« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الأصول

46/04/24

بسم الله الرحمن الرحيم

 مبحث الأوامر

الموضوع: مبحث الأوامر

 

وتحقيق المطلب أن الجعل الصادر من المولى كقوله: (أقم الصلاة لدلوك الشمس) له عدة لحاظات قد تجتمع في آن واحد ، وبإزاء كل لحاظ داع من الدواعي ، أي أن الجعل وإن كان صادرا عن إرادة الا أن الإرادة فعل له دواعي متنوعة تختلف باختلاف اللحاظ .

اللحاظ الأول: صدور الخطاب على نحو القضية الحقيقية، لا على نحو القضية الخارجية، ومن الواضح أن الداعي لصدوره على نحو القضية الحقيقية جري المولى على وفق الطريقة العقلائية، باعتبار أن نهج العقلاء جار على ذلك لا على إصدار خطابات عديدة بعدد المكلفين وفي كل وقت، وإنما يصدرون خطابا على نحو القضية الحقيقية ليكون المجعول فعليا عند فعلية الموضوع بلا حاجة إلى تجديد الخطاب في كل ظرف.

وحينئذ لو قصر النظر على هذا اللحاظ ، فإن صدور الجعل عن إرادة لا يعني أن الإرادة مقدمية، لأن المنظور في هذا اللحاظ هو جري المولى على وفق الطريقة العقلائية من جعل الخطاب على نهج القضية الحقيقية.

اللحاظ الثاني: أن الخطاب صادر على نحو المجعول المشروط لا المطلق، حيث إن المولى لم يقل: (أقم الصلاة) وإنما قال: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) فإن صدوره على نحو القضية الحقيقية - كما في النحو الأول - لا يستلزم صدوره على نحو المجعول المشروط، بل يمكن أن يكون على نحو القضية الحقيقية ومع ذلك يكون المجعول مطلقا، مما يعني أن صدوره على نحو المجعول المشروط له داع آخر غير الجري على وفق الطريقة العقلائية، والداعي المتصور لصدوره على نحو المجعول المشروط محاكاة الملاك، فبما أن الملاك في حد ذاته مشروط - حيث لا تتصف الصلاة بكونها ذات ملاك إلا في الوقت - أصدر المولى المجعول مشروطا، فلو قصر النظر على هذا اللحاظ لقلنا : إن علم المولى بأن الملاك مشروط اقتضى أن يصدر الخطاب بنحو المجعول المشروط ولا موجب لكون إرادة الجعل مقدمية .

اللحاظ الثالث: في عنوان الخطاب، وبيان ذلك أنه قد ذكر صاحب الكفاية قدس سره أن الخطاب الإنشائي يتعنون بوصف الداعي له، فإذا كان الداعي للأمر مثلا التعجيز أو رفع توهم الحظر أوالامتحان تعنون نفس الأمر بكونه تعجيزا أوإباحة أو امتحانا، وإذا كان بداعي البعث بالإمكان تعنون بكونه بعثا بالإمكان، والسر في ذلك أن الجعل فعل والفعل له عدة دواعٍ عقلائية، ومن الدواعي العقلائية المتصورة في صدور الجعل ثلاثة:

الداعي الأول: أن يكون صدور الجعل من المولى بداعي الإخبار مع أنه إنشاء، ولكنه إنشاءٌ بداعي البيان أي: بداعي بيان أن مقتضى حكمته أن تكون خطاباته على وفق ملاكاته.

الداعي الثاني: أن يكون صدور الخطاب من المولى بداعي الامتحان والاختبار للعبد، فيتصف الخطاب بكونه امتحانا واختبارا لأن الداعي له هو ذلك.

والجعل في هذين الفرضين وإن كان عن إرادة لكن لا موجب لكونه صادرا عن إرادة مقدمية، لكونه بداعي البيان أو الامتحان.

الداعي الثالث: أن يكون صدور الخطاب بداعي البعث على نحو الإمكان لأن البعث بالفعل مساوق للانبعاث بالفعل، وذلك لا يتصور إلا في فرض الانقياد خارجا، بينما البعث بالإمكان يعني أن المحرك لصدور الجعل من المولى هو أن يكون هذا الخطاب باعثا للمكلف نحو العمل على فرض الوصول الموجب لعنونة الخطاب بكونه بعثا بالإمكان، ومقتضى هذا اللحاظ كون الخطاب صادرا عن إرادة مقدمية، إذ لامعنى للحاظ البعث نحو العمل بالخطاب إلا كون الخطاب إحدى مقدمات العمل .

اللحاظ الرابع: اتصاف الخطاب بكونه محصلا للغرض .

وبيان ذلك بذكر أمرين:

الأمر الأول: أن هناك فرقا بين الباعثية العقلية والباعثية المولوية، فالباعثية العقلية عبارة عن حكم العقل بأن من حق المولى على العبد أن ينبعث نحو المأموربه، وهذا إنما يكون في حال كون الموضوع فعليا ووصول الخطاب للعبد، فإنه إذا وصل الخطاب للعبد وكان الموضوع فعليا حكم العقل بضرورة الانبعاث، فهذه الباعثية العقلية .

وأما الباعثية المولوية فهي عبارة عن اتصاف الخطاب الصادر من المولى عرفا بكونه بعثا، وهذا لا يتوقف على حصول الموضوع، فإن المولى متى ما صدر منه (أقم الصلاة لدلوك الشمس) عن إرادة جدية اتصف الخطاب بكونه بعثا، حيث إن المنصرف العقلائي منه أنه بداعي البعث، لا بداع آخر .

الأمر الثاني: بما أن صدور الخطاب بداعي البعث يعني أن الخطاب مقدمة للانبعاث في ظرفه فهو مساوق لصدوره عن إرادة مقدمية، إذ لا معنى في الخطابات الصادرة بداعي البعث، التي هي محل البحث كالخطابات المولوية الشرعية والعرفية لدعوى كفاية العلم بحدود الملاك في صدورها، فإن ذلك خلف كونها في مقام البعث نحو العمل المساوق لكون الخطاب مقدمة له، وبما أنه صادر عن إرادة مقدمية فيتصور في الإرادة المقدمية أحد غرضين:

الأول: أن يكون الغرض الفعلي للمولى كون خطابه معنونا بكونه بعثا بالإمكان، فإن المولى ملتفت إلى أن العبد في ظرف حصول الشرط لن ينبعث إلا بمقدمات منها القدرة ومنها وجود الخطاب، إذ لولا وجود خطاب من قبل المولى لم ينبعث العبد، فالخطاب لا محالة من مقدمات الانبعاث، وهذا الذي اقتضى أن يكون غرضه الفعلي المراد تحقيقه أن يكون هذا الخطاب بعثا، مما يعني أن صدور الخطاب بداعي أن يكون مقدمة للإنبعاث في ظرفه فقط من دون لحاظ غرض آخر في العمل نفسه كاشف عن إرادة نفسية فعلية متعلقها اتصاف خطاب المولى بكونه بعثا .

الثاني: أن يكون الغرض الفعلي للمولى كون خطابه مقدمة للعمل المقتضي للملاك في فرض معين، مما يعني أن الخطاب صادر عن إرادة مقدمية نحو تحصيل اقتضاء الغرض - الملاك - في ظرف معين، وهذا هو مورد الملازمة العقلائية بين صدور الخطاب عن إرادة مقدمية نحو تحصيل اقتضاء الغرض في ظرف معين وبين إرادة نفسية فعلية متعلقة بذلك الغرض، وبيان ذلك: أن التكاليف العقلائية الجارية على وفق الحكمة هي ما كانت متعلقة بالعمل بما هو ذو اقتضاء للغرض - الملاك -أي: أنها تصدر بهذا الداعي، لا لأجل كون الخطاب التكليفي معنونا بكونه باعثا فقط كما في الغرض السابق، سواء كان اقتضاء العمل للملاك لا بشرط أو في ظرف معين، فإذا كان المنصرف من الخطاب لدى المرتكز العقلائي صدوره بداعي البعث نحو الغرض، فصدور الخطاب عن إرادة مقدمية لتحصيل اقتضاء الغرض- الملاك - ولو في ظرف معين كاشف عن إرادة نفسية فعلية منصبة على ذلك الغرض، إذ لا يحتمل ارتكازا أن يكون للمولى إرادة مقدمية لتحصيل ما يقتضي - الملاك - ولو في فرض معين، ولا يكون ذلك تحصيل ذلك الملاك هو غرضه بالفعل وأنه محل شوقه وتصميمه .

وتوضيح ذلك: أن الغرض في المقام نحوان الغرض الأقصى، والغرض الأدنى.

مثلا إذا قال: (أقم الصلاة لدلوك الشمس) وقال: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) فإنه يعرف أن الغرض الأقصى للمولى يعني أن ما صمم عليه المولى بالفعل هو انتهاء العبد عن الفحشاء والمنكر، وحيث علم المولى أن هذا الغرض المراد بالفعل له مقتضيات ومعدات، ومن مقتضياته الصلاة في الوقت، حيث إن الصلاة في الوقت من المقتضيات لكون العبد قابلا للانتهاء عن الفحشاء والمنكر، فينبثق عن قراره بتحصيل الغرض قراره بتحصيل المقتضي له وهو الصلاة ، وهي إرادة فعلية في كل مولى حكيم، تعني أن غرضه الفعلي هو تحصيل غرضه اللزومي - أي الملاك - ومعنى أن غرضه الفعلي هو تحصيل غرضه أي أن قراره وتصميمه الفعلي على تحصيل - انتهاء العبد عن الفحشاء والمنكر - وقد انبثق عن قراره ذلك قراره الفعلي بتحصيل ماهو المقتضي لغرضه - الملاك - ولو في ظرف معين - بنفس النكتة المذكورة في لزوم المقدمة المفوتة ، فمثلا الإنسان الذي يريد السفر لبلاد معينة وهو يحتمل احتمالا عقلائيا أنه يبتلي خلال سفره بالمرض فإن عقله يفرض عليه إعداد الدواء بالفعل، مع أنه لا ملاك في شرب الدواء بالفعل وإنما يكون شرب الدواء ذا ملاك على فرض حصول المرض، وحصول المرض ليس مضمونا وإنما هو محتمل، لكن حيث إن للإنسان إرادة فعلية متعلقة بالتحفظ على الصحة، أو فقل: حيث إن غرضه الفعلي في حفظ غرضه - وهو الصحة - اقتضى ذلك أن تنبثق عن إرادته الفعلية الأولى إرادته بتحصيل الدواء أي تصميمه على ذلك، مع أن تحقق الحاجة له محتمل لا مضمون لكن مقتضى الحكمة هو ذلك، فكذلك الأمر في التكاليف المولوية الشرعية والعقلائية، فإنه حيث يكون لدى المولى غرض فعلي وهو انتهاء العبد عن الفحشاء والمنكر، ويرى أن من مقتضياته الصلاة، فإن تعلق غرضه الفعلي بحفظ العبد عن الفحشاء والمنكر مما ينبثق منه غرض له بالفعل بتحصيل مقتضياته، ولو كان اقتضاؤها محتملا على تقدير معين، ويكون لهذه الإرادة الفعلية أثران:

الأول: إعداد المقدمات المفوتة قبل حصول الشرط.

الثاني: حكم العقلاء باتصاف هذه الإرادة الكلية بكونها فعلية في حق من صار الشرط في حقه فعليا وأثر ذلك حكم العقل بلزوم الإمتثال .

فدعوى أن الجعل لا يتوقف على صدوره عن إرادة مقدمية نحو تحصيل الغرض لتكون كاشفة عن إرادة نفسية نحو الغرض مدفوعةٌ بأن المرتكز العقلائي على هذه الملازمة في الجعل الصادر بداعي البعث نحو العمل المقتضي للغرض - الملاك - ، لما سبق من أن الجعل له لحاظات ذات دواعي متنوعة تجتمع في آن واحد، فالجعل بلحاظ كونه قضية حقيقية بداعٍ، والجعل بلحاظ كونه مجعولا مشروطا بداعٍ آخر، والجعل بلحاظ كونه بعثا بالإمكان بداعٍ ثالث، والجعل بلحاظ كونه محصلا للغرض بداعي رابع، فإذا سئل المولى ماهو المبرر لصدور خطابك بنحو القضية الحقيقية؟ أجاب لأن المنهج العقلائي كذلك، وإن سئل لماذا كان المجعول مشروطا؟ أجاب بأن علمي بكون الملاك مشروطا اقتضى صوغ الخطاب بنحو المجعول المشروط، وإن سئل ما هو المبرر لصدور الخطاب نحو الملاك المشروط؟ مع أنه لايتحقق اتصاف الفعل به إلا في فرض الشرط لأجاب بأن المبرر هو البعث نحوه بلحاط أن الخطاب مقدمة لحصول الانبعاث في ظرفه، وإن سئل ماهو المبرر للبعث نحو تحصيل مايقتضي الملاك على فرض معين؟ لأجاب بأن لدي غرض لزوميا بالفعل لذا صممت على صونه وحفظه بطلب تحصيل مايقتضيه في ذلك الظرف المحتمل.

والمتحصل أن المختار كاشفية صدور الجعل بإرادة مقدمية عن ثبوت إرادة فعلية قبل حصول الشرط وفاقا للشيخ الأعظم والسيد الصدر قدس سرهما، إلا أن الإرادة الفعلية التي تكشف عنها الإرادة المقدمية لدى الشيخ الأعظم قدس سره هي إرادة الجزاء المشروط وإن لم يحصل الشرط، ولدى السيد الصدر قدس سره هي الإرادة المتعلقة بالجامع، والمختار هي الإرادة المتعلقة بالغرض الأقصى، لذلك فما ذكر ليس دفاعا عن ما أفاده السيد الصدر قدس سره من تعلق الإرادة بالجامع بل هو دفاع عن أصل وجود الإرادة النفسية المتعلقة بالغرض.

logo