« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الأصول

46/04/22

بسم الله الرحمن الرحيم

 مبحث الأوامر

الموضوع: مبحث الأوامر

 

المطلب الثالث:

وفيه جهات ثلاث: في تصوير الإرادة المشروطة، وفي تصوير الإرادة الفعلية قبل فعلية الشرط، وفي تحديد العلاقة بين الإرادتين.

الجهة الأولى: تصوير الإرادة المشروطة.

وبيانه : هل يعقل أن تكون الإرادةٌ مشروطة بمعنى أن تكون للمولى إرادةٌ تقديرية على فرض وجود الشرط؟ فإذا قال المولى: ( أريد الحج من المكلف إن استطاع) فهل للمولى إرادة فعلية لكن فعليتها بنحو التقدير؟ وهذا ما يظهر من أجود التقريرات للمحقق النائيني قدس سره [1] حيث قال: (وأما إذا كان مقيدا بقيد غير إختياري فلاشبهة في تعلق الإرادة التكوينية به أيضا لكن لابوصف الفعلية والتحريك ، بل بوصف التقديرية والإناطة نظير القضايا الحقيقية ، والوجدان أقوى شاهد على أن إرادة الشرب- على تقدير العطش - موجودة لكل ملتفت إلى مصلحة الشرب ولو في حال عدم العطش ، لكن تلك الإرادة التقديرية إنما تكون فعلية محركة إلى شرب الماء عند فعلية العطش.

ولكن فيه - كما ذكر سيدنا الخوئي قدس سره في تعليقته على أجود التقريرات - أنه لا تعقل الإرادة المشروطة، بأي معنى فسرت الإرادة ، فإنه لا يعقل أن يكون للإرادة وجود تقديري ، والسر في ذلك أن هناك فرقا بين الوجود الاعتباري والوجود الحقيقي، حيث يعقل في الوجود الاعتباري أن يكون الشيء موجودا في عالم الاعتبار وجودا تقديريا ، وهذا ما بني عليه عند جمع في الاستصحاب التعليقي، مثلا: إذا وجد العنب ثم تغير إلى الزبيب ثم غلا وشك في أنه يحرم بالفعل أم لا؟ فيقال: إن حرمة العصير العنبي موضوعها مؤلف من جزءين: الأول: وجود العنب في الخارج، والثاني: غليانه، وبما أن الحرمة قد وجدت بوجود الجزء الأول - وهو العنب - إلا أنها وجدت بوجوده وجوداً تعليقيا، أي على نحو التعليق على فعلية الشرط الآخر وهو الغليان، صح أن يستصحب بقاؤها لما بعد الغليان ، لأنه يعقل في الأمر الإعتباري كالحرمة أن يوجد وجودا تعليقيا بوجود أحد جزأي موضوعه. وأما الوجود الحقيقي الواقعي فلا يعقل أن يكون وجودا تعليقيا، وبما أن الإرادة وجودٌ تكويني حقيقيّ فأمرها دائر بين الفعلية والعدم، ولا يعقل أن تكون لها فعلية بنحو التقدير والتعليق، فهي إما موجودة أو غير موجودة، فما أفيد في تقرير مطلب المحقق النائيني قده غير معقول .

الجهة الثانية: في تصوير الإرادة الفعلية قبل فعلية الشرط.

قد تقرر في ما سبق أن للمولى إرادتين: إرادة فعلية قبل فعلية الشرط، وإرادة لا تكون فعلية إلا بفعلية الشرط، فإذا قال المولى: (يجب الحج على المكلف إن استطاع) فهذا المجعول يحكي إرادتين: إرادة فعلية قبل فعلية الاستطاعة، وإرادة فعلية عند فعلية الاستطاعة، والكلام في تصوير الإرادة الأولى .

وهنا نحوان من التصوير:

النحو الأول: مافي تقرير السيد الصدر قدس سره [2] من أن الإرادة الأولى إرادة متعلقة بالجامع بين عدم الشرط وفعلية الجزاء عند فعلية الشرط، وبيان ذلك أن الإنسان بحسب إرادته التكوينية إذا احتمل أنه سيعطش وأنه سيحتاج إلى الماء عند عطشه ، فهل عنده بالفعل إرادة لشرب الماء على تقدير عطشه؟ كلا، بل عنده إرادتان: إرادة تكون فعلية إذا عطش بالفعل وهي إرادة شرب الماء، وإرادة فعلية قبل العطش وهي إرادة الجامع، ومعنى إرادة الجامع أن الإنسان مريد بالفعل لطبيعي الارتواء، وطبيعي الارتواء جامعٌ بين عدم الشرط وفعلية الجزاء إن صار الشرط فعليا، فإن من يريد الارتواء يريد عدم العطش، فالفرد الأول من الجامع هو عدم الشرط - أي: عدم العطش - ولذلك يتصدى لسد أبواب العطش لأنه يريد الارتواء، فلو علم أنه إن صعد إلى الطابق السابع عطش لم يصعد لأنه يريد الارتواء بالفعل ومن أراد الارتواء بالفعل أراد سد أبواب العطش، والفرد الثاني أنه على فرض تحقق الشرط وعطش الإنسان اتفاقا فإنه يريد شرب الماء، والمتحصل أن الإنسان قبل العطش له إرادة فعلية نحو الجامع وهو طبيعي الارتواء الذي له فردان: فرد هو إعدام الشرط، وفرد وهو أنه على فرض فعلية العطش فهو مريد لشرب الماء.

النحو الثاني: ماهو المختار من أن الإرادة الفعلية قبل فعلية الشرط ليست إرادة متعلقة بالجامع، وإنما هي الإرادة لأمرٍ تتولد منه إرادة عند فعلية الشرط على نحو تولد المعلول من العلة، لا على نحو أحد فردي الجامع.

وبيان ذلك: أنه قد يريد الشخص قضية شرطية وليست من قبيل الجامع في شيء، بل قد يريد الجزاء ويريد شرطه، كما لو قال المولى: (إذا زرت الحسين عليه السلام في الحائر فقبل الضريح ) أو (إذا زرت أمي فقبل يدها نيابة عني) ففي مثل هذه الفروض لا يريد المولى إعدام الشرط وهو عدم زيارة المخاطب للحسين عليه السلام بل هو محبوب له ، بلحاظ أن جعل أمر شرطا لا يعني أنه يراد وجوده ولا إعدامه ، وكذلك الأمر في المثال الثاني فإن الآمر لايريد عدم زيارة أمه وإنما مراده هو تقبيل يدها على فرض زيارتها ، والحاصل : أن المراد بالفعل ليس جامعا بين إعدام الشرط وفعلية الجزاء عند فعلية الشرط، بل ما هو المراد بالفعل استمداد بركة الحسين عليه السلام، وقد تولدت من هذه الإرادة الفعلية إرادة تقبيل الضريح عند زيارته، أو أنه يريد بالفعل تعظيم أمه، وتولدت من إرادة التعظيم أنه يريد تقبيل يدها عند زيارة أحدٍ لها، لا أن الإرادة الفعلية تعلقت بالجامع.

وتحقيق المطلب في كلام السيد الصدر قدس سره بحسب ما ذكر في تقريره، يتم بذكر أمرين:

الأمر الأول: في تحليل الإرادتين، حيث إن في المقام إرادتين: إرادة قبل الشرط وإرادة بعد الشرط، فأما الإرادة الثانية فلا تكون فعلية إلا عند العلم بفعلية الشرط، حتى لو علم بأن الشرط سيتحقق في المستقبل، فإن العلم بحصول الشرط لا يقتضي تحقق الإرادة الفعلية، لأن مناط الإرادة العلم بفعلية الحاجة، فما لم يعلم بفعلية الحاجة فليس هناك إرادة للغرض الذي يغطي الحاجة.

مثلا: لو أن إنسانا علم أنه بعد خمس دقائق سيعطش قطعا، فهذا لا يقتضي أن له إرادة فعلية نحو شرب الماء، لأن الإرادة الفعلية منوطة بالعلم بفعلية الحاجة، لا بالعلم بالحاجة ولو على نحو القضية المستقبلية، وبما أن المناط في الإرادة هو العلم بفعلية الحاجة فلا إرادة فعلية لشرب الماء قبل حصول العطش ولا إرادة فعلية للحج قبل حصول الاستطاعة.

وأما الإرادة الأخرى فهي الإرادة نحو الجامع، وتصوير ذلك في الإرادة التكوينية - وبه يتضح المطلب في الإرادة التشريعية - مثلا: عند تحليل نفسية الإنسان الذي يريد شرب الماء على تقدير العطش، يرى أن لديه أمرا غريزيا وهو حب الذات، ومقتضى حب الذات حب البقاء، ومن هذا الأمر الغريزي - وهو حب البقاء - تتولد لديه إرادةٌ نحو حفظ البقاء، وهو ما نعبر عنه بالغرض، ومن إرادة حفظ البقاء، تتولد إرادة مقتضيات البقاء، ومنها إرادة الارتواء، لأنه من أسباب البقاء، ولكن لا يريد الارتواء إرادةً نفسية، بل يريده إرادة مقدمية، فهو يريد الارتواء بما هو طريق لحفظ البقاء، مما يعني أن إرادة الارتواء إرادةٌ للجامع، إذ لاموضوعية للإرتواء بل ماهو المراد حفظ البقاء ، فالإرتواء عنوان مشير لما يحقق الغرض وهو حفظ البقاء ، فلو سئل عن ما يريده لقال: أريد البقاء حيا، ومن أسباب بقائه حيا أن لا يحصل العطش، ولكن إذا حصل تصدى لشرب الماء، فهو يريد الجامع بينهما على نحو البدل، إما إعدام الشرط أو فعلية الجزاء عند فعلية الشرط، فإن ما يحفظ غرضه - وهو البقاء - هو الجامع بين الأمرين.


[1] ج1 ص204.
[2] بحوث في علم الأصول ج2 ص191 وكذلك ص209.
logo