« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الأصول

46/03/21

بسم الله الرحمن الرحيم

 مبحث الأوامر

الموضوع: مبحث الأوامر

 

وقع البحث في حقيقة فعلية الحكم - كوجوب الحج عند وجود الاستطاعة - هل هو من الأمور الانتزاعية أم من الأمور الاعتبارية؟

ولتحقيق المطلب نتعرض لعدة أمور ذكرها أهل المعقول:

 

الأمر الأول: أن للنفس كثرة إدراكية، بمعنى أن النفس لا تستطيع اختراع صورة ليس لها أصل من الواقع، ولكن بعد اتصال النفس بالواقع الخارجي اتصالا وجوديا وانفعال الذهن بذلك فإن النفس لها القدرة على التنوع في اختراع الصور إما بنحو التركيب أو بنحو التحليل والتجزئة أو بنحو التجريد من الخصوصيات والتعميم لجميع المشابهات أو بنحو الحكم عليها أو بنحو الانتزاع منها، وكل هذه فعاليات إدراكية تقوم بها النفس بطبيعتها في ما عندها من اختزان الصور.

الأمر الثاني: أن من فعاليات النفس الانتزاع والاعتبار، وفرق بين الانتزاع والاعتبار، فالانتزاع عبارة عما جبلت عليه النفس من درك أمورٍ لا خارجية لها، فالانتزاع وإن كان نشاطا ذهنيا إلا أن النفس جبلت على أن ترى كونها منفعلة معها مدركة له، وهذا ما يعبر عنه بالمعقولات الأولية والمعقولات الثانوية، فإن النفس إذا أدركت نارا محرقة لجسم من الأجسام، فما أدركته - وهو صورة ارتسمت فيها - تبدأ تجاهه بعمليتين انتزاعيتين، إحداهما المعقول الأولي وهو تجريد النار من خصوصياتها لانتزاع عنوان عام، وهو كلي النار وكلي الإحراق وكلي الوجود، وهذه العناوين الكلية المنتزعة ببركة التجريد من الخصوصيات يعبر عنها بالمعقولات الأولية. وفي طولها تنتزع النفس المعقولات الثانوية، بمعنى أن النفس إذا أدركت الوجود بالمعقول الأولي أدركت نقيضه وهو العدم ورأت أنهما لا يجتمعان، وأدركت الوحدة والكثرة والضرورة والامتناع والإمكان، فكل هذه المعاني ترى النفس أنها لها وعاء وظرفا وراء الذهن - يعبر عنه بنفس الأمر - وأن دورها تجاهها دور الإدراك والانفعال، وهذه هي المعقولات الثانوية، حيث إن انفعال النفس بها في طول انفعال النفس بالمعقولات الأولية.

وأما الاعتبار فهو فعل وليس انفعالا، أي أن علقة النفس بالاعتبار علقة الصنع والفعل لا علقة الانفعال بظرف ووعاء ترى النفس أن له واقعا وراء إدراكها ونظرها.

وينقسم الاعتبار إلى اعتبار عام واعتبار خاص، فالاعتبار العام هو الحكم الذي لا يخلو منه عاقل، مثلا: إذا أدرك الذهن الإنسان وأدرك الضحك حكم بأن الإنسان ضاحك بالقوة، وهذا الحكم (الإنسان ضاحك) - لا المحكوم به - لا واقع له وراء فعل النفس حتى برؤية النفس، فالحكم فعل من أفعال النفس وإن كان له حيثية الحكاية عن الخارج، لكنه في واقعه لا واقعية له إلا قيامه بالنفس.

وأما الاعتبار الخاص[1] فهو الاعتبار الذي يتعلق بظرف العمل لا بالنسبة لجميع البشر بل لخصوص من له مساس بذلك الظرف.

الأمر الثالث: قسم أهل المعقول الاعتبار الخاص المتعلق بمقام العمل إلى الاعتبار ما قبل الاجتماع والاعتبار ما بعد الاجتماع، وذلك بلحاظ أن الاعتبار الخاص هو الاعتبار العملي، أي: الاعتبار الذي يؤدي للعمل، بحيث يعد تمهيدا ومقدمة للعمل، وهو إما قبل الاجتماع أو بعده، فأما الاعتبار قبل الاجتماع فمن أمثلته حكم الفعل وقيمة العلم، حيث لا يمكن لأي إنسان أن يقدم على عمل حتى يحكم إما بضرورة الفعل أو أنه أولى أو أنه أحد الخيارات، ولولا ذلك لم يقدم على عمل ولو كان اعتباطيا، وهذا مما يحصل لكل أحد ولو لم يكن مجتمعا مع غيره، وكذلك قيمة العلم، حيث لا يخلو عاقل من أن يرى أن من اللازم المشي وراء العلم دون الظن والشك،.

وأما الاعتبارات اللاحقة للاجتماع - بمعنى ما لا يعتبره الإنسان إلا بعد وجود مجتمع - فمن أمثلته الاختصاص الذي ينقسم إلى اختصاص الملكية أو اختصاص الحق،، وكذلك اعتبار الآمرية والمأمورية والانبعاث والانزجار، فهذه اعتبارات يعتبرها الإنسان بعد وجود المجتمع،ـ ومنها ضرورة حفظ النظام.

الأمر الرابع: أن الاعتبار بعد الاجتماع إما اعتبار ثابت لا يتغير بتغير المجتمعات كاعتبار ضرورة حفظ النظام وانقسام الاختصاص وإما اعتبار قابل للتغير كالاعتبارات المتعلقة بالعادات والتقاليد والآداب.

وبعد بيان هذه المقدمة من الفرق بين الانتزاع والاعتبار والفرق بين أنواع الاعتبارات نقول:

إن الصحيح أن وجود الحكم بوجود الموضوع - نحو من حاز ملك، حيث يرى وجود الملكية بوجود الحيازة الخارجية - من الاعتباريات لا من الانتزاعيات، وذلك لأحد وجهين:

الوجه الأول: أن هناك فرقا بين قضيتين، القضية الأولى: أن الذهن إذا تلقى الجعل - وهو أن من حاز ملك - يقوم بأمور انتزاعية من قبيل المعقولات الثانوية، فيرى أن من صدر منه (من حاز ملك) جاعل، والملكية مجعول، والحيازة مجعول له، كسائر الأمور الانتزاعية، وأما الحكم بوجود الملكية بوجود الحيازة، أو وجود وجوب الحج بوجوب الاستطاعة فهو فعل وقرار عملي، لا يصل له الذهن لولا أنسه بالاجتماع كما أنه ليس من الانتزاعيات ما يكون مقدمة للعمل، فإن الانتزاعيات - سواء أكانت من المعقولات الأولية أو الثانوية - مما جبلت النفس على إدراكه بغض النظر عن ظرف العمل، وأما ما يقوم به الذهن الفردي أو الجمعي من أجل الاستعداد للعمل فهو من الاعتباريات لا من الانتزاعيات.

الوجه الثاني: كما أشار اليه المحقق الإصفهاني قدس سره[2] أن الانتزاع مما لا يمكن أن يختلف باختلاف الأنظار، فهو ثابت في جميع الأنظار، وأما الاعتباريات فيمكن اختلافها باختلاف الأنظار. ومن الواضح أن وجود الحكم بوجود الموضوع مما يختلف باختلاف الأنظار، فقد ذكرنا في ما سبق أن في المقام نظرين: نظرا للمحقق العراقي قدس سره في خصوص الأحكام التكليفية و هو أنه لا وجود للحكم بوجود الموضوع أصلا وأن المولى إذا قال: (يجب الحج على المستطيع) فقد أبرز إرادة فعلية منجزة، وفي طول إبرازه لهذه الإرادة يحكم العقل بأنه إذا وجدت الاستطاعة تحققت فاعلية الإرادة فعلى المكلف أن يتحرك، ولا يوجد مجعول وراء وجود الموضوع، بينما نظر المحقق النائيني قده فهو أنه بوجود الموضوع يوجد شيء وهو المجعول الفعلي كوجوب الحج بوجود الاستطاعة، واختلاف الأنظار شاهد على أن الأمر أمر اعتباري وليس أمرا انتزاعيا، أي أن المولى في مقام الجعل: (من حاز ملك) أو (من استطاع يجب عليه الحج) حيث يدرك لكونه في عالم العقلاء أن المرتكز العقلائي يقيس القضايا الاعتبارية على القضايا الحقيقية، فكما أن قضية (النار حارة) تنحل لوجودات حرارية بعد أفراد النار، فكذلك قضية (من حاز ملك) تنحل لملكيات بعدد أفراد الحيازة، وحيث يلتفت المولى لذلك فإنه يقوم بالتسبيب لوجود ذلك المجعول العقلائي عند وجود الموضوع بربطه به، ولذلك يكون مجعولا شرعيا أيضا، لكون الجعل تسبيبا لوجوده عند وجود الموضوع.

وأما دعوى أنه لو كان الوجوب الفعلي بفعلية الموضوع أمرا وهميا عرفيا لم ينله دليل الاستصحاب بخلاف ما إذا قلنا أنه أمر ذو واقعية فهي مدفوعة بعد وضوح أنه لا يقصد بالأمر الوهمي أنه خيال، بل هو اصطلاح حكمي يراد به ما ليس له واقع خارجي، كما في سائر موارد الاعتبار العقلائي، وبناء على ذلك يقال: إن دليل الاستصحاب مطلق يشمل كل مورد تحقق فيه موضوعه من اليقين السابق والشك اللاحق، وبما أن دليل الاستصحاب مطلق فلا مخرج عن إطلاق دليله إلا اللغوية، أي لا ترفع اليد عن إطلاقه إلا حيث يكون جريانه لغوا، والمورد الذي يكون جريانه فيه لغوا هو مورد عدم الأثر، فمتى ترتب أثر على الاستصحاب - سواء أكان أثرا عقليا أم شرعيا - شمله دليل الاستصحاب سواء أكان موضوعا لحكم شرعي أو كان بنفسه أثرا شرعيا أو كان موضوعا لحكم عقلي، فإنه مندرج تحت إطلاق دليل الاستصحاب. ولذلك يجري الاستصحاب في مقام الشك في وجود حكم من الأحكام وهو استصحاب عدم تشريع الحكم مع أنه ليس حكما شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي، وإنما أثره عقلي وهو حكم العقل بعدم التبعة، وكذلك لو وقع الشك في أداء العمل فإنه يستصحب عدم الأداء مع أن المترتب عليه أثر عقلي محض، وهو حكم العقل بأن الاشتغال يقتضي الفراغ، كذلك في المقام يجري استصحاب المجعول وإن كان أمرا عقلائيا لأن جريانه يترتب عليه آثار شرعية كاستصحاب الملكية الذي يترتب عليه حرمة التصرف ونفوذ المعاملات، أو عقلية كاستصحاب الوجوب ليترتب عليه حكم العقل بلزوم إعداد المقدمات.

فتلخص من ذلك: أن الصحيح في تصوير كلام المحقق النائيني من وجود مجعول فعلي بفعلية الموضوع أنه أمر اعتباري - كما تشير إليه عبارات الشيخ الحلي قدس سره في تقرير كلمات المحقق النائيني قدس سره -، وكما أفاده السيد الأستاذ مد ظله والسيد الشهيد الصدر قدس سره[3]


[1] في أصول الفلسفة مجلد1 ص568.
[2] في رسالة الحق والحكم ج1ص25.
[3] باب الاستصحاب - بحوث في علم الأصول ج6 ص290.
logo