46/03/18
مبحث الاوامر
الموضوع: مبحث الاوامر
القضية الثانية: هل يوجد مجعول يمكن أن يناط وجوده بوجود الشرط أم لا؟
وهنا عدة أنظار:
النظر الأول: أنه لا فرق بين الجعل والمجعول إلا بالفرق بين الإيجاد والوجود، فكما أن الفرق بين الإيجاد والوجود فرقٌ اعتباري لا حقيقي فكذلك الفرق بين الجعل والمجعول فرق اعتباري، ومعنى ذلك أن المولى إذا صدرت منه القضية التشريعية كما لو قال المولى: (يجب الحج على المستطيع) فهذه القضية التشريعية إن لوحظت بالنسبة إلى مصدرها - وهو المولى - يعبر عنها بالجعل، وإن لوحظت بالنسبة إلى قابلها - وهو الحج - يعبر عنها بالمجعول، وإلا فليس هناك في الحقيقة شيء يناط وجوده بوجود الشرط يعبر عنه بالمجعول.
النظر الثاني: أن المجعول قضيةٌ تتحقق وتوجد بالجعل، وربما نسب هذا المبنى للمحقق العراقي قدس سره كما في المنتقى[1] ولكن ظاهر ما في[2] أن المحقق العراقي ينكر وجود المجعول في الأحكام التكليفية فقط، لأنه يرى أن الحكم التكليفي هو الإرادة المبرزة، ولذلك ليس في الحكم التكليفي من الأساس جعل ولا مجعول، نعم يظهر من السيد الشهيد قدس سره ما هو قريبٌ من ذلك في[3] حيث أنكر وجود مجعول حقيقي عند تحقق الموضوع وراء الجعل.
وبيان هذا المطلب هو أنه إذا صدر الجعل من قبل المولى - كما إذا قال المولى: (يجب الحج على المكلف إذا استطاع) - فإن العقل ينتزع من هذه القضية الصادرة من المولى عنوان وجوب الحج على المستطيع، فإذا تحقق الموضوع في الخارج - كما إذا تحققت الاستطاعة خارجا - فلا يوجد وراء ما صدر من المولى وتحققِ الاستطاعة شيء ثالث يسمى بالمجعول، بل ليس إلا الجعل الذي صدر من المولى وتحقق الموضوع وهو الاستطاعة، غاية ما في الباب أنه إذا تحققت الاستطاعة ترتبت الآثار، لا أن هناك مجعولا يوجد بعد الجعل و تحقق الاستطاعة يعبر عنه بالمجعول.
النظر الثالث: ما يلتقط من كلمات المحقق الأصفهاني قدس سره[4] وتقريبه: أن حقيقة الحكم المجعول هو الاعتبار المتعنون بعنوانٍ حسنٍ عقلائي، وبيانه أن الاعتبار نوعان: اعتبار شخصي واعتبار قانوني عقلائي، فالاعتبار الشخصي كما إذا قام الإنسان باعتبار الدنيا في بيضة أو اعتبار الغول أو أن للسمك أنيابا كأنياب الأسد وما أشبه ذلك، فهذا الاعتبار الشخصي ليس حكما ولا قانونا بالنظر العقلائي بل هو مجرد فرض وتقدير، وأما الاعتبار القانوني فهو الاعتبار المتعنون بعنوان حسن عقلائي، وهو المسمى بالحكم المجعول الذي تترتب عليه الآثار، مثلا إذا صدر من المولى الذي له مقام المولوية أمرٌ بعمل ذي ملاك فإنه يتعنون عند العقلاء بعنوان حسن وهو الدعوة إلى الخير، وإذا صدر منه نهي تعنون بعنوان حسن وهو الزجر عن الشر، وإذا صدر منه حكم وضعي كما إذا
قال: (من حاز ملك) تعنون بعنوان حسن وهو نظم الأمور ، فهذا الجعل المتعنون بعنوان حسن هو الحكم وإلا فمجرد الاعتبار الصرف ولو كان اعتبارا لفعل على ذمة المكلف ليس حكما، فالمجعول هو الاعتبار العقلائي المتعنون بعنوانٍ حسنٍ عند العقلاء.
وبناء على ذلك فليس وراء تحقق الموضوع مايعبر عنه بالمجعول.
ويلاحظ على ذلك أن هناك فرقا بين المصحح والمقوم، فالحكم ليس متقوما في حقيقته بأن يتعنون بعنوان حسن، وإن كان لا يصح عند.العقلاء إلا إذا تعنون، فالعنونة مصحح وليس مقوما، إذ الحكم - سواء أكان أمرا أو نهيا أو حكما وضعيا - هو ما صدر بداعي ترتيب أثرٍ عملي، بغض النظر عن الشروط الأخرى، نعم العقلاء لا يبالون بأي جعل، وإنما يرتبون الأثر على ما كان صادرا من مولى ومتعلقا بأمر مقدور، وذا أثر في المصالح والمفاسد، فهذه شروط مصححة للجعل وليست مقومة للحكم.
وعلى أي حال فنظره قدس سره كالنظرين السابقين في أنه لا يرى تحققا ووجودا للحكم المجعول وراء تحقق الموضوع.
النظر الرابع: ما هو الصحيح، وهو ما ذهب له المحقق النائيني قدس سره من أن هناك وجودا للمجعول بوجود الموضوع، وقد مر شرح ذلك سابقا، وحاصله أنه إذا قال المولى: (إذا لاقت النجاسة الماء وتغير بها فهو متنجس) فهذه القضية التشريعية إذا صدرت من المولى قام الارتكاز العقلائي على أن هناك قانونا في عالم الاعتبار ولا يزول هذا القانون إلا بالنسخ، ثم إذا تحقق الموضوع خارجا بأن لاقى الماء المعين نجاسة وتغير بها قال العقلاء: هذا الماء قد تنجس بالدم، فوصف الماء بالنجاسة مجعولٌ اعتباري عقلائي، وإنما اعتبره العقلاء تبعا للقضية الجعلية، لأن المولى في مقام الجعل جعل شرطا وجزاءً فقال: إن لاقى الماء النجاسة وتغير بها تنجس، فلأجل هذه القضية الشرطية المجعولة يقرر العقلاء: أنه متى تحقق الشرط تحقق معه جزاء، وإن لم يكن لهذا الجزاء وجود حقيقي خارجي، ولكنه اعتبار عرفي، فهذا هو المجعول الذي أنيط وجوده بوجود الشرط، ولذلك يجري استصحابه، فإذا افترض أن الماء لاقى النجاسة وتغير بها ثم زال تغيره بنفسه وشك بعد زوال تغيره من قبل نفسه أنه هل لا زال متنجسا أم لا؟ فيمكن هنا استصحاب المجعول، ولا مصحح للاستصحاب إلا وجود المجعول عرفا، فيقال: كان هذا الماء نجسا فيستصحب، ومن أنكر المجعول إنما أنكر الوجود الحقيقي الخارجي للمجعول وهو صحيح لا الوجود الإعتباري العرفي ، كما ظاهر التقرير الآخر للسيد الصدر قده[5] .
القضية الثالثة: ما هي حقيقة الارتباط بين الشرط وبين الحكم؟
لا ريب في أن الشرط في الأمور التكوينية ما كان مصححا لفاعلية الفاعل أو متمما لقابلية القابل، مثلا: يشترط في احتراق الجسم بالنار اقتراب الجسم من النار، فالمقتضي للاحتراق هو النار - وهو ما منه الوجود - ولكن الشرط في فعلية الاحتراق هو اقتراب الجسم من النار مع يبوسته، فهذا الاقتراب إما أن يكون مصححا لفاعلية الفاعل - بمعنى أن فاعلية النار في الإحراق تحتاج إلى عامل مساعد وهو القرب - وإما أن يكون متمما لقابلية القابل، بمعنى أن قابلية الجسم للاحتراق تحتاج إلى عامل مساعد، والعامل المساعد على قابلية احتراق الجسم قربه من النار.
ولكنه ليس كذلك في التشريعيات، وبيان ذلك أن المولى إذا اشترط في وجوب الحج الاستطاعة أو في نجاسة الماء التغير بملاقاة النجس، فهذا الشرط ليس مصححا لفاعلية الفاعل لأن المولى في مقام جعله وتقنينه لا يحتاج لوجود الشرط، كما أنه ليس متمما لقابلية القابل، فوجود التغير مثلا خارجا لا يعقل أن يكون متمما لقابلية النجاسة للجعل، - بغض النظر عن دخل ذلك في الملاك - والسر في ذلك هو اختلاف الأفق، فأفق وجود الشرط وهو التغير هو الوجود الخارجي، وأفق الجعل هو عالم الاعتبار، فبما أنهما من عالمين مختلفين لا يعقل أن يكون أحدهما مؤثرا في الآخر، خصوصا وأن من يقوم به الجعل غير من يقوم به الشرط، فمن يقوم به الجعل هو المولى ومن يقوم به الشرط هو الماء أو المكلف، فمع اختلاف الوجودين والأفقين لا يحتمل أن يكون الشرط في التشريعيات مصححا لفاعلية الفاعل أو متمما لقابلية القابل، فلا محالة ليس الربط بين الشرط والحكم إلا ربطا اعتباريا محضا .