46/03/19
مبحث الاوامر
الموضوع: مبحث الاوامر
والحاصل أن السر في إمكان الشرط المتأخر للأحكام عدة عناصر:
العنصر الأول: انفكاك المجعول عن الجعل، كما في الوصية حيث إن الميت إذا أوصى بأن داره لزوجته بعد وفاته فلا ريب لدى المرتكز العقلائي بأن الملكية تنفك عن الوصية بمعنى أن الوصية جعلٌ والملكية مجعولٌ لا يتحقق إلا بعد وفاة الموصي.
العنصر الثاني: أن المجعول قد يكون مجعولا كبرويا وقد يكون مجعولا بالعرض، فعندما يقول المولى: (يجب الحج على المستطيع) يترتب على الجعل بشكل مباشر مجعول كبروي حيث يقال بأن من مجعولات الشارع وأحكامه وجوب الحج على المستطيع، ولكن وراء المجعول الكبروي مجعول بالعرض، وهو ما يتحقق عند تحقق الشرط، فإنه إذا تحقق الشرط خارجا كان ذلك المجعول - وهو الوجوب الكبروي الكلي المعبر عنه بالقضية الشرطية - فعليا عند فعلية الاستطاعة، فهذا الوجوب الفعلي بفعلية الاستطاعة هو المجعول بالعرض، إذ لم يقم المولى بجعلين ولا أصدر مجعولين بل أصدر مجعولا واحدا، غاية ما في الباب أن ذلك المجعول الواحد يوجد لا بالحقيقة بل بالعرض عند وجود الاستطاعة.
العنصر الثالث: أن المنوط بالشرط هو هذا المجعول بالعرض لا المجعول الكبروي، لأن المجعول الكبروي الذي هو القضية التشريعية (يجب الحج على المستطيع) قضية تنجيزية ليست معلقة على شيء، وإنما المعلق على الشرط هو المجعول بالعرض.
العنصر الرابع: أن هذا المجعول بالعرض الذي أنيط وجوده بوجود الشرط وجود اعتباري عرفي وليس وجودا حقيقيا، فالجعل وجوده وجود تكويني حقيقي، ولكن المجعول بالعرض مجرد اعتبارٍ عرفي، أي: أن العرف إذا لاحظ تحقق الاستطاعة رأى أن ذلك الوجوب الذي جعله المولى أصبح الآن فعليا وأصبح المكلف مخاطبا به فيجب عليه إعداد مقدمات الامتثال ونحو ذلك، فهذا الوجود للمجعول بالعرض وجودٌ اعتباريّ، ولأجل أنه وجود اعتباري لم يكن هناك مانع من ربطه بشرط مقارن أو متقدم أو متأخر، لأن عالم الوجود الاعتباري عالمٌ خالٍ من التأثير والتأثر، وبما أنه عالمٌ خالٍ من التأثير والتأثر فربطه بالشرط المتأخر لا يلزم منه تأثير المتأخر في المتقدم، ولا تأثير المعدوم في الموجود، أو فقل: بما أن ترتب الجزاء على الشرط ترتب اعتباري لا تكويني فلا مانع من تحققه في وعاء الاعتبار قبل الشرط، حيث إن الترتب في عالم الفعلية على طبق ما قام المولى بجعله وتقنينه، والمفروض أن الجعل الصادر من المولى هو اعتبار الحكم موجودا قبل وجود شرطه ، فلا بد أن يكون المتحقق في عالم الفعلية على طبق ما صدر في عالم الجعل، وإلا لم يتطابق ما حصل مع ما قام المولى بجعله.
وبما أن باكورة هذا الطرح ومفتاحه هو المحقق النائيني قدس سره، فإنه وإن أنكر إمكان الشرط المتأخر لكنه هو الذي طرح فكرة انفكاك المجعول عن الجعل وأن وراء المجعول الكلي مجعولا آخر وهو المجعول الذي يكون فعليا بفعلية الشرط.
ويترتب على هذه الفكرة عدة آثار مهمة مضافا لإمكان الشرط المتأخر :
منها: دخل العلم بالجعل في فعلية المجعول، حيث إن هناك إشكالا مذكورا في علم الأصول وهو أن العلم بالحكم لا يمكن أن يكون دخيلا في الحكم، كأن يكون وجوب الجهر مشروطا بالعلم به، بحيث لو لم يعلم المكلف بوجوب الجهر فلا وجوب في حقه أصلا، وذلك لاستلزامه للدور، لأن فعلية الحكم فرع العلم به، والعلم به فرع فعلية الحكم ، فيلزم الدور وتوقف الشيء على نفسه.
وقد أجاب جمع عن الإشكال بناء على مطلب المحقق النائيني قدس سره منهم سيدنا الخوئي قده[1] وهو أن هناك جعلا ومجعولا، وأن العلم بالجعل هو الدخيل في فعلية المجعول، لا أن العلم بالمجعول دخيل في فعلية المجعول حتى يلزم الإشكال، فمثلا : إذا صدر من المولى إيجاب الجهر في صلاة الفجر، فإن عملية الجعل قد صدرت من المولى، فإن علم المكلف بصدور هذه العملية الجعلية من المولى كان وجوب الجهر في صلاة الفجر فعليا في حقه، وبناء عليه كان الدخيل في فعلية المجعول العلم بعملية الجعل، فيرتفع إشكال توقف الشيء على نفسه ومحذور الدور لاختلاف المتوقف عن الموقوف عليه بواسطة التفكيك بين الجعل والمجعول.
ومنها: جريان الاستصحاب، بمعنى أن المكلف إذا استطاع للحج استطاعة مادية وجب عليه الحج، فإذا فقد الاستطاعة البدنية بعد ذلك فيشك في ارتفاع وجوب الحج أو بقائه مع الاستنابة، فهنا يجري استصحاب وجوب الحج في حقه بلا ريب عند أحد، مع أنه مورد الإشكال، وهو أنه كيف يجري الاستصحاب في حق المكلف ولا يوجد مجعول؟ فإن استصحاب الوجوب فرع وجود وجوب أصبح فعليا بفعلية الاستطاعة، فإذا لم يكن هناك وجوب فعلي بفعلية الاستطاعة فكيف يجري استصحابه؟
ومن هنا كان مطلب المحقق النائيني قدس سره من وجود مجعول فعلي بفعلية الموضوع هو المصحح لجريان الاستصحاب، وهو القول بأن هناك جعلا ومجعولا وأن المجعول قد ينفك عن الجعل ولا يكون فعليا إلا إذا كان الموضوع فعليا، فإنه بذلك تم تصوير استصحاب المجعول الفعلي بفعلية موضوعه.
وغير ذلك من الآثار.
وبما أن كلام المحقق النائيني قدس سره مطلق، بمعنى أنه وإن صرح بأن المجعول ينفك عن الجعل ولكنه لم يصرح بأن المجعول بالعرض وجود عرفي ارتكازي، فلذلك بقي كلامه في هذه النقطة محتملا لوجوه.
ومن تلك الوجوه ما ذكره بعض الأعلام، وهو أن المجعول بنظر المحقق النائيني قدس سره أمر انتزاعي واقعي وليس مجعولا اعتباريا.
وبيانه: أن هناك أمورا انتزاعية واقعية كفوقية السقف وتحتية الأرض، بمعنى أن العقل إذا قايس السقف إلى الأرض ينتزع قهرا فوقية السقف وتحتية الأرض، فهذه الأمور الانتزاعية لا تخضع للاعتبار، بل هي أمور واقعية بواقعية منشأ انتزاعها، ولا دخل لها بعالم الاعتبار، فكذلك المجعول بنظر المحقق النائيني قدس سره ، فإنه أمر انتزاعي وليس أمرا اعتباريا.
وبيان ذلك أن العقل - بغض النظر عن العرف والعقلاء - إذا لاحظ صدور قضية (يجب الحج على المستطيع) من المولى فإنه ينتزع قهراً وجود حكمٍ شرعي، وهو وجوب الحج على المستطيع اعتبر العقلاء ذلك أم لم يعتبروا، فإذا حصلت الاستطاعة في الخارج فالعقل وحده يقول: بما أن المولى قال: (يجب الحج على المستطيع) أي: أناط وجوب الحج بالاستطاعة فهذا يعني أمرين: أمراً سلبيا وهو أن لا وجوب قبل الاستطاعة، وأمرا إيجابيا وهو أن الوجوب يكون فعليا عند فعلية الاستطاعة، فهذه القضية وهي فعلية الوجوب عند فعلية الاستطاعة مما يحكم بها العقل قهرا إذا تلقى الجعل الصادر من المولى، فالمسألة لا تخضع لاعتبار العرف ولا لارتكازه، بل العقل هو المنتزع لفعلية الوجوب عند فعلية الاستطاعة، وهذا يعني أن المجعول أمر واقعي بواقعية منشأ انتزاعه، فإن منشأ انتزاعه هو الجعل الصادر من المولى وحصول الاستطاعة في الخارج، وكلاهما أمور واقعية، ومنهما ينتزع أن هناك وجوبا فعليا بفعلية الاستطاعة.
ولو لم يكن المجعول الفعلي بفعلية موضوعه أمرا واقعيا لما شمله دليل الاستصحاب، فإن دليل الاستصحاب لا يشمل الأوهام العرفية، إذ يعتبر في المستصحب أن يكون أثرا شرعيا أو موضوعا لأثر شرعي، والوهم العرفي ليس بأحدهما، وبالتالي فبنظر المحقق النائيني قدس سره بحسب هذا التفسير فإن المجعول المنوط بوجود الشرط أمر واقعي، فلا يعقل إناطته بالشرط المتأخر، إذ كيف يكون للشرط المتأخر تأثير في أمرٍ واقعي متقدم عليه زمانا؟