« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الأصول

46/03/10

بسم الله الرحمن الرحيم

 مبحث الأوامر

الموضوع: مبحث الأوامر

 

الصورة الخامسة: أن يشك المكلف في قدرته على إنجاز الامتثال من دون التعلم.

وهنا فرضان:

 

الفرض الأول: أن يحرز المكلف أن الملاك تام بغض النظر عن القدرة، وإنما شكه في أنه قادر على إنجاز الامتثال في ظرفه دون أن يتعلم أم لا؟ سواء أكان شكه في القدرة على إحراز الامتثال أم في القدرة على أصل الامتثال، فما هو الدليل أو الأصل الجاري في حقه؟

قد يقال بأن الأصل الجاري في حقه هو أصالة القدرة، لأنه لا يدري هل هو قادر على إنجاز الامتثال وإن لم يتعلم الأحكام أم لا؟ والأصل قدرته، كما لو فرض أن المكلف مأمور بدفن الميت ولكنه شك في أنه قادر على حفر القبر ودفن الميت أم لا، فهنا بنى جمع من الفقهاء على أصالة القدرة، بمعنى وجود بناء عقلائي على أن المكلف بعمل ليس له الاعتذار عن امتثال التكليف - نحو الأمر بدفن الميت - بذريعة أنه لا يحرز القدرة، بل الأصل فيه القدرة فعليه أن يقتحم حتى يحرز العجز، فكذلك في المقام إذا شك في قدرته على الامتثال في ظرفه إن لم يتعلم، فإن الأصل قدرته على ذلك.

ولكن الصحيح عدم جريان أصالة القدرة في المقام:

أولا: لأن مورد أصالة القدرة الشك في أصل القدرة كالشك في قدرته على الدفن، وأما الشك في قدرة خاصة – كما في المقام – فلايحرز كونه موردا لأصالة القدرة، فمثلا إذا شك وهو جاهل باللغة العربية أو بعلم النحو في أنه قادر على قراءة سورة القدر بدون خطأ نحوي أم لا؟ فإنه لا يحرز بناء العقلاء على جريان أصالة القدرة لعلاج شكه في القدرة الخاصة، والمقام من هذا القبيل حيث إن شك المكلف في قدرة خاصة، وهي القدرة على إحراز الامتثال أو تحقيقه في ظرفه مستغنيا عن تعلم الأحكام، وبما أنها قدرة خاصة لم يحرز تكفل أصالة القدرة بإحرازها.

ثانيا: إن أصالة القدرة أصل تحميلي، بمعنى أنه إنما يتمسك بها بغرض التحميل وتنجيز التكليف، فهي من الأصول المنجزة لا المعذرة كما سبق شرحه بالمثال، بينما الغرض في المقام من جريانها إثبات كون المكلف قادرا على امتثال التكليف في ظرفه فلا يجب عليه التعلم ، فالتمسك بأصالة القدرة ينتج عدم وجوب التعلم، وهذا خلاف مورد بناء العقلاء على أصالة القدرة، فإنهم بنوا عليها في مقام تنجيزالتكاليف ولم يحرز بناؤهم عليها في مقام التعذير والفرار عن التكليف، أوفقل: إن التكليف في المقام متنجز على كل حال فإن المكلف إن كان قادرا في علم الله فالتكليف متنجز في حقه بالمباشرة، وإن لم يكن قادرا فهو متنجز في حقه بواسطة وجوب التعلم ، ولا أثر لأصالة القدرة .

الفرض الثاني: أن يحرز أن القدرة دخيلة في الملاك، ولكن لا يعلم أنه قادر على الإتيان بالمأمور به في ظرفه أم لا بد أن يتعلم حتى يكتسب القدرة؟

فهنا يأتي ما ذكر في الصورة الرابعة، حيث تقدم أن فيها قولين:

القول الأول: أن المكلف إذا شك في دخالة القدرة في الملاك أو أحرز دخالتها فيه فلا يكون مشمولا لدليل وجوب التعلم، بل تجري في حقه أصالة البراءة عن وجوب التعلم، وذلك لأن ظاهر قوله: (أفلا تعلمت حتى تعمل) أن هناك تكليفا فعليا مفروغا عنه في ظرفه بغض النظر عن التعلم يراد بالتعلم تحقيق امتثاله، وبناء على ذلك لا يشمل المقام لأنه لا يحرز في المقام وجود تكليف فعلي في ظرفه باعتبار أن التكليف في ظرفه فرع القدرة، ولا يجب على المكلف عقلا إحراز القدرة، لأنه من قبيل إحراز شرط التكليف، وهو غير واجب على المكلف.

القول الثاني: ما ذهب إليه سيدنا الخوئي قدس سره من أن ظاهر (أفلا تعلمت حتى تعمل) الإرشاد إلى قضية شرطية، وهي أنه متى ما كان ترك امتثال الأمر الشرعي في ظرفه مستندا إلى ترك التعلم فيجب التعلم، بغض النظر عن وجود تكليف فعلي مع غض النظر عن التعلم، فمقتضى إطلاق الدليل وجوب التعلم في هذه الصورة ، وهو بنفسه مانع من دليل البراءة .

الصورة السادسة: أن المكلف يحرز أن التكليف المحتمل فعلي في ظرفه لتمامية ملاكه بغض النظر عن التعلم لكنه لا يحرز الابتلاء به وإنما يحتمله، ولو ابتلى به فإنه لا يمكنه إنجاز الامتثال من دون التعلم، كما لو احتمل الابتلاء بالكسوف في يوم مقبل مع الجهل بصلاة الآيات، فهل يجب تعلم صلاة الآيات بمجرد احتمال الابتلاء؟ وبعبارة أخرى: هل يجري في المقام استصحاب عدم الابتلاء، وبه يتخلص من وجوب التعلم ؟

ذهب المشهور إلى عدم جريان الاستصحاب، فيجب التعلم بمجرد احتمال الابتلاء، لعدة وجوه نذكر منها وجهين :

الوجه الأول: ما نسب للمحقق النائيني قدس سره من أن ظاهر دليل وجوب التعلم (أفلا عملت بما علمت) و(أفلا تعلمت حتى تعمل) هو أن وجوب التعلم وجوب طريقي بغرض حفظ الواقع، فكأنه قال: تعلم لتحفظ الواقع، وبالتالي فلا خروج عن دليل وجوب التعلم إلا مع إحراز عدم الابتلاء إما بعلم وجداني أو بأمارة، وأما إذا لم يحرز عدم الابتلاء فدليل وجوب التعلم مثبت لوجوبه، والاستصحاب مما لا يحرز به الواقع حتى وإن قيل بأنه يقوم مقام العلم ، فإنه إنما يقوم مقام العلم في الأثر العملي لا في إحراز الواقع وحفظه ، فلا معنى لجريانه في المقام.

الوجه الثاني: أن دليل الاستصحاب منصرف عن المقام كسائر أدلة الأصول الترخيصية في مورد الشبهة الحكمية، لوجود ارتكاز عقلائي هو بمثابة المقيد المتصل لدليل الاستصحاب، وهو عدم الترخيص في مورد الشبهة الحكمية قبل الفحص عن الحكم وتعلمه مع إمكانه ، لأن المقنن الشرعي أو العقلائي ليس ديدنه إيصال التكليف لكل أحد، وإنما يضع التكليف في مظان الوصول، فإذا شك المكلف فعليه الفحص بالتعلم، وهذا المرتكز العقلائي حاف بأدلة الأصول فيكون بمثابة المقيد المتصل الموجب لانصراف جميع الأصول المؤمنة حكميةً كانت أم موضوعية مفضية لنفي الحكم الكلي، واستصحاب عدم الإبتلاء وإن كان نافيا للموضوع لكنه جار بغرض نفي الحكم الكلي المحتمل فالدليل منصرف عنه.

والجاري هو دليل وجوب التعلم.

logo