلية لما كانت قابلة للتطبيق من قبل المكلف على مصاديق مختلفة وموارد مختلفة، وهذا ما يؤكد كلام المحقق الإصفهاني قدس سره، حيث أفاد[1] أن النسبة لا تنسلخ عن كليتها بمجرد تقومها بالطرفين، فإن جزئيتها ليست جزئية حقيقية، بل جزئيتها من حيث تقومها بطرفين فلا تنطبق على غير هذين الطرفين، ولكنها في حد ذاتها كلية بلحاظ كلية الطرفين، فكما تكتسب النسبة الجزئية من جزئية الطرفين - كما لو قال: (سير زيد من بيته في الساعة الأولى من يوم كذا) - فكذلك تكون النسبة كلية لكلية الطرفين، كما لو قال: (فليكن سيرك من النجف )، فتقومها بالطرفين لا يسلخها عن كونها كلية، وبالتالي فهي قابلة لورود الربط والتقييد الذي هو المعنى الحرفي عليها، وإن كانت متقومة بالطرفين.
المطلب الرابع: إن مقتضى فعالية الذهن البشري الكثرة الإدراكية، ومعنى الكثرة الإدراكية أن الذهن البشري يمكنه أن يتصور الشيء الواحد بأنحاء مختلفة، وبيان تلك الأنحاء:
النحو الأول: أن الذهن البشري يمكن أن يتصور المفهوم الواحد تارة بنحو الإجمال وأخرى بنحو التفصيل، فالإنسان تارة يتصوره بما هو إنسان، وأخرى يتصوره بأنه حيوان ناطق، مع أنه مفهوم واحد.
النحو الثاني: أن المعنى الواحد قد يلحظ بالحمل الأولي وقد يلحظ بالحمل الشائع، ولذلك اشتهر في علم المنطق أن الجزئي جزئي وأن الجزئي ليس بجزئي، أي أن مفهوم الجزئي وهو الجزئي بالحمل الأولي كلي وليس بجزئي بلحاظ صدقه على كثيرين من أفراد الجزئي، وهو بالحمل الشائع جزئي حقيقي، وكذلك مفهوم الكلي - وهو ما له قابلية الصدق على كثيرين - فإنه بالحمل الأولي كلي ولكن بما هو وجود ذهني جزئي لأنه صورة والصورة وجود ذهني، ولذلك لو قلنا بأن (في) موضوعة للنسبة الظرفية الناقصة المتقومة بالطرفين في عالم الوجود فإن هذا المفهوم بلحاظ مشيريته للحقيقة التعلقية معنى حرفي، وليس معنى حرفي بالحمل الشائع، حيث إن هذا المفهوم إذا لوحظ بما هو فهو معنى اسمي وليس معنى حرفي.
النحو الثالث: أن المعنى الواحد يلحظه الذهن بصفات متعددة، فمثلا: عدم البصر تارة يلحظه الذهن على نحو السالبة المحصلة (ليس ببصير) التي تصدق حتى على الجدار، وتارة يلحظه على نحو الموجبة المعدولة (اللابصير)، وتارة يلحظه الذهن على نحو القضية الموجبة (الأعمى)، مع أن المعنى واحد.
النحو الرابع: أن الذهن قد يخطر فيه المعنى الاسمي بنحو المعنى الحرفي أو المعنى الحرفي بنحو المعنى الاسمي، مثلا: (زيد في الدار) و(زيد داخل الدار)، و(زيد على السطح) و(زيد فوق السطح)، (أخذت من الدراهم) و(أخذت بعض الدراهم)، (الدار لزيد) و(الدار ملك زيد)، و(صل بطهارة) و(صل متطهرا) و(ليت زيدا قائم) و(أتمنى أن زيدا قائم) و( لعل زيدا يأتي) و(أرجوا أن يأتي زيد) حيث لا يرى الذهن في هذه الأمثلة فرقا في المعنى كما هو واضح بالوجدان، فما يخطر في الذهن من الجملة المشتملة على النسبة المتقومة بالطرفين المعبر عنها بالحرف، هو ما يخطر في الذهن من الجملة المشتملة على المادة نحو مادة (دخول) و(فوقية) المعبر عنها بالاسم، مما يكون منبها وجدانيا على عدم الفرق بين المعنيين من حيث قابلية الخطور في الذهن بما لهما من حقيقة وواقع.
النحو الخامس: أنه يمكن للنسبة الواحدة أن تلحظ بنحو تكون مفهوما إفراديا وبنحو آخر تكون مفهوما تركيبيا، فإذا لاحظ الذهن هذه القضية (الجلوس في الدار) فتارة يلحظها على نحو النسبة التامة المكونة من مبتدأ وخبر، وأخرى يلحظها على نحو النسبة الناقصة فيقال: الجلوس في الدار حاصل، أو لا ينبغي، أو فقل تارة يلحظه بنحو المفهوم الإفرادي وأخرى يلحظه بنحو المفهوم التركيبي.
والنتيجة: أن قدرة الذهن البشري على التصرف في المعاني إنما هو فرع خطورها وتصورها، فإذا كان من فعالياته التصرف في المعنى الحرفي برؤيته تارة بالإجمال وأخرى بالتفصيل، أو إبدال نفس مفهومه بالمعنى الإسمي المستفاد من المادة، أو تحويله لنسبة ناقصة أو مفهوم أفرادي فهذا منبه على أن تناول الذهن له على نسق تناوله للمعنى الإسمي، ومن تطبيقات ذلك مالو تصور الذهن هذه القضية (إذا زرت كربلاء فليكن سيرك من النجف) فإنها جامعة بين وصفين وهما كونها وجودا ذهنيا وكونها مفهوما كليا، والوجه في ذلك أنه إذا لاحظنا (فليكن سيرك من النجف) بما هو ربط ذهني بين مفهومين، أي أن الذهن قام بعملية إيجادية وهي عملية الربط بين مفهومين - وهما السير والنجف - أو النسبة الطلبية بين المولى والعبد، فإن نفس هذه الصورة الذهنية التي هي ربط بالحمل الشائع هي من سنخ الوجود، وإذا لاحظها الذهن فانية في ما وراءها وعنوانا لمضمونها فهي قضية كلية قابلة للتطبيق على مصاديق مختلفة، ولذلك يرى المكلف أنه إذا امتثل هذا الأمر (فليكن سيرك من النجف) في أي بقعة من أنحاء النجف فإنه امتثل نفس تلك النسبة التي طلبها المولى منه، ومرجع ذلك كله الى القدرة الذهنية للحاظ الشيء بنحوين، فالإنسان إذا أراد شيئا يرى بوجدانه أنه يبصر الإرادة بلحاظين لحاظ الموضوعية وأن النفس واجدة لها بالفعل، ولحاظ الطريقية وهو التوسل بها لتحقيق المراد، كذلك الأمر بالنسبة لعمليات الربط والتصوير المرتسمة في صفحة الذهن، مما يؤكد أن كون النسبة وجوداً ذهنيا لا يمنع من كونها خطوراً لمضمونها، ولا من كونها أمراً كليا قابلا للربط والتقييد، كما هو شأن كل وجود ذهني، فكما أن السير والنجف عنوانان ووجودان ذهنيان فهما بما هما صورة جزئيان وبما هما عنوان له مفهوم كليان، فكذلك هذه النسبة الابتدائية بينهما.
وبهذا تم ما ذكرناه نقاشا لسيد المنتقى قدس سره.
والمسلك المختار عندنا في المعنى الحرفي يتلخص في أمور ثلاثة:
الأمر الأول: أن المعنى الحرفي من سنخ المفاهيم لا من سنخ الوجود، وإلا لم يكن قسيما للمعنى الاسمي، فنحن في مقام المفهوم نقسم المفهوم إلى معنى اسمي ومعنى حرفي، حتى مع البناء على أن الموضوع له في المعنى الحرفي هو الخاص دون العام، فإنه لا يخرجه عن كونه مفهوما قابلا للخطور، فإذا قلنا مثلا : (في) موضوعة للنسبة الظرفية الناقصة المتقومة بالطرفين، على نحو كون هذا العنوان الاسمي الكلي مشيرا لتلك النسب الظرفية الخاصة فإن الموضوع له هو المعنون المشار إليه، والمعنون مفهوم قد حضر في الذهن بعنوانه الإجمالي، وهو الذي قد وضع اللفظ بإزائه من خلال حضوره عبر العنوان الإجمالي، ومما يرشد إلى كون تلك النسب الظرفية الحاضرة بعنوانها الإجمالي قابلة للخطور، أنها في نفسها قد تكون كليةً نحو (أطل الحضور في المسجد الحرام )وهي في نفس الوقت من مصاديق المعنون بعنوان النسبة الظرفية، بل قد تكون النسبة مما لا واقع لها وراء الذهن، كما يقال: (العدم من الممتنعات) أو (شريك الباري في قسم المعاني الباطلة )، فإن كل ذلك لا يمنع أن يكون ما حضر في الذهن مفهوما بواسطة عنوانه الإجمالي.
الأمر الثاني: أن الحروف أقسام: قسم متقوم بالطرفين نحو (في) زيد في الدار، وقسم متقوم بطرف واحد كحرف النداء وأل التعريف، وقسمٌ يكون نسبة إيجادية في الذهن لا مصداق لها في خارج الذهن كالاستفهام والاستدراك والاستثناء والإضراب والعطف، إذ ليس في الخارج استدراك واستثناء واستفهام، وإنما هي نسب إيجادية محضة، والقسم الرابع من المعاني الحرفية: ما كان من قبيل الحكاية عن الكيفية الخاصة مثل تاء التأنيث في (جاءت المرأة)، فإن تاء التأنيث حرف يكشف عن صفة في الجائي وهو كونه مؤنثا.
والمهم في الفرق بين الأقسام الأربعة هو الفرق بين النسبة الإيجادية الذهنية مثل نسبة الاستفهام والاستثناء وبين النسبة التي لها واقع كالنسبة الظرفية، فإن كليهما نسبة وإيجاد في الذهن، فكما أن الذهن يوجد نسبة الاستثناء ولا واقع لها وراء ذلك فكذلك الذهن بطبعه البشري يقوم بالربط بين مفهومين فيقول: (زيد في الدار)، إلا أن الفرق بينهما أن النسبة الأولى لا تقبل إلا أن تكون نسبة إيجادية تامة، وأما النسبة الثانية - وهي قولنا: (زيد في الدار) ونحوه - فلأن الذهن حين يصنعها يلحظ لها نحو خطور لمفهومها بلحاظ طرفيها فهي تقبل أن تلاحظ مفهوما تركيبيا ومفهوما إفراديا، ويمكن أن تلاحظ بما هي ربط ذهني وبما هي خطور للنسبة الظرفية الخارجية كما لو كان لهذه النسبة واقع.
فإن قلت: عند قيام الذهن بعملية الربط بين المفهومين فهذا الربط من سنخ الوجود وهو بهذا اللحاظ لا يقبل التصور، وهو المعنى الحرفي، وإذا لوحظ بنحو النسبة المتقومة بطرفيها الحاكية عن الخارج تبعا لحكاية طرفيهما فهو مفهوم أفرادي وهو المعنى الإسمي، فالمعنيان متباينان ومختلفان باختلاف اللحاظ ؟.
قلت: إن هناك فرقا وجدانيا واضحا بين المفهوم الأفرادي والنسبة، فالمفهوم الأفرادي يعني لحاظ الطرفين متصفين بالنسبة، وهذا هو المعنى الإسمي، والنسبة عبارة عن توجه الذهن لذات النسبة المتقيدة بالطرفين على نحو دخول التقيد وخروج القيد، وهي بهذا اللحاظ كلي قابل لورود التقييد عليه بمعنى حرفي آخر، أو فقل : إن النسبة ذاتها تلحظ في الذهن آلة للربط بين طرفيها فهي وجود، وهي نفس النسبة - لا المفهوم الأفرادي - تلحظ في الذهن بماهي ذات طرفين على نحو دخول التقيد وخروج القيد فهي نسبة كلية. الأمر الثالث: أن جميع هذه النسب والأقسام تشترك في الخطور في الذهن، حتى النسبة الإيجادية الذهنية كنسبة الاستثناء والاستدراك فإنها تقبل الخطور في الذهن.
والسر في ذلك أن من ذاتيات الوجود الذهني حيثية الحكائية والفناء مالم يلحظ على نحو النفسية، فتسرية أحكام الوجود الخارجي للوجود الذهني من حيث عدم قابلية الخطور خالية عن البرهان، وبلا مقتضي، نعم الوجود الخارجي بما هو وجود لا يقبل الخطور في الذهن، وأما الوجود الذهني فبطبعه له حيثية الفنائية والحكائية عما ورائه، فإن الصورة من ذاتياتها الحكائية والفنائية لما وراءها، حتى الصور التي لامعنى لها، فإن الذهن مثلا قد يتصور عنوان (اللاشيء) و(اللامعنى) ومع ذلك يراه عند تصوره حاكيا عن سلب محض، فحيث كان للصورة حيثية الحكائية فكذلك النسب الإيجادية عندما يقوم الذهن بصنعها كنسبة الاستثناء فإنه يرى أن لمضمونها الذهني تقررا بإزائها، وكذلك النسبة التي لها خارج فإنها تقبل اللحاظين: لحاظ أنها ربط ذهني فهي وجود ولحاظ أنها فانية فيما وراءها فهي إخطار للنسبة المحكية بها كما إذا قلت: (زيد في الدار)، وهذا هو الموافق للوجدان فإنا نشهد بالوجدان أن النسب قابلة للتفهيم والتفهم فيتحاور الطرفان ويقول القائل: (زيد في الدار) ويقول الآخر: (كلا ليس في الدار)، وإنما يتم ذلك لأن المستمع يرى بوجدانه أنه خطر في ذهنه نفس ما قصد المتكلم تفهيمه وإحضاره وليس شيئا آخر، بل متى صدرت النسبة ولو من لافظ دون وعي وشعور ارتسم معناها في الذهن كالمعنى الإسمي، كما أن الوجدان يؤكد قابلية التطبيق أيضا، فإن المولى إذا قال: (سر من النجف إلى كربلاء) على نحو القضية الحقيقية وهب المؤمنون لتطبيق ذلك فإن العبد الممتثل يرى أنه يطبق نفس النسبة التي أراد المولى بعث العبد نحوها.
والمتحصل: أن المعاني الحرفي قابلة للربط والتقييد حتى بالمعنى الحرفي لكونها قابلة للخطور والتصور بما لها من واقع.