« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الأصول

46/04/09

بسم الله الرحمن الرحيم

 مبحث الأوامر

الموضوع: مبحث الأوامر

 

المقام الثاني: في إمكان الشرط المتأخر للمأمور به.

 

مثلا: هل يعقل أن يشترط في صحة صوم المستحاضة الغسل في الليلة التالية؟ بناء على أن الغسل شرط في صحة الصوم المأموربه لاشرط في ارتفاع حدث الإستحاضة وتحقق الطهارة حال الصوم كما احتمله المحقق النائيني قدس سره[1] وتبعه سيد المنتقى قدس سره[2] وإلا كان الغسل شرطا في الحكم الوضعي وهو الطهارة لا شرطا للمأموربه، وهل يعقل أن يشترط في صحة الغسل للإحرام أو الزيارة وقوع الإحرام أو الزيارة بعده بحيث لو لم يقعا بعده لانكشف بطلان الغسل؟

والبحث في جهتين:

الجهة الأولى: في إمكان اشتراط المأمور به بالشرط المتأخر.

الجهة الثانية: في إمكان تأثير الشرط المتأخر في ملاك المأموربه .

الجهة الأولى: والصحيح هنا هو إمكان الشرط المتأخر للمأمور به كما قلنا بإمكانه للحكم، وبيان ذلك بأحد وجوه ثلاثة:

الوجه الأول: ما هو المختار من أن مرجع الشرط في المقام إلى اشتراط أمر اعتباري لا أمرٍ تكويني، واشتراط الأمر الاعتباري بوجود متأخر مما لا محذور فيه عقلا بلحاظ أن الأمور الاعتبارية خارجة موضوعا عن التأثير والتأثر، فلا مانع من اشتراطها بالوجود المتأخر، وتطبيق ذلك على المقام أن المشرع عندما يأمر بغسل زيارة الحسين عليه السلام بحيث يفهم العرف من الدليل أن الغسل المأمور به هو الذي يكون الغرض المصحح له وقوع الزيارة بعده، فإن المرتكز العقلائي يرى أن وقوع الغسل في ظرفه امتثالا لأمره منوط بوقوع الزيارة بعده وإلا فالغسل باطل، وهذا معنى أخذ وجود الزيارة خارجا شرطا في المجعول، حيث إن المأمور به خصوص هذه الحصة، فلا مانع من دخل الشرط - وهو الزيارة - بوجوده المتأخر في انطباق المجعول على الغسل الصادر، فإن الأمور الاعتبارية مما لا يعقل فيها التأثر والتأثير، فلا يلزم من اشتراطها بشرط متأخر تأثير المعدوم في الموجود، نعم وقوع الشرط في ظرفه المتأخر وهو الزيارة مثلا موجب لاتصاف الغسل بالتقيد به حينها إلا أن ذلك لا دخل له في ماهو المأمور به كما يأتي بيانه .

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره[3] من أن الشرط هو المتعلق للأمر بالمقيد ، وإذا كان الشرط متعلقا للأمر بالمقيد فلا بد من وقوعه، وإلا لما تحقق امتثال المأمور به، وبيان ذلك: أن المشرع إذا قيد غُسل الزيارة بالزيارة بحيث لو لم تقع الزيارة في ظرفها لما صح الغسل قبلها، فهنا أمران: قيدٌ وتقيد، أما القيد فهو وقوع الزيارة، وأما التقيد فهو اتصاف الغسل بوقوع الزيارة بعده، وحينئذ فمتعلق الأمر بالغسل هل ينبسط على التقيد أم القيد؟ أي هل أن الشارع أمر بالغسل مع التقيد بوقوع الزيارة أم أمر بالغسل والزيارة فمصب الأمر عنده نفس القيد لا التقيد؟

وقد أفاد المحقق النائيني قدس سره في المقام أن مصب الأمر هو القيد لا التقيد، وتقريب كلامه بأحد بيانين:

البيان الأول: ما أفاده[4] من أن التقيد عنوان انتزاعي، فالعقل إذا قارن بين الغسل والزيارة انتزع عنوانا وصف به الغسل وهو تقيد الغسل بالزيارة، فبما أن التقيد أمر انتزاعي والأمور الانتزاعية مما لا تحقق لها خارجا لأنها ليست فعلا من أفعال المكلف فيستحيل تعلق الأمر والنهي بها بأنفسها، لأن متعلق الأمر والنهي بالأصالة ما كان باختيار المكلف، وما هو باختيار المكلف فعله، وأما الأمور الانتزاعية فليست فعلا اختياريا للمكلف كي تكون مصبا للأمر والنهي بالذات، فالمتعين تعلق الأمر بمنشأ انتزاعها وهو القيد الاختياري، فكما يتعلق الأمر بالمركب بكل واحد من أجزاءه فكذلك يتعلق الأمر بالمقيد بالقيد، ويتفرع عليه أن امتثال الأمر المقيد بقيد متأخر إنما يكون بإتيان الشرط المتأخر في ظرفه بحيث لا يتحقق الامتثال للأمر بالمقيد إلا عند الإتيان بالقيد .

البيان الثاني: أن التقيد معنى حرفي، والمعنى الحرفي متقوم باللحاظ الآلي أي: لحاظه فانيا في غيره وآلةً لملاحظة غيره، ونتيجة ذلك أنه لا يعقل تعلق الأمر به، لأن تعلق الأمر به فرع لحاظه مستقلا، وحيث لا يعقل لحاظه مستقلا لم يتعلق الأمر به، وإذا لم يتعلق الأمر به فمصب الأمر لا محالة هو القيد لا التقيد.

والنتيجة هي: بما أن مصب الأمر هو القيد حيث إن المشرع أمر بغسل وزيارة، فلا بد أن تقع الزيارة لأنها بنفسها مأمور بها، وما لم تقع لم يكن الغسل امتثالا لأمره .

ولكن هذا الوجه محل تأمل:

أولا: أن البيان الأول مندفع بأن المعتبر في صحة التكليف أن يكون متعلق التكليف مقدورا سواء أكان مقدورا بالمباشرة أم مقدورا بالواسطة، ولا يشترط في متعلق التكليف أن يكون فعلا للمكلف إذ لا يشترط فيه أن يكون مقدورا بالمباشرة، فيكفي في صحة تعلق الأمر به القدرة بالواسطة، والمفروض أن التقيد وإن كان عنوانا انتزاعيا لكنه مقدور بالواسطة، أي أنه مقدور بواسطة منشأ انتزاعه، لأن منشأ انتزاعه فعل للمكلف، وهذا كافٍ في صحة تعلق الأمر به.

وقد أجاب عن البيان المذكور سيدنا الخوئي قدس سره في حاشية الأجود[5] بأن لزوم كون الأمر المتعلق بالأمر الإنتزاعي متعلقا بمنشأ انتزاعه صحيح الا أنه أجنبي عن المقام فإن التقيد المأخوذ في المأموربه ليس منتزعا من القيد، ولذلك لا يلزم أن يكون القيد المعتبر في صحة المأمور به فعلا اختياريا، إذ المعتبر في صحة الأمر بالمقيد كون المقيد بما هو مقيد تحت قدرة المكلف واختياره سواء كان القيد اختياريا أم لم يكن.

وظاهره التسليم بأن الأمر إذا تعلق بالأمر الانتزاعي فمرجعه لمنشأ انتزاعه ، فلابد من كون منشأ انتزاعه اختياريا إلا أن منشأ انتزاع التقيد ليس هو القيد كي ينصب الأمر على القيد ويلزم أن يكون فعلا اختياريا، وإنما منشأ انتزاع التقيد هو المقيد ولذلك لابد.من كون المقيد أمرا اختياريا ، ولا موجب لرجوع الأمر للقيد.

وأما المناقشة في البيان الثاني - وهو دعوى أن التقيد معنى حرفي فلا يمكن لحاظه استقلالا كي يعقل تعلق الأمر به - فإنها إنما تتم على القول بأن المعنى الحرفي من سنخ الوجود وليس من المفاهيم التي لها تقرر في نفسها مع غض النظر عن اللحاظ، وإذا كانت من سنخ الوجود فوجودها في الذهن عين اللحاظ الذي هو في فرض كونه لحاظا غير ملتفت إليه، ولكن بناء على أن المعنى الحرفي عبارة عن تحصيص المفاهيم الإسمية وتضييقها فلا مانع من تعلق اللحاظ به كسائر القيود الموجبة للتحصيص والتضييق ، إذ لا ملازمة بين كون المعنى الحرفي في وجوده بنحو لا يوجد إلا في غيره لأنه تحصيص وتضييق لغيره من المعاني الإسمية، فلا يعقل وجوده مستقلا، وبين امتناع لحاظه مستقلا، فإن هناك فرقًا بين عالم اللحاظ وعالم الوجود، فالمعنى الحرفي سنخ معنى لا يوجد إلا في غيره كسائر القيود ، وأما بحسب اللحاظ فيمكن أن يلحظ مستقلا - كما أفاده سيدنا الخوئي قدس سره في حاشيته على أجود التقريرات[6] - فلذلك لو سئل المولى أين تستحب الصلاة الواجبة ومتى فقال : يستحب إيقاع الصلاة الواجبة في المسجد وفي أول الوقت ، فإن ما هو محط السؤال والجواب ليس ذات الصلاة ولا المسجد وإنما العلقة الرابطة بينهما الموجبة لتضييق كل منهما ، وهي الظرفية المكانية والزمانية أي: أن مصب الاستحباب نفس الظرفية الذي هو معنى حرفي، وكذلك لوقال: يكره إيقاع الصلاة في الحمام، فإن متعلق الكراهة نفس معنى (في) مع أنه معنى حرفي.

والحاصل أن المعنى الحرفي وإن كان لا يوجد إلا في غيره، إلا أنه يمكن لحاظه مستقلا فيمكن تعلق الأمر به، فالتقيد متعلق للأمر، بل على القول بأن المعنى الحرفي أمر إيجادي كما هو مبنى المحقق النائيني قدس سره فلا يقبل اللحاظ الإستقلالي لكنه يقبل تعلق الغرض به على ما هو عليه من الفنائية والتعلق بغيره الذي يقتضي لحاظه كذلك كما أشار اليه سيد المنتقى[7]

ثانيا: على مبنى المحقق النائيني قدس سره يكون المقام من المركب لا من المقيد، وهو خارج عن محل البحث، فإنه إذا كان الأمر بالغسل متعلقا بأمرين - الغسل والزيارة - ولم يؤمر بالتقيد صار المورد من أمثلة المركب لا من أمثلة المقيد، ومحل البحث فعلا في المشروط بالشرط المتأخر، أي: في المقيد لا المركب، فإن الفارق بين الشروط والأجزاء - كما سبق بيانه - هو أن الجزء بنفسه متعلق للأمر بخلاف الشرط الذي يتعلق الأمر بالتقيد به، وهذا هو الفرق بين الركوع وستر العورة، فالركوع مأمور به وأما ستر العورة فليس مأمورا به، بل المأمور به تقيد الصلاة بستر العورة، فإذا فرض أن الأمر تعلق بالزيارة كما تعلق بالغسل لم يبق فرق بين الجزء والشرط وصار المأمور به مركبا، وإذا صار مركبا فلا يتحقق الامتثال إلا بعد حصول الغسل كما ذكر في الأجود ، فلا يكون من باب الشرط المتأخر في شيء، بينما محل البحث والكلام أن المكلف إذا اغتسل ثم زار انكشف بالزيارة أن الغسل وقع امتثالا من حينه لا من حين الزيارة، فلا يصلح ماذكر بيانا لإمكان الشرط المتأخر للمأمور به .

الوجه الثالث: ما ذكره سيدنا الخوئي قدس سره الشريف[8] بقوله: (لا شأن للشرط إلا كونه قيدا للمأمور به الموجب لتعنونه بعنوان خاص وتحصصه بحصة مخصوصة، فالمأمور به تلك الحصة من الكلي من دون دخل لذلك القيد في الملاك القائم بها أصلا، ومن الطبيعي أنه لا فرق بين كون القيد متقدما أو مقارنا أو متأخرا ، فإن شأن القيد المقارن أنه موجب لتحصص المأموربه بحصة خاصة بحيث لايمكن الإتيان بتلك الحصة الا مع القيد ومع انتفائه تنتفي، فكذلك تقييدها بالقيد المتأخر فإنه موجب لتحصصها بحيث لو لم يحصل ذلك الأمر المتأخر في ظرفه كشف عن عدم تحقق الحصة).

وظاهر كلامه أن المأمور به هو الحصة، والحصة عبارة عن الغسل المتقيد بالزيارة، فإن وقعت الزيارة كشفت أن الغسل المأمور به قد تحقق من حين وقوعه لتحقق التقيد وإلا فلا.

والسؤال: أن التقيد الذي أفاده سيدنا الخوئي قدس سره هل هو أمر اعتباري؟ وهو عبارة عن كون المأمور به ابتداء هو الغسل مع كون الغرض المصحح للأمر به وقوع الزيارة بعده ، من دون دخل للعنونة ولا التقيد الذي يكتسبه المأموربه عند تحقق القيد في متعلق الأمر ، فإن كان هذا هو المقصود رجع للوجه الأول ، وإن قلنا بأن العنونة والتقيد الذي هو أمر انتزاعي كما يظهر من سياق كلامه قدس سره هو الدخيل في المأمور به ، وأنه هو الموجب لتحصصه فيأتي الإشكال الذي سبق في توجيه الشرط المتأخر للحكم، وهو أنه لا يعقل وجود الأمر الانتزاعي قبل وجود منشأ انتزاعه أو مصحح انتزاعه ، فالتقيد أمر انتزاعي سواء كان منشأ انتزاعه وجود القيد، أوكان منشأ انتزاعه هو المقيد ولكن القيد مصحح لانتزاعه فإنه لا يعقل تحققه قبل تحقق القيد، فإن نسبة منشأ الانتزاع أو مصحح الانتزاع للأمر الانتزاعي نسبة العلة للمعلول، ولا يعقل تحقق المعلول قبل العلة، فلا يكون ما ذكر جوابا عن إشكال الشرط المتأخر لأنه لا تقيد للغسل بالزيارة إلا بعد وقوع الزيارة لا قبله، وهذا خلف محل الكلام، فإن محل الكلام أن الغسل إذا وقع وقع امتثالا من حينه، والزيارة كاشفة عن وقوع الغسل امتثالا لأمره من حينه.


[1] أجود التقريرات ج1 ص322.
[2] ج2ص132.
[3] أجود التقريرات ج1ص323.
[4] في أجود التقريرات ج1ص323.
[5] ج1ص324.
[6] ج1 ص28.
[7] ج1ص101.
[8] المحاضرات ج44 من الموسوعة ص129.
logo