« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الأصول

46/04/30

بسم الله الرحمن الرحيم

 مبحث الأوامر

الموضوع: مبحث الأوامر

 

وتحقيق المطلب أن الجعل الصادر من المولى كقوله: (أقم الصلاة لدلوك الشمس) له عدة لحاظات قد تجتمع في آن واحد ، وبإزاء كل لحاظ داع من الدواعي ، أي أن الجعل وإن كان صادرا عن إرادة الا أن الإرادة فعل له دواعي متنوعة تختلف باختلاف اللحاظ .

اللحاظ الأول: صدور الخطاب على نحو القضية الحقيقية، لا على نحو القضية الخارجية، ومن الواضح أن الداعي لصدوره على نحو القضية الحقيقية جري المولى على وفق الطريقة العقلائية، باعتبار أن نهج العقلاء جار على ذلك لا على إصدار خطابات عديدة بعدد المكلفين وفي كل وقت، وإنما يصدرون خطابا على نحو القضية الحقيقية ليكون المجعول فعليا عند فعلية الموضوع بلا حاجة إلى تجديد الخطاب في كل ظرف.

وحينئذ لو قصر النظر على هذا اللحاظ ، فإن صدور الجعل عن إرادة لا يعني أن الإرادة مقدمية، لأن المنظور في هذا اللحاظ هو جري المولى على وفق الطريقة العقلائية من جعل الخطاب على نهج القضية الحقيقية.

اللحاظ الثاني: أن الخطاب صادر على نحو المجعول المشروط لا المطلق، حيث إن المولى لم يقل: (أقم الصلاة) وإنما قال: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) فإن صدوره على نحو القضية الحقيقية - كما في النحو الأول - لا يستلزم صدوره على نحو المجعول المشروط، بل يمكن أن يكون على نحو القضية الحقيقية ومع ذلك يكون المجعول مطلقا، مما يعني أن صدوره على نحو المجعول المشروط له داع آخر غير الجري على وفق الطريقة العقلائية، والداعي المتصور لصدوره على نحو المجعول المشروط محاكاة الملاك، فبما أن الملاك في حد ذاته مشروط - حيث لا تتصف الصلاة بكونها ذات ملاك إلا في الوقت - أصدر المولى المجعول مشروطا، فلو قصر النظر على هذا اللحاظ لقلنا : إن علم المولى بأن الملاك مشروط اقتضى أن يصدر الخطاب بنحو المجعول المشروط ولا موجب لكون إرادة الجعل مقدمية .

اللحاظ الثالث: في عنوان الخطاب، وبيان ذلك أنه قد ذكر صاحب الكفاية قدس سره أن الخطاب الإنشائي يتعنون بوصف الداعي له، فإذا كان الداعي للأمر مثلا التعجيز أو رفع توهم الحظر أوالامتحان تعنون نفس الأمر بكونه تعجيزا أوإباحة أو امتحانا، وإذا كان بداعي البعث بالإمكان تعنون بكونه بعثا بالإمكان، والسر في ذلك أن الجعل فعل والفعل له عدة دواعٍ عقلائية، ومن الدواعي العقلائية المتصورة في صدور الجعل ثلاثة:

الداعي الأول: أن يكون صدور الجعل من المولى بداعي الإخبار مع أنه إنشاء، ولكنه إنشاءٌ بداعي البيان أي: بداعي بيان أن مقتضى حكمته أن تكون خطاباته على وفق ملاكاته.

الداعي الثاني: أن يكون صدور الخطاب من المولى بداعي الامتحان والاختبار للعبد، فيتصف الخطاب بكونه امتحانا واختبارا لأن الداعي له هو ذلك.

والجعل في هذين الفرضين وإن كان عن إرادة لكن لا موجب لكونه صادرا عن إرادة مقدمية، لكونه بداعي البيان أو الامتحان.

الداعي الثالث: أن يكون صدور الخطاب بداعي البعث على نحو الإمكان لأن البعث بالفعل مساوق للانبعاث بالفعل، وذلك لا يتصور إلا في فرض الانقياد خارجا، بينما البعث بالإمكان يعني أن المحرك لصدور الجعل من المولى هو أن يكون هذا الخطاب باعثا للمكلف نحو العمل على فرض الوصول الموجب لعنونة الخطاب بكونه بعثا بالإمكان، ومقتضى هذا اللحاظ كون الخطاب صادرا عن إرادة مقدمية، إذ لامعنى للحاظ البعث نحو العمل بالخطاب إلا كون الخطاب إحدى مقدمات العمل .

اللحاظ الرابع: اتصاف الخطاب بكونه محصلا للغرض .

وبيان ذلك بذكر أمرين:

 

الأمر الأول: أن هناك فرقا بين الباعثية العقلية والباعثية المولوية، فالباعثية العقلية عبارة عن حكم العقل بأن من حق المولى على العبد أن ينبعث نحو المأموربه، وهذا إنما يكون في حال كون الموضوع فعليا ووصول الخطاب للعبد، فإنه إذا وصل الخطاب للعبد وكان الموضوع فعليا حكم العقل بضرورة الانبعاث، فهذه الباعثية العقلية .

وأما الباعثية المولوية فهي عبارة عن اتصاف الخطاب الصادر من المولى عرفا بكونه بعثا، وهذا لا يتوقف على حصول الموضوع، فإن المولى متى ما صدر منه (أقم الصلاة لدلوك الشمس) عن إرادة جدية اتصف الخطاب بكونه بعثا، حيث إن المنصرف العقلائي منه أنه بداعي البعث، لا بداع آخر .

الأمر الثاني: بما أن صدور الخطاب بداعي البعث يعني أن الخطاب مقدمة للانبعاث في ظرفه فهو مساوق لصدوره عن إرادة مقدمية، إذ لا معنى في الخطابات الصادرة بداعي البعث، التي هي محل البحث كالخطابات المولوية الشرعية والعرفية لدعوى كفاية العلم بحدود الملاك في صدورها، فإن ذلك خلف كونها في مقام البعث نحو العمل المساوق لكون الخطاب مقدمة له، وبما أنه صادر عن إرادة مقدمية فيتصور في الإرادة المقدمية أحد غرضين:

الأول: أن يكون الغرض الفعلي للمولى كون خطابه معنونا بكونه بعثا بالإمكان، فإن المولى ملتفت إلى أن العبد في ظرف حصول الشرط لن ينبعث إلا بمقدمات منها القدرة ومنها وجود الخطاب، إذ لولا وجود خطاب من قبل المولى لم ينبعث العبد، فالخطاب لا محالة من مقدمات الانبعاث، وهذا الذي اقتضى أن يكون غرضه الفعلي المراد تحقيقه أن يكون هذا الخطاب بعثا، مما يعني أن صدور الخطاب بداعي أن يكون مقدمة للإنبعاث في ظرفه فقط من دون لحاظ غرض آخر في العمل نفسه كاشف عن إرادة نفسية فعلية متعلقها اتصاف خطاب المولى بكونه بعثا .

الثاني: أن يكون الغرض الفعلي للمولى كون خطابه مقدمة للعمل المقتضي للملاك في فرض معين، مما يعني أن الخطاب صادر عن إرادة مقدمية نحو تحصيل اقتضاء الغرض - الملاك - في ظرف معين، وهذا هو مورد الملازمة العقلائية بين صدور الخطاب عن إرادة مقدمية نحو تحصيل اقتضاء الغرض في ظرف معين وبين إرادة نفسية فعلية متعلقة بذلك الغرض، وبيان ذلك: أن التكاليف العقلائية الجارية على وفق الحكمة هي ما كانت متعلقة بالعمل بما هو ذو اقتضاء للغرض - الملاك -أي: أنها تصدر بهذا الداعي، لا لأجل كون الخطاب التكليفي معنونا بكونه باعثا فقط كما في الغرض السابق، سواء كان اقتضاء العمل للملاك لا بشرط أو في ظرف معين، فإذا كان المنصرف من الخطاب لدى المرتكز العقلائي صدوره بداعي البعث نحو الغرض، فصدور الخطاب عن إرادة مقدمية لتحصيل اقتضاء الغرض- الملاك - ولو في ظرف معين كاشف عن إرادة نفسية فعلية منصبة على ذلك الغرض، إذ لا يحتمل ارتكازا أن يكون للمولى إرادة مقدمية لتحصيل ما يقتضي - الملاك - ولو في فرض معين، ولا يكون ذلك تحصيل ذلك الملاك هو غرضه بالفعل وأنه محل شوقه وتصميمه .

وتوضيح ذلك: أن الغرض في المقام نحوان الغرض الأقصى، والغرض الأدنى.

مثلا إذا قال: (أقم الصلاة لدلوك الشمس) وقال: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) فإنه يعرف أن الغرض الأقصى للمولى يعني أن ما صمم عليه المولى بالفعل هو انتهاء العبد عن الفحشاء والمنكر، وحيث علم المولى أن هذا الغرض المراد بالفعل له مقتضيات ومعدات، ومن مقتضياته الصلاة في الوقت، حيث إن الصلاة في الوقت من المقتضيات لكون العبد قابلا للانتهاء عن الفحشاء والمنكر، فينبثق عن قراره بتحصيل الغرض قراره بتحصيل المقتضي له وهو الصلاة ، وهي إرادة فعلية في كل مولى حكيم، تعني أن غرضه الفعلي هو تحصيل غرضه اللزومي - أي الملاك - ومعنى أن غرضه الفعلي هو تحصيل غرضه أي أن قراره وتصميمه الفعلي على تحصيل - انتهاء العبد عن الفحشاء والمنكر - وقد انبثق عن قراره ذلك قراره الفعلي بتحصيل ماهو المقتضي لغرضه - الملاك - ولو في ظرف معين - بنفس النكتة المذكورة في لزوم المقدمة المفوتة ، فمثلا الإنسان الذي يريد السفر لبلاد معينة وهو يحتمل احتمالا عقلائيا أنه يبتلي خلال سفره بالمرض فإن عقله يفرض عليه إعداد الدواء بالفعل، مع أنه لا ملاك في شرب الدواء بالفعل وإنما يكون شرب الدواء ذا ملاك على فرض حصول المرض، وحصول المرض ليس مضمونا وإنما هو محتمل، لكن حيث إن للإنسان إرادة فعلية متعلقة بالتحفظ على الصحة، أو فقل: حيث إن غرضه الفعلي في حفظ غرضه - وهو الصحة - اقتضى ذلك أن تنبثق عن إرادته الفعلية الأولى إرادته بتحصيل الدواء أي تصميمه على ذلك، مع أن تحقق الحاجة له محتمل لا مضمون لكن مقتضى الحكمة هو ذلك، فكذلك الأمر في التكاليف المولوية الشرعية والعقلائية، فإنه حيث يكون لدى المولى غرض فعلي وهو انتهاء العبد عن الفحشاء والمنكر، ويرى أن من مقتضياته الصلاة، فإن تعلق غرضه الفعلي بحفظ العبد عن الفحشاء والمنكر مما ينبثق منه غرض له بالفعل بتحصيل مقتضياته، ولو كان اقتضاؤها محتملا على تقدير معين، ويكون لهذه الإرادة الفعلية أثران:

الأول: إعداد المقدمات المفوتة قبل حصول الشرط.

الثاني: حكم العقلاء باتصاف هذه الإرادة الكلية بكونها فعلية في حق من صار الشرط في حقه فعليا وأثر ذلك حكم العقل بلزوم الإمتثال .

فدعوى أن الجعل لا يتوقف على صدوره عن إرادة مقدمية نحو تحصيل الغرض لتكون كاشفة عن إرادة نفسية نحو الغرض مدفوعةٌ بأن المرتكز العقلائي على هذه الملازمة في الجعل الصادر بداعي البعث نحو العمل المقتضي للغرض - الملاك - ، لما سبق من أن الجعل له لحاظات ذات دواعي متنوعة تجتمع في آن واحد، فالجعل بلحاظ كونه قضية حقيقية بداعٍ، والجعل بلحاظ كونه مجعولا مشروطا بداعٍ آخر، والجعل بلحاظ كونه بعثا بالإمكان بداعٍ ثالث، والجعل بلحاظ كونه محصلا للغرض بداعي رابع، فإذا سئل المولى ماهو المبرر لصدور خطابك بنحو القضية الحقيقية؟ أجاب لأن المنهج العقلائي كذلك، وإن سئل لماذا كان المجعول مشروطا؟ أجاب بأن علمي بكون الملاك مشروطا اقتضى صوغ الخطاب بنحو المجعول المشروط، وإن سئل ما هو المبرر لصدور الخطاب نحو الملاك المشروط؟ مع أنه لايتحقق اتصاف الفعل به إلا في فرض الشرط لأجاب بأن المبرر هو البعث نحوه بلحاط أن الخطاب مقدمة لحصول الانبعاث في ظرفه، وإن سئل ماهو المبرر للبعث نحو تحصيل مايقتضي الملاك على فرض معين؟ لأجاب بأن لدي غرض لزوميا بالفعل لذا صممت على صونه وحفظه بطلب تحصيل مايقتضيه في ذلك الظرف المحتمل.

والمتحصل أن المختار كاشفية صدور الجعل بإرادة مقدمية عن ثبوت إرادة فعلية قبل حصول الشرط وفاقا للشيخ الأعظم والسيد الصدر قدس سرهما، إلا أن الإرادة الفعلية التي تكشف عنها الإرادة المقدمية لدى الشيخ الأعظم قدس سره هي إرادة الجزاء المشروط وإن لم يحصل الشرط، ولدى السيد الصدر قدس سره هي الإرادة المتعلقة بالجامع، والمختار هي الإرادة المتعلقة بالغرض الأقصى، لذلك فما ذكر ليس دفاعا عن ما أفاده السيد الصدر قدس سره من تعلق الإرادة بالجامع بل هو دفاع عن أصل وجود الإرادة النفسية المتعلقة بالغرض.

الإيراد الثاني: أن مقتضى تعلق الإرادة بالجامع أن يكون في الجامع مصلحة تقتضي تعلق الإرادة التشريعية بها، أو أن يكون في كلا الفردين من الجامع مصلحتان متساويتان، ونتيجة تساوي المصلحتين في كلا الفردين تعلق إرادة المولى بالجامع، ولكن هذا المعنى إن كان متصورا في التكوينيات فليس متصورا على نحو الاطراد في التشريعيات، فإن هناك كثيرا من المصاديق - إن لم تكن هي الأغلب - التي لا يرى وجود مصلحة في الجامع أو في كلا الفردين بنحو التساوي، مثلا: إذا كان المولى يريد الحج في فرض الاستطاعة فهل يتصور في المقام مصلحة في الجامع؟ سواء بالصياغة التي أفادها[1] وهي الإرادة المتعلقة بإعدام المجموع، مثلا إذا قال المولى: (إذا زرت الحسين عليه السلام فصل ركعتين) فإن الإرادة الفعلية تعلقت بإعدام المجموع، أي: أن المولى لا يريد زيارةً لا صلاة فيها، وبالتالي بناء على هذا البيان فهل يتصور أن للمولى مصلحة في إعدام هذا المجموع؟ وبعبارة أخرى أن للمولى مفسدة في الزيارة التي لا صلاة معها، فهذا مما لا يحتمل بحسب المرتكزات المتشرعية، أو بالصياغة التي أفادها في مورد آخر[2] حيث أفاد أن الإرادة الفعلية هي المتعلقة بالجامع بين عدم الشرط وفعلية الجزاء عند فعلية الشرط، فإذا قال: (يجب عليك الحج إذا استطعت) فالمطلوب إما أن لا يستطيع المكلف أو إذا استطاع فعليه الحج، فهل يتصور مصلحة في نفس عدم الاستطاعة ومصلحة في الحج على فرض الاستطاعة؟! وهذا منبه على خطأ المبنى وهو دعوى أن هناك إرادة فعلية تتعلق بالجامع قبل فعلية الشرط .

وهذا الإشكال وارد على ما ذكره السيد قدس سره من تعلق إرادة بالجامع بما هو جامع وإن لم يكن الشرط فعليا.

الإيراد الثالث: أنه يمكن أن نصوغ برهانا على بطلان تعلق الإرادة بالجامع، وبيانه بذكر مقدمتين:

المقدمة الأولى: إذا تعلقت الإرادة بالجامع وفرض أن أحد فردي الجامع مبغوض لدى المولى فلا محالة تنصب الإرادة على الفرد الآخر وتنقلب الإرادة من إرادة الجامع إلى إرادة الفرد، مثلا: إذا قال المولى: (أكرم أحد الرجلين زيدا وعمرا) ثم أصبح زيد عدوا له بحيث يبغض إكرامه، فلا محالة سوف تنصب إرادة إكرام الجامع على إكرام عمرو.

المقدمة الثانية: تطبيق ذلك على التشريعيات أنه في بعض الموارد يكون عدم الشرط مبغوضا لا محبوبا، وذلك في حال كون الشرط في نفسه واجبا من الواجبات، كما إذا قال المولى: (إذا حججت فطف طواف النساء) وفرض أن الحج واجب، فهنا لا يتصور في عدم الحج لكونه عدم الشرط أن يكون ذا مصلحة ومرادا ومحبوبا، لأن الحج واجب، فإذا كان الشرط واجبا فقد انقلبت إرادة عدمه إلى إرادة وجوده،و محبوبية عدمه إلى مبغوضية عدمه، ومقتضى انقلاب الإرادة في الشرط انقلابها في المشروط، فبعد أن كان الجزاء قضية مشروطة أصبح قضية مطلقة، لأن المفروض أن شرطه مراد على كل حال، فلا معنى لاشتراط الجزاء به، بل يكون الجزاء والشرط مطلوبا، وانقلاب القضية المشروطة إلى قضية مطلقة واضح البطلان .

فهذا برهانٌ كاشف عن خطأ المبنى، وهو تعلق الإرادة بالجامع في التشريعيات.

ولكن يمكن الملاحظة على ما أفيد في كلتا المقدمتين :

أما بالنسبة للمقدمة الأولى فإن هناك فرقا بين الجامع الحقيقي والجامع الانتزاعي، ففي الجامع الانتزاعي - وهو عنوان الأحد في نحو (أكرم أحد الرجلين) - فإن العنوان مجرد مشير إلى الفردين وليس له موضوعية، فإذا تبين أن أحد الفردين مبغوض اتجهت الإرادة للفرد الآخر، وأما إذا كان الجامع حقيقيا كما هو مدعى السيد الصدر قدس سره حيث يدعي أن في التشريعيات إرادة متعلقة بالجامع الحقيقي على نحو القضية الكلية، وهذا يعني أنه حتى لو انحصر الجامع في فردين خارجا وكان أحدهما مبغوضا لا تتحول الإرادة من إرادة الجامع إلى إرادة الفرد الآخر لأن المفروض أن الجامع حقيقي وقد تعلقت الإرادة به على نحو القضية الحقيقية، كما لو قال المولى: (أكرم الفقيه الصيني إذا استبصر) وهذا كاشف عن أن متعلق الإرادة النفسية لدى المولى جامع حقيقي على نحو القضية الحقيقية، فإذا افترض أن عنوان العالم الصيني المستبصر منحصر في فردين أحدهما مبغوض إكرامه، فهذا لا يعني انصباب الإرادة على الفرد الآخر وتحولها من إرادة الجامع إلى إرادة الفرد، وأما بالنسبة للمقدمة الثانية، فلو فرض أن الشرط قد أصبح مرادا، فهل تنقلب الإرادة من كونها قضية مشروطة إلى كونها قضية مطلقة؟

والصحيح عدم الإنقلاب بحسب عالم الإرادة ، والسر في ذلك أن الإرادة - بحسب كلمات السيد الشهيد قدس سره - وإن كانت مرتبة من الشوق الا أن المقصود بها ليس الشوق الطبعي العفوي، بل المقصود بها الشوق العقلاني المبني على التبصر والعقل، أو الإرادة العقلانية أو الشوق المؤكد المحرك للمولى نحو حفظ المقدمات المفوتة حفظا تشريعيا - على اختلاف العبارات الواردة في تقريري بحثه - وبالتالي فتعلقها بالجامع الحقيقي لملاك فيه لا يقتضي تعلقها بالفرد لمجرد مبغوضية الفرد الآخر، كما أن تعلقها بالجزاء في ظرف حصول الشرط لملاك في ذلك لا يقتضي تعلقها بالجزاء على نحو اللابشرط في ظرف تعلقها بالشرط أيضا لملاك يقتضي ذلك، إذ للمولى أن يقول: إن المورد الذي يكون فيه الشرط مرادا أيضا - كالحج - فإنما هو لمصلحة في الشرط نفسه، وفي نفس الوقت ليست إرادته لطواف النساء على نحو اللابشرط، فإنه خلف علمه بالملاك الذي اقتضى تعلق الإرادة به في ظرف الشرط، فإرادة طواف النساء إنما هي في فرض الحج وإن كان الحج مرادا على كل حال، وكون الحج مرادا على كل حال لا يوجب انقلاب إرادة الجزاء إلى إرادة مطلقة باعتبار أن الإرادة تابعة للملاك، وحيث إن الملاك مشروط فلا يعقل حتى في عالم الإرادة - الشوق العقلاني - أن تنقلب الإرادة المتعلقة بالجزاء من كونها قضية مشروطة إلى كونها قضية مطلقة .

فتلخص من جميع ما ذكرناه أن الصحيح: أن هناك إرادة فعلية قبل فعلية الجزاء، ولكنها ليست متعلقة بالجزاء كما ذهب إليه الشيخ الأعظم والمحقق الإيرواني قدس سرهما ومن وافقهما، وليست متعلقة بالجامع كما أفاده السيد الصدر قدس سره لورود بعض الإشكالات السابقة عليه، وإنما الإرادة الفعلية هي الإرادة المتلعقة بالغرض الأصلي الذي انبثقت منه إرادة نحو الغرض الإعدادي الذي يكون الفعل بالنسبة إليه مقتضيا ومعدا لحصوله.

الجهة الثالثة: هل بين الإرادتين ترابط أم استقلال؟ حيث ذكرنا أن في المقام إرادتين: إرادة فعلية قبل فعلية الشرط، وهي إرادة الغرض الأصلي على ما هو المختار، وإرادة الجزاء على فرض حصول الشرط، فما هو وجه الربط بين الإرادتين؟

الصحيح أن الإرادة الثانية امتداد للإرادة الأولى، وليست إرادةً مستقلة، وبيان ذلك: أن المولى حيث أراد تحقيق غرضه كما لو فرضنا أن المولى قال: (إذا زرت الحسين عليه السلام فقبل الضريح) فإن لديه إرادة فعلية قبل فعلية الشرط، وهي إرادة استمداد البركة من ضريح سيد الشهداء عليه السلام، وهذه الإرادة الفعلية المتعلقة بالغرض هي التي اقتضت أن تنبثق منها إرادة وهي إرادة تقبيل الضريح عند زيارة الحسين عليه السلام، فالإرادة الثانية ليست مستقلة عن الأولى، بل هي امتدادٌ وتطور - كما عبر به السيد الصدر قدس سره - للإرادة الأولى، وذلك لأن المولى عندما أراد الزيارة تحقيقاً لغرضه الأصلي - وهو استمداد بركة الإمام الحسين عليه السلام - فإنه ما أراد الزيارة على نحو الموضوعية، وإنما أرادها على نحو الطريقية المحضة للتوصل بها إلى ما هو الغرض الأصلي وهو استمداد البركة، فبما أن الإرادة إرادة طريقية ففي الواقع ما هو المراد ليس الزيارة وإنما المراد الاستطراق بالزيارة لتحقيق الغرض الأصلي، فمصب الإرادة هو الاستطراق والتوصل، فبما أن مصب الإرادة هو الاستطراق والتوصل فهذا يعني أن إرادة تقبيل الضريح عند حصول الزيارة ليست إلا تكاملا للإرادة الأولى .

وخلاصة ما سبق في بحث الواجب المشروط: أنه لا إشكال في الاشتراط من ناحية الملاك، لأن الملاك مشروط بوقوع الزيارة، ولا إشكال في الاشتراط بحسب عالم الجعل، لأن المجعول مشروط، فوجوب تقبيل الضريح إنما هو في فرض حصول الزيارة، وإنما البحث كله في الإرادة وهو أن إرادة تقبيل الضريح على فرض زيارة الحسين عليه السلام هل هي فعلية قبل فعلية الشرط أم لا؟ والبحث في الإرادة في مقامين: الثبوت والإثبات.

المقام الثبوتي: وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: في فعليتها قبل فعلية الشرط.

المطلب الثاني: في ثمرة البحث وهي وجوب المقدمات المفوتة.

المطلب الثالث: في تصوير الإرادة المشروطة.

أما المطلب الأول فإن المولى إذا قال: (يجب الحج على المستطيع) فهل إن إرادته للحج فعلية قبل فعلية الاستطاعة أم لا؟ قد ذهب الشيخ الأعظم قدس سره ومن تبعه إلى فعلية الإرادة للجزاء قبل فعلية الشرط، وأقيم على ذلك وجهان وجه وجداني ووجه برهاني لإثبات فعلية إرادة الجزاء قبل فعلية الشرط، وناقشنا في كلا الوجهين وأنه لا إرادة للجزاء قبل فعلية الشرط.

وأما المطلب الثاني فهو عن الثمرة في البحث، وذكرنا أن الثمرة - وهي لزوم المقدمات المفوتة - تبتني على أنه على فرض أن لا إرادة للجزاء قبل فعلية الشرط، ولكن هل توجد إرادة أخرى قبل فعلية الشرط تترتب عليها الثمرة ؟

وفي هذا المطلب ثلاثة اتجاهات:

الاتجاه الأول: من قال أنه لا موضوع للبحث أصلا، وهو مسلك سيدنا الخوئي قدس سره لأنه لا يرى وجود إرادة في عالم الأحكام أصلا بل لا يوجد إلا العلم بالملاك والجعل وليس هناك إرادة كي يبحث في ثمرة وجودها.

الاتجاه الثاني: مسلك سيدنا الأستاذ مد ظله الشريف من أنه حتى لو فرض وجود إرادة فعلية قبل فعلية الشرط سواء أتعلقت بالغرض أم بالجامع، فإنه لا ثمرة لهذه الإرادة أصلا ما لم يكن هناك خطابٌ وبيان، فالمدار على الخطاب لا على الإرادة.

الاتجاه الثالث: ما هو المختار من أن هناك إرادة وأن لهذه الإرادة ثمرة مقابل ما بنى عليه نابغة الأصول السيد الروحاني قدس سره الشريف في المنتقى من أنه لا توجد إرادة فعلية قبل فعلية الشرط لا للجزاء ولا للغرض، فلا ثمرة، حيث إن مقتضى الوجدان العقلائي ترتب الثمرة، وهي لزوم المقدمات المفوتة شرعا، فإن العبد إذا علم بوجود مقدمات وأنه ما لم يحققها لن يتمكن من الإتيان بالجزاء عند فعلية الشرط فيجب عليه أن يأتي بالمقدمات لأن للمولى إرادة فعلية قبل فعلية الشرط، نعم هنا فرقٌ بين مسلك العراقي ومسلك السيد الصدر قدس سرهما، فإن مسلك المحقق العراقي أن الإرادة الفعلية قبل فعلية الشرط هي الحكم وتمامه، وإنما الجعل والاعتبار مجرد مبرز محض لا أكثر، بينما ذهب السيد الصدر قدس سره إلى أن هذه الإرادة هي روح الحكم، فإن الحكم يحتاج إلى عنصر آخر وهو عنصر الجعل والاعتبار لا لأجل الصياغة التنظيمية بل لتحديد موطن حق الطاعة.

كما أن الاختلاف بين مسلكنا ومسلك السيد الصدر قدس سره أن السيد الصدر قدس سره يرى أن الإرادة الفعلية التي سبقت فعلية الشرط هي إرادة الجامع، والمختار أنها إرادة الغرض الأصلي التي تنبثق منها إرادة الغرض الإعدادي كما شرحنا ذلك.

وأما المطلب الثالث وهو تصوير الإرادة المشروطة، وفيه ثلاث جهات:

الجهة الأولى: أن المحقق النائيني ادعى - بحسب ما نقل عنه في أجود التقريرات - أن للإرادة وجودا تقديريا، وقلنا بأن هذا غير معقول.

الجهة الثانية: أن السيد الصدر قدس سره يرى أن الإرادة فعلية قبل فعلية الشرط ولكنها تتعلق بالجامع، وقلنا بأن بعض الأجلة من تلامذته رحمه الله أشكل عليه بثلاث إشكالات ذكرناها وقبلنا بعضها وتأملنا في بعضها.

الجهة الثالثة: في بيان الربط بين الإرادتين الإرادة الفعلية قبل فعلية الشرط والإرادة عند حصول الشرط، وقلنا بأن الإرادة الثانية سراية وامتداد للأولى.

وبذلك تم البحث، وخلاصته أن هناك إرادة فعلية قبل فعلية الشرط، لكنها ليست إرادة الجزاء كما ذهب إليه الشيخ الأعظم ولا هي متعلقة بالجامع كما ذهب إليه السيد الصدر، وإنما هي إرادة نحو الغرض الأصلي الذي تنبثق منه إرادة الغرض الإعدادي، ولهذه الإرادة ثمرة وهي وجوب المقدمات المفوتة.

تم الكلام في المقام الثبوتي، ويقع الكلام في المقام الإثباتي، وهو أنه هل يعقل تقييد الوجوب بالشرط بحسب عالم الدلالة والإثبات أم لا؟ فإذا قال المولى: (يجب الحج على المكلف إذا استطاع) فهذا القيد يرجع للوجوب أم للواجب؟ وبعبارة أخرى هل هو قيد للهيأة أم قيد للمادة؟ فلو قال المولى: (حج إن استطعت) فإن لـ(حج) هيئة ومادة، فهل القيد يرجع إلى الهيئة أم يرجع إلى المادة؟ ذهب الشيخ الأعظم إلى رجوع القيد للمادة، وذهب المحقق النائيني إلى رجوع القيد للمادة المنتسبة، وذهب الأعلام إلى رجوع القيد للهيأة، والإشكال كله في أن معنى الهيأة معنى حرفي، فهل يقبل المعنى الحرفي التقييد أم لا؟ حيث ادعي أن المعنى الحرفي لا يقبل التقييد إما لأن المعنى الحرفي جزئي والجزئي لا يقبل التقييد، أو لأنه معنى آلي والآلي لا يقبل التقييد لأن التقييد فرع أن يكون المقيد ملحوظا على نحو الاستقلال والمعنى الحرفي لا يقبل اللحاظ الاستقلالي فلا يقبل التقييد.

هل يرجع القيد في الجملة الشرطية إلى الهيئة أم إلى المادة؟ فإذا قال المولى: (إن استطعت فحج) فهل شرط الاستطاعة راجعٌ لمفاد الهيئة وهو الوجوب أم لمفاد المادة وهو الواجب؟ فإذا لوحظ النسق اللغوي فإن كلمات أهل اللغة على أن القيد راجع للهيئة، أي أن الشرط - وهو الاستطاعة - دخيلٌ في الوجوب، ولكن ذهب الشيخ الأعظم قدس سره ومن تبعه إلى رجوع القيد للمادة أي: الواجب، بمعنى أن الواجب هو الحج المتصف بالاستطاعة، وإلا فالوجوب في حد ذاته لا بشرط .

ومنشأ هذا المبنى ثلاثة:

المنشأ الأول: أن معنى الهيئة من المعاني الحرفية، والمعنى الحرفي جزئي، والجزئي لا يقبل التقييد بالشرط.

وربما يقال: إن هذا المنشأ إنما يتم إذا أنشئ الوجوب بهيئة الأمر، وأما إذا أنشئ الوجوب بالجملة الاسمية كما إذا قال: (إن استطاع المكلف فالحج واجب) فلا موضوع لهذا الإشكال، لأن موضوع هذا الإشكال، إذ ليس في البين ما هو معنى حرفيّ كي يرد فيه الإشكال.

وبيان منشأ الإشكال بذكر أمور ثلاثة:

الأمر الأول: أن الوضع في الحروف من الوضع العام والموضوع له الخاص، وبيان ذلك أن الوضع تارةً يكون عاما والموضوع له عاما، كما إذا قال الواضع: (وضعت كلمة رجل لما يقابل الأنثى) فهذا من الوضع العام والموضوع له العام، وتارة يكون من الوضع العام والموضوع له الخاص كقول الواضع: (سميت كل من يولد في يوم الغدير عليا) فحيث إن الوضع انحلاليّ فالتسمية ليست بإزاء العنوان العام - وهو من ولد يوم الغدير - بل بإزاء كل مولود مولود، فكل مولود بخصوصه منظور إليه في مقام التسمية إجمالا، لذلك فالوضع هنا وإن كان عاما حيث إن الواضع في مقام الوضع تصور عنوانا عاما - وهو من ولد يوم الغدير - ولكن الموضوع له ليس هذا العنوان العام، بل هو مجرد مشير لما هو الموضوع له، وهو: كل مولود مولود في يوم الغدير.

وهذا هو الشأن في باب الحروف، فإن الواضع إذا قال: (وضعت كلمة من للابتداء) فهو لا يقصد وضعها لمفهوم الابتداء، وإلا كان الوضع عاما والموضوع له عاما، وإنما جعل عنوان الابتداء عنوانا مشيرا لكل ابتداء خاص كالابتداء من البصرة ومن الحرم ومن المدرسة إلى آخره.

الأمر الثاني: بما أن الموضوع له خاص، أي أن الموضوع له كلمة (من) هو النسبة الابتدائية المتقومة بطرفين كقوله: (سرت من الكوفة إلى النجف) فالموضوع له جزئي، إذ الخاص المتقوم بطرفين جزئيّ، فالنسبة الابتدائية بين الكوفة وبين النجف تختلف عن النسبة الابتدائية بين كربلاء وبين الكوفة، ومقتضى التقوم بالطرفين أن الموضوع له جزئي، وهكذا في صيغة الأمر حيث: (وضعت هيئة افعل للنسبة البعثية أو الطلبية) والنسبة الطلبية نسبة جزئية متقومة بطرفين، فـ(اذهب) غير (صل وقم).

الأمر الثالث: أن الجزئي لا يقبل التقييد، فإنه إذا قال: (سرت من الكوفة إلى النجف) وكان المنظور النسبة الابتدائية المتقومة بهذين الطرفين فهي جزئي، والجزئي لا سعة فيه كي يكون قابلا للتقييد، فإن التقييد فرع السعة والإطلاق، والمفروض أن الجزئي متقوم بطرفين فلا يقبل التقييد بغيرهما، فكذلك قوله: (إذا استطعت فحج) فإن كلمة (فحج) صيغة أمر، وصيغة الأمر معناها حرفي وهو جزئي لا يقبل التقييد، فلا يعقل تقييد المستفاد من (فحج) بالشرط، مما يعني أن مرجع الشرط إلى الواجب والمادة وهو الحج لا إلى الوجوب المستفاد من الهيئة.

ولكن تفصيّ عن هذا الإشكال بعدة وجوهٍ تعرض لها الأعلام قدست أسرارهم، ومنهم سيدنا الخوئي قدس سره.

التفصي الأول: ما ذهب إليه صاحب الكفاية قدس سره من أن الأمر الأول ممنوع - وهو دعوى أن الوضع في الحروف من الوضع العام والموضوع له الخاص - بل الوضع في الحروف من الوضع العام والموضوع له العام، فلا فرق بين كلمة الابتداء وبين كلمة (من) فكما أن كلمة الابتداء وضعت لطبيعي الابتداء فكذلك كلمة (من) موضوعة لطبيعي الابتداء، فكل من الاسم والحرف موضوع لمعنى عام والوضع فيهما عام والموضوع له عام، غاية ما في الباب أنه إذا استعمل الابتداء على نحو اللحاظ الآلي فهو معنى حرفي، وإذا استعمل الابتداء على نحو اللحاظ الاستقلالي فهو معنى اسمي، وإلا فلا فرق بينهما من حيث الذات، وإنما الفرق بينهما ناشئ عن مقام الاستعمال، فإن جاء الابتداء ملحوظا باللحاظ الآلي في مقام الاستعمال فهو معنى حرفي، وإن جاء الابتداء ملحوظا باللحاظ الاستقلالي فهو معنى اسمي، وإلا فلا فرق بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي من حيث الذات، وبناء على ذلك فالمعنى الحرفي كلي كالاسمي، والمعنى الكلي قابل للتقييد، فلا مانع من رجوع الشرط إلى الهيئة والوجوب.

ولكن نوقش في مبنى صاحب الكفاية كبرويا، بمنع كون وضع الحروف عاما والموضوع له عام، والسر في ذلك أنه لا يعقل وجود جامع حقيقي بين النسب، فالنسبة الابتدائية بين البصرة والكوفة والنسبة الابتدائية بين الحرم والمدرسة والنسبة الابتدائية بين السوق والبيت كلها معانٍ حرفية لا جامع حقيقي بينها حتى يوضع اللفظ بإزاء ذلك الجامع الحقيقي، لأنه إذا أريد انتزاع جامع بين هذه النسب فإما أن تلغى أطرافها وإما أن تبقى أطرافها، فإن ألغيت أطرافها خرجت النسبة عن حقيقتها، إذ المفروض أن النسبة متقومة بطرفيها، فكيف يتصور الجامع بينها وبين غيرها وقد انسلخت عن حقيقتها؟ وإن حوفظ على أطراف النسب لم يكن الجامع بينها جامعا حقيقيا، بل هو جامع انتزاعي من هذه النسب الخاصة المعبر عنها بالابتداء، والجامع الانتزاعي المشير مما لامعنى لوضع اللفظ بإزائه، فحيث لا يوجد جامع حقيقي بين النسب الحرفية الخاصة لم يكن من سنخ الوضع العام والموضوع له العام.

المبنى الثاني: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره الشريف وتبعه جملة من الأعلام منهم سيدنا الخوئي والسيد الصدر قدست أسرارهم، وهو أن المعنى الحرفي جزئي إضافي لا حقيقي، وبيان ذلك أن الجزئي الحقيقي ما كان متقوما بالتشخص الخارجي، والتشخص عبارة عن الوجود بجميع قيوده، وبعد وجوده بجميع قيوده فلا يقبل التقيد بقيد آخر، لأن تقيده بقيد آخر خلف تشخصه وتعينه بتمام قيوده، فليس الجزئي الحقيقي إلا ما فرغ عن وجوده بتمام قيوده، وما فرغ عن وجوده بتمام قيوده فلا يعقل تقيده بقيد دخيل في تحققه ووجوده، فإنه خلف تشخصه ووجوده، هذا كله في الجزئي الحقيقي، وأما الجزئي الإضافي فهو جزئي بالنسبة لا بالحقيقة كالنسب، فإن (سرت من الكوفة إلى النجف) نسبةٌ جزئية بلحاظ طرفيها لأنها لا تصدق على (سرت من البيت إلى السوق) ولكنها بلحاظ ذاتها كلية، لأن ابتداء، السير من النجف إلى كربلاء قد يكون ماشيا وقد يكون راكبا، وقد يكون مع الذكر وقد يكون مع اللغو، فالوضع العام والموضوع له الخاص في المعاني الحرفية وإن أدى إلى الجزئية ولكنه يؤدي إلى الجزئية بنحو الجزئية الإضافية بلحاظ الطرفين، لا أنه يؤدي إلى الجزئية غير القابلة للتقييد.

غاية ما في الباب أن هناك فرقا بين المقوم والمقيد، بمعنى أننا تارةً نضيف قيدا على نحو المقوم وأخرى نضيف قيدا على نحو المحصص، مثلا: إذا قال: (سرت من النجف ماشيا إلى كربلاء) فـ(ماشيا) قيد مقوم، بمعنى أن المتكلم من البداية أوجد النسبة ذات ثلاثة أطراف من باب ضيق فم الركية، لا أنه أوجد النسبة ثم قيدها، وهذا مما لا إشكال فيه، إذ ليس من تقييد المعنى الحرفي بل وجد المعنى الحرفي من أوله متقيدا بالثلاثة، وإنما الإشكال في القيد المحصص أي أنه بعد المفروغية عن وجود النسبة وتقومها بأطرافها هل يمكن تقييدها كما لو قال: (حج إن استطعت) أم لا؟

 

الوجه الثالث: ما ورد في كلمات المحقق الإصفهاني قدس سره[3] وتبعه سيدنا الخوئي قدس سره[4] من أنه حتى لو فرض أن المعنى الحرفي جزئي حقيقي، إلا أن هناك فرقا بين التقييد وبين التعليق، فالتقييد يقابل الإطلاق، والتعليق يقابل التنجيز، والجزئي لا يقبل التقييد ولكنه يقبل التعليق.

وبيان ذلك أن الجزئي حيث لا سعة فيه فلا يقبل الإطلاق، فلا يقبل التقييد، لأن قبول التقييد فرع قبول الإطلاق. وأما التعليق المقابل للتنجيز فهو عبارة عن تعليق فعلية وجود الجزئي على قيدٍ من القيود، كما إذا قيل: (يقوم زيدٌ إن دخل العالم)، فالقيام معلق على دخول العالم، فالجزئي وإن لم يقبل التقييد ولكنه يقبل التعليق، وبالتالي فمفاد هيئة (افعل) كما في قوله: (إن استطعت فحج) وإن كان معنى حرفيا إلا أنه يقبل التعليق من حيث وجوده، فإن مقتضى مدلول الجملة الشرطية تعليق فعلية الوجوب - أي: تعليق فعلية مفاد الهيئة - على تحقق الشرط خارجا، مما يعني أن فعلية الوجوب تدور مدار فعلية الاستطاعة، وهذا مما لا مانع منه عقلا.

ولكن يلاحظ على هذا الوجه أن من الواضح في علم المعقول أن الشيء قبل الوجود كليّ، فلو تصور إنسان ما شخصية السيد الخوئي في الذهن فإن هذه الصورة من حيث ذاتها كلي، لقابليتها للصدق على كثيرين يحملون نفس السمات ، وإنما يكون المفهوم - جزئيا في فرض تحققه في الخارج، كما أن الصورة الذهنية لاتكون حاكية عن الجزئي إلا بضم الإشارة بهذه الصورة لذلك التشخص المعين المفروغ عن تشخصه في رتبة سابقة في الخارج، وإلا فهي في حد ذاتها كلي، والتشخص عبارةٌ عن الوجود بتمام القيود الدخيلة في وجوده، ولازم ذلك أن لا يقبل في طول تشخصه بتمام قيوده الدخيلة فيه أن يتضيق بقيد آخر، إذ بعد المفروغية عن وجوده فقد وجد بقيدٍ وحد خاص، ومع وجوده بحد خاص فلا يقبل التضيق بحد آخر.

فبناء على الفرق بين الكلي والجزئي فإن الشرط في الجملة الشرطية هل يرجع إلى المفهوم قبل فعليته ووجوده؟ أم يرجع إليه بعد المفروغية عن تشخصه؟ فإن كان مرجعه إلى المفهوم في رتبةٍ سابقة على وجوده وتشخصه بأن يقال: مفهوم الوجوب علقت فعليته وأصل وجوده على الشرط، فهذا من باب تقييد الكلي لا الجزئي، حيث إن الكلي لابشرط بالنسبة للقيود الدخيلة في فعليته فيمكن تقييده بماهو المؤثر - لا في حقيقته - بل في فعليته، فإن كان المقصود بهذا الوجه أن مفاد الهيئة وإن كان معنى حرفيا لكنه ليس جزئيا حقيقيا ولذلك يقبل التعليق على القيد الدخيل في وجوده، فهذا مضافا لكونه خلف المفروض وهو دعوى رجوع القيد للجزئي الحقيقي الذي فرغ عن جزئيته في رتبة سابقة أنه رجوع للوجه الثاني، ومع البناء على كونه كليا فلا حاجة للانتقال بالبحث من التقييد للتعليق، إذ المفروض أن المعنى الحرفي لكونه كليا قابلا للتقييد .

وإن كان مرجع الشرط إلى الجزئي بعد المفروغية عن جزئيته وتشخصه بتمام قيوده فرجوع الشرط إليه - بمعنى تعليق وجوده على وجود الشرط - غير معقول، إذ بعد المفروغية عن وجوده وتشخصه بحدوده الدخيلة فيه لا يعقل تعليق فعليته على قيد آخر.

الوجه الرابع: ما ذكر في تقرير كلمات المحقق العراقي قدس سره[5] من أن التقييد في المقام ليس تقييدا لذات الجزئي، وإنما هو تقييد لحاله، والحال عنوان انتزاعي كليّ وإن كان منشأ انتزاعه جزئيا، فمثلا: زيد بلحاظ مقوماته الذاتية التي بها يتم تشخصه جزئي لا يقبل التقييد، ولكن زيدا بلحاظ العوارض عليه المنتزع عنها عنوان حاله يقبل التقيد بتقييد حاله الذي هو كليّ، لأن حال زيد قد يكون قياما وقد يكون قعودا وقد يكون علما وقد يكون جهلا، فمرجع التقييد للحال، لا لذات الجزئي، ولذلك قسم الأصوليون الإطلاق إلى إطلاقٍ أفرادي وإطلاق أحوالي، فالإطلاق الأفرادي من عوارض الكلي، كما إذا قلنا: إن عنوان الرجل له إطلاق أفرادي يشمل العربي والفارسي وغيرهما، والإطلاق الأحوالي كما يعرض على الكلي يعرض على الجزئي، فإن زيدا له إطلاق أحوالي بلحاظ أعراضه وطوارئه ولواحقه وبالتالي فحاله يقبل التقييد، لذلك هناك فرق بين قولنا: (أكرم زيدا العالم ) وقولنا: (أكرم زيدا إن كان عالما)، فإن مرجع الأول إلى تقييد المعنون بعنوان زيد بالقيد الرافع للإشتراك، ومرجع الثاني إلى تقييد موضوع الإكرام بحال معين لزيد وهو فرض علمه، وبناء عليه فلا مانع من رجوع الشرط في الجملة الشرطية إلى تقييد شأن من شؤون الوجوب وحالاته بالشرط .

والإشكال فيه يتضح من الإشكال على الوجه الثالث، فإن المقصود بتقييد حال الجزئي إن كان تقييد وجوده بقيدٍ أو بشرط معين بعد المفروغية عن جزئيته فهو غير معقول لما سبق بيانه، وإن كان لحاظ وجوده مقترنا بحال معين وجعل ذلك موضوعا للحكم الشرعي كما لو قيل: (أكرم زيدا حال كونه متدينا) فهو معقول، لكن مرجع ذلك إلى التركيب الذي هو مفاد واو الجمع، لا تقييد الجزئي بحال معين بعد تشخصه، ويمكن نقل السؤال للحال - الذي قد يدعى إمكان تقييده بقيد أو شرط - فإنه إن كان مرجعه إلى تقييد كلي الحال قبل تحققه وفعليته فهو خروج عن محل البحث، وإن كان مرجعه إلى تقييد الحال بعد تشخصه بصيرورته قياما مثلا فإنه لا يقبل التقييد.

ولذلك أفاد سيدنا الخوئي قدس سره[6] عندما تناول الفرق بين القيد والشرط: أن هناك فرقا بين المقوم والعارض بغض النظر عن ما هو المستفاد من لفظ المعاملة، فإذا قال: (بعتك هذه السيارة بشرط أن تكون سيارة مرسديس) فبما أن نوع السيارة مقوم لها فالوصف قيد، والمبيع لا محالة هو الكلي المتقوم بهذا الوصف، وإن استخدم في عقد البيع اسم الإشارة للجزئي: (هذه السيارة)، وثمرة ذلك أنه لو لم توجد سيارة بهذا الوصف فلا بيع، حيث إن الملكية تعلقت بهذا المبيع المتصف بهذا المقوم، وإذا قال: (بعتك هذه السيارة الخارجية بشرط أن يكون رقمها 222 أو بشرط أن تكون ملونة باللون الأزرق) فبما أن الوصف هنا من العوارض لا المقومات فيكون من قبيل الشرط لا القيد، وبما أن المبيع هو الجزئي بما هو جزئي، فلا يقبل التقييد بوصف آخر وراء مقوماته، وبالتالي فمرجع أخذه في البيع لا إلى دوران البيع مداره ، بل مرجع أخذه إلى تعليق الالتزام بالبيع على وجود الشرط بحيث لو لم يوجد الشرط فللمشترط حق الفسخ، لا أن البيع ليس نافذا كما في فرض القيد، فهذا هو الفارق بين القيد والشرط.

فتبين من خلال ما ذكرناه أنه لا معنى لما يفرض في بعض العبائر من أنه مع كون مفاد هيئة (افعل) معنى حرفيا والمعنى الحرفي جزئي حقيقي فإنه مقيد بالشرط.

المنشأ الثاني: ما أشار إليه صاحب الكفاية قدس سره من أن نفس الإنشاء موجب للجزئية، لأن الإنشاء نحو من الوجود، والوجود مساوق للتشخص، والتشخص مساوقة للجزئية، فلا محالة مقتضى إنشاء الوجوب جزئيته، ومع جزئيته فلا يعقل تقييده بالشرط، وهذا المنشأ أعم محذورا من المنشأ الأول، لأن المحذور في المنشأ الأول متعلق بالجزئية الناشئة عن كون المعنى حرفيا، فلذلك قلنا هناك: إن الوجوب لو استفيد من المادة لا من الهيئة فلا يشمله محذور المنشأ الأول، كما لو قال: (إن استطعت فالحج واجب) فإن الوجوب هنا لم يستفد من الهيئة كي يقال: إن الهيئة معنى حرفي وهو مما لا يقبل التقييد، بل استفيد الوجوب من المادة، والمادة معنى اسمي لا حرفي، بينما المحذور في المنشأ الثاني متعلق بالجزئية المتحققة بسبب الإنشاء سواء تم إنشاء الوجوب بالمادة أم بالهيئة، لأن الإنشاء إيجاد فهو مساوق التشخص والجزئية، فلا يقبل التقييد برجوع الشرط إليه.


[1] ص191.
[2] ص209.
[3] نهاية الدراية ج2 ص60.
[4] المحاضرات ج2 ص143.
[5] بدائع الأفكار ج1 ص373.
[6] ج30 من الموسوعة كتاب الإجارة ص90.
logo