46/03/14
مبحث الاوامر
الموضوع: مبحث الاوامر
والحاصل أن الصحيح إمكان الشرط المتأخر، وذلك بأحد بيانين: بيان إجمالي وبيان تفصيلي:
أما البيان الإجمالي فهو أن الشرط دخيل في الحكم الموجود بالوجود الاعتباري العرفي، والوجود الاعتباري العرفي خارجٌ موضوعاً عن عالم التأثير والتأثر، فلأجل ذلك لا مانع عقلا من إناطته بشرطٍ متقدمٍ أو مقارنٍ أو متأخر بلحاظ أن علاقته بالشرط ليست علاقة تأثر بمؤثر كي يكون ذلك موجبا لامتناعه.
وأما البيان التفصيلي فبما أن البحث في إمكان الشرط المتأخر للحكم لذا لا بد من البحث عن ثلاث قضايا: ما هو الشرط للحكم؟ وما هو الحكم المجعول المشترط؟ وماهي حقيقة العلاقة بين الحكم والشرط؟
القضية الأولى: ما هو الشرط المؤثر في الحكم؟
هل الشرط المؤثر في الحكم هو الشرط بوجوده الذهني أم الشرط بوجوده الخارجي؟ مثلا: الاستطاعة شرط في وجوب الحج، فهل المؤثر في الحكم هو الاستطاعة بالوجود الذهني أم الاستطاعة بالوجود الخارجي؟
ذكر صاحب الكفاية قدس سره أن الشرط الدخيل في الحكم ما كان بوجوده الذهني لا بوجوده الخارجي، والسر في ذلك يبتني على مقدمتين:
المقدمة الأولى: أن الحكم عبارة عن عملية جعلية اختيارية يقوم بها المقنن والجاعل، وهذه العملية الاختيارية ناشئة عن الإرادة بمبادئ الإرادة من تصور وتصديق، فبما أن الجعل عملية اختيارية ناشئة عن الإرادة والإرادة وجود نفساني وليس وجودا خارجيا فالحكم الذي هو الجعل الناشئ عن الإرادة أيضا وجود نفساني قائم بنفس المولى الجاعل والمقنن، وبما أنه قائم بنفس المولى الجاعل والمقنن فلا يمكن أن يتأثر بأي أمر خارج عن إطار النفس، لامتناع أن يكون المؤثر خارجيا والمتأثر نفسيا أوالعكس ، حيث يعتبر في علاقة التأثير المسانخة بين المؤثر والمتأثر، وهذا يقتضي أن تكون الإرادة ومبادئها وشؤونها وأطرافها - ومنها الجعل - من الأمور النفسانية من دون علقة لها بأمر خارجي.
مثلا: إذا أراد المولى أن يجعل وجوب الحج بسائر قيوده فيقول: يجب الحج على المستطيع إذا بقي حيا عاقلا غير مصدود ولا محصور إلى اليوم التاسع من ذي الحجة، فهذه القضية الشرطية أمر نفساني بمبادئه وقيوده، ومنها كون المستطيع بالغا عاقلا غير مصدود ولا محصور إلى اليوم التاسع من ذي الحجة، مما يعني أن الشرط المؤثر في عملية الجعل - وهي العملية النفسانية - ليست الاستطاعة بوجودها الخارجي المتقدم ولا البقاء لليوم التاسع بوجوده الخارجي المتأخر ، لامتناع تأثير الخارجي في النفسي، بل الاستطاعة بوجودها الذهني، وكذلك الشرط الآخر، وهو كون المكلف حيا غير مصدود إلى اليوم التاسع، فإن المؤثر منه هو الوجود العلمي لذلك لا الوجود الخارجي، وإن كان الوجود العلمي للشرط بالحمل الأولي ملحوظا على نحو الطريقية للمعنون الخارجي الا أن الدخيل في نشؤ الإرادة والجعل هو الوجود العلمي .
المقدمة الثانية: بما أن الشرط المؤثر في الحكم الذي هو أمر نفسي لا بد أن يكون أيضا أمرا نفسيا أي: الشرط بوجوده الذهني لا بوجوده الخارجي فلا محالة لا يوجد صغرى للشرط المتأخر، فلا معنى للبحث عن إمكان الشرط المتأخر لانتفاء القضية بانتفاء موضوعها، إذ لا يوجد أصلا في الشريعة شرط متأخر بل سائر الشروط شروط مقارنة، لأن عملية الجعل بشروطها أمر نفساني، فكل الشروط شروط مقارنة، ولا وجه للبحث حينئذ في إمكان الشرط المتأخر.
هذا ما ذكره صاحب الكفاية قدس سره.
وهنا تعليقتان:
التعليقة الأولى: لا ريب في أن جعل شيءٍ شرطا ليس جزافا، فحين يقال: هذا شرط دون هذا يرد السؤال لماذا جعلت الاستطاعة شرطا؟ والجواب أنه ليس المبرر لذلك إلا دخله في الغرض، فلولا دخله في الغرض لما صح جعله شرطا، سواء أكان دخيلا في غرض المتعلق كالحج في (يجب الحج) أو دخيلا في غرض الحكم نفسه، بمعنى أن الحكم لا يكون فاعلا ولا مؤثرا إلا بهذه القيود كالقدرة والعقل وعدم الضرر ونحو ذلك، فبما أن الشرط لا يتم إلا إذا كان له دخل في الغرض، ومن الواضح أن الدخيل المؤثر في الغرض سواء أكان غرض المتعلق أم غرض الحكم هو الوجود الخارجي لا الوجود الذهني فإن تصور الاستطاعة أو تصور القدرة أو تصور البقاء يوم التاسع مجرد صورة لا دخل لها في غرض المتعلق ولا غرض الحكم، فتعين أن يكون الشرط هو الوجود الخارجي لا الذهني، لعدم دخالة الوجود الذهني في الغرض، نعم لا بد من لحاظه ذهنا باعتبار أنه طريق لتصور الشرط لا باعتبار أنه هو الشرط.
التعليقة الثانية: لا ريب أن هناك فرقا بين الجعل والمجعول، وما هو الأمر النفسي هو عملية الجعل لا المجعول، والشاهد على ذلك انفكاك المجعول عن الجعل، إذ قد يتأخر المجعول عن الجعل - كما في الوصية إذا قال: (جعلت الدار ملكا لزوجتي بعد الوفاة) - وقد يتقدم المجعول على الجعل، كما إذا تملك مجموعة من الناس أراض بين النجف وكربلاء ثم علمت الدولة بذلك وأصدرت قرارا بملكية كل شخص حاز أرضا من حين الحيازة لا من حين صدور القرار، فهذا من تقدم المجعول على الجعل، فبما أن المجعول قد ينفك عن الجعل متقدما عليه أو متأخرا عنه فهذا يعني أن ما هو الأمر النفسي الذي لا يقبل أن يتأثر بأمر خارجي هو الجعل وليس المجعول الذي قد يناط بأمر خارجي متأخر أو متقدم.
وبما أن المولى في مقام الجعل قد ربط الشرط بالمجعول لا بالجعل، أي أنه قال: (يجب الحج على المكلف إن استطاع وبقي عاقلا إلى اليوم التاسع) فالمرتبط بالشرط هو الوجوب ، لا جعله النفسي كي يقال: إن الشرط يعود إلى الجعل فيكون شرطا مقارنا دائما، وإنما ربط الوجوب بالشرط، وهو مما قد ينفك عن الجعل فيتقدم أو يتأخر.
فلذلك لا بد من البحث عن حقيقة الحكم الذي يربط بالشرط، إذ بعد أن علم أن الشرط لا يعود إلى الجعل بل للمجعول فلا بد من البحث عن حد المجعول الذي قام المولى بربطه بالشرط وأناط وجوده وفعليته بفعلية الشرط.