< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الأصول

45/04/01

بسم الله الرحمن الرحيم

 

موضوع: الأوامر

 

الرأي الثالث:
وهو الصحيح - أن معنى صيغة (افعل) النسبة البعثية أو النسبة الطلبية التامة في حد ذاتها.

وبيان ذلك أن النسبة تارة تكون نسبة تامة وأخرى تكون نسبة ناقصة، والفارق بين النسبة التامة والنسبة الناقصة هو أن المضمون المستفاد من العبارة إما أن يكون مضمونا أفراديا لا يحسن السكوت عليه، وإما أن يكون مضمونا تركيبيا يحسن السكوت عليه، فالأول نسبة ناقصة والثاني نسبة تامة. فتارة يقول المتكلم: (جالس في الدار أو جلوس في الدار)، وهذا المضمون يتلقاه الذهن مضمونا أفراديا يحتاج إلى خبر أو قيد ليكون الجزء الثاني خبرا، كأن يقول: (جالس من المؤمنين في الدار) فهو نظير: (الجالس في الدار) حيث يحتاج أن يضم إليه: (الجالس في الدار زيد) أو (جلوس في الدار مطلوب)، وتارة يقول المتكلم: (في الدار جالس أو في الدار جلوس) حيث إن الذهن يتلقى المضمون مضمونا تركيبيا لا يحتاج إلى خبر وإضافة عنصر، أي: في الدار يوجد جلوس أو يوجد جالس، وبالتالي فالفارق بين النسبة التامة والناقصة ما يتلقاه الذهن من الكلام، فإن تلقى مضمون الكلام كمفهوم أفرادي يحتاج تتميمه إلى خبر فالنسبة ناقصة، وإن تلقاه مفهوما تركيبيا لا يحتاج إلى ضميمة خبرٍ فهو نسبة تامة. ولأجل ذلك نقول: إن المستفاد من صيغة (افعل) في حد ذاتها النسبة البعثية التامة في حد ذاتها، فإن المستفاد من قوله: (أقم الصلاة) نسبةُ الطلب والبعث إلى المبعوث - وهو المخاطب - والمبعوث إليه وهو الصلاة، وهي نسبة تامة يحسن السكوت عليها ولا تحتاج إلى إضافة، ولذلك متى تلقى العبد صيغة (افعل) من مولاه لم ينتظر ضميمة عنصر آخر كي يكون في مقام الاستجابة والامتثال، وإنما قلنا إنها في حد ذاتها نسبة تامة للإشارة الى إشكال في المقام وهو أن المبعوث إليه قد يكون من بعض الأفعال الناقصة نحو - كان فإنها من الأفعال الناقصة التي تحتاج لمبتدأ وخبر فيقال: (كان زيد مصليا) بينما (صلى) من الأفعال التامة التي تكتفي بالفاعل نحو (صلى زيد) ولذلك لو كان المبعوث إليه الفعل التام نحو (صل) فالنسبة تامة، بينما لو كان المبعوث إليه الفعل الناقص نحو (كن) لم يكن نسبة تامة لأنه لا يحسن السكوت عليها، والجواب عن ذلك أن الفعل (كان) مثلا مقسم للنحوين إذ تارة يقصد به تفهيم أصل الكون بمعنى الوجود نحو (يا أملي كن) على نسق قوله تعالى (كن فيكون) فهو كون تام، وتارة يقصد به تفهيم الكون الخاص المتقوم بالطرفين نحو (كن صالحا) فهو كون ناقص، إلا أن المنظور في معنى صيغة (افعل) أن مفادها من حيث كونه طلبا متقوما بطرفين: مبعوث ومبعوث إليه هو نسبة تامة الأركان، واحتياج المعنى في بعض الموارد الى عنصر نحو (خذ الكتاب) أو (أزل النجاسة) لخصوصية في المادة لا ينافي تمامية النسبة في حد ذاتها.

فالصحيح أن مفاد صيغة (افعل) النسبة البعثية التامة، فإن البعث - كما يقول شيخنا الأستاذ قده - قد يكون بعثا تكوينيا - كما لو دفع بإنسان إلى الأمام - وقد يكون بعثا إنشائيا تشريعيا، وذلك عن طريق صيغة (افعل).

المطلب الثاني:
قد ورد في اللغة العربية استعمال صيغة (افعل) في عدة موارد، منها استعمالها في التهديد كما في قوله تعالى: (اعملوا ما شئتم) و منها استعمالها في الإنذار كما في قوله تعالى: (قل تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) أو في التسوية كما في قوله تعالى: (اصبروا أو لا تصبروا) أو في التمني كما في قوله:

ألا يا أيها الليل الطويل ألا انجل ... بصبح وما الإصباح منك بأفضل

فهل يعني ذلك أن المستعمل فيه متعدد أم أنه واحد والدواعي متعددة ومختلفة باختلاف الموارد أم غير ذلك ؟ وهنا آراء ثلاثة:

الرأي الأول:
ما ذكره صاحب الكفاية قدس سره من أن المستعمل فيه واحد، وهو النسبة الطلبية، ففي جميع موارد صيغة (افعل) المعنى واحد، وهو النسبة الطلبية، ولكن الدواعي مختلفة، إذ تارة يكون الداعي لذكر صيغة (افعل) البعث والمحركية، فتكون مصداقا للأمر، وتارة يكون الداعي لذكرها التهديد، فتكون مصداقا للتهديد، وتارة يكون الداعي هو التمني فيكون ذكر الصيغة مصداقا للتمني، ولذلك تختلف الدواعي من دون أن يختلف المستعمل فيه، وتعيين أي داعٍ من الدواعي إنما يستفاد من القرينة الخاصة كقرينة السياق ونحوها. وهذا كما يجري في صيغة (افعل) يجري في الاستفهام، فإن معنى صيغة الاستفهام واحد، وهو إنشاء طلب الفهم، ولكن الداعي للاستفهام يختلف، فقد يكون الجهل كما في المخلوق، وقد يكون للتقرير كما في (ألست بربكم) وقد يكون الإستنكار كما في قوله: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) فهذا كله من اختلاف الدواعي مع وحدة المستعمل فيه، ولذلك نقد صاحبُ الكفاية كلام الشيخ الأعظم قدس سرهما، فقد ذكر الشيخ الأعظم في آية النفر (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) أن (لعل) لم تستعمل في الترجي، إذ لا معنى للترجي في حقه تبارك وتعالى، بل هي هنا بمعنى كون مدخولها محبوبا، أي أن الحذر محبوب لا أنه مرجوّ، فإن الرجاء فرع الجهل، والجهل مستحيل في حقه تعالى. وأورد عليه صاحب الكفاية أن (لعل) كصيغة الاستفهام وصيغة (افعل)، مستعملة في سائر مواردها في إنشاء النسبة، أي: الترجي الإنشائي لا الحقيقي، ولكن الداعي لإنشائه يختلف باختلاف الموارد، فالداعي لإنشائه من المخلوق الجهل، والداعي لإنشائه منه تعالى محبوبية العمل، فهذا من اختلاف الداعي لا من اختلاف المستعمل فيه، إذ الترجي الإنشائي ليس مستحيلا في حقه تعالى فهو مجرد إنشاء، وإنما الذي يستحيل في حقه الترجي الحقيقي.

وما ذكره الآخوند متين لا غبار عليه.

الرأي الثاني: ما ذكره سيدنا الخوئي قدس سره الشريف [كما في المحاضرات][1] من أن صيغة (افعل) وضعت لإبراز ما يعتبره الإنسان في نفسه، وما يعتبره الإنسان في نفسه مختلف باختلاف الموارد، فتارة يكون اعتبار الفعل على ذمة المكلف كما في الأمر الحقيقي، وتارة يكون المعتبر في النفس التهديد أو الإنذار أو التعجيز، ويقوم بإبراز ما اعتبره في نفسه، وتارة يكون المعتبر الطلب التذللي من المولى، كما في قول العبد: (رب اغفر لي) فهذا إبراز للاعتبار، ولكن المعتبر ليس الفعل في ذمة الله، بل المعتبر هو الطلب التذللي من المولى عز وجل.

وعلى هذا فالفارق بين الموارد ليس اختلاف الداعي كما ذكره صاحب الكفاية، وإنما هو اختلاف في قيد المستعمل فيه، أي: أن المستعمل فيه مختلف لاختلاف القيد، فإن المعتبر هنا إيقاع الفعل وهناك الطلب التذللي وهكذا.

ولكن للتأمل في ما ذكره مجال، وذلك بناءً على مقدمتين:

الأولى:
أن مراجعة الاستعمالات العرفية تشهد بصحة ما ذكره صاحب الكفاية وهو أن المستعمل فيه في تمام الموارد واحد وليس متعددا.

الثانية: أن بعض موارد صيغة (افعل) ليس فيها أي اعتبار، كمورد التمني والترجي، فإن الإنسان يتمنى شيئا في نفسه تمنيا حقيقيا، لا أنه يعتبر التمني ، فقد يتمنى مثلا انقضاء الليل لطوله حقيقة ويبرزه بقوله: (ألا يا أيها الليل الطويل ألا انجل)، فالصيغة مستعملة حينئذ في إبراز التمني الحقيقي لا الاعتباري، وكذلك لا اعتبار في مقام الدعاء لا للفعل في ذمة المكلف ، ولا للطلب التذللي، بل هو في مقام بيان الحاجة الواقعية والسؤال الحقيقي من الله بالمغفرة.

فبناء على المقدمة الأولى وأن المستعمل فيه عرفا واحد، وبناء على المقدمة الثانية من أن بعض الموارد ليس فيها عملية اعتبار تكون النتيجة أن المتسعمل فيه صيغة (افعل) ليس متعددا وأنه خال من عنصر الاعتبار، إذ لا وجود له في كثير من موارد استعمالها بلا تجوز ولا عناية.

الرأي الثالث:
ما ذكره سيد المنتقى طاب ثراه [2] وبذرته موجودة في كلام المحقق الأيرواني قده في الأصول في علم الأصول ج1ص 51.

وبيان كلامه في جهتين:

الأولى : هدم ما ذكر في الكفاية.

الثانية : بناء رأي جديد.

الأولى:
- وهي هدم ما ذكر في الكفاية - ومحصله أن صاحب الكفاية قدس سره ذهب إلى أن المستعمل فيه واحد والدواعي مختلفة، ولكن سيد المنتقى أورد عليه بعدم معقوليته، والسر في ذلك أن الداعي هو العلة الغائية، والعلة الغائية ما كانت سابقة على الفعل تصورا ومترتبة عليه خارجا، فعندما يقول: (إن الداعي عندي للذهاب إلى مصلى دار العلم حضور الدرس) فإن حضور الدرس سابقٌ تصورا على الذهاب مترتب خارجا عليه، فهذا هو الداعي، لذلك يأتي السؤال في المقام: هل أن الامتحان والتهديد والتعجيز هي سابقةٌ تصورا على استعمال صيغة (افعل) في معناها مترتبة خارجا عليه كي تكون من قبيل الداعي؟ الصحيح عدمه. وذلك لأن هذه المعاني على أن أنواع فمنها: ما يكون تحققه أجنبيا بالمرة عن الأمر الحقيقي أو الصوري نحو التمني والترجي والتهديد، فإذا ادعي أن التمني مثلا داعٍ لاستعمال صيغة الأمر في معناها فمعناه أنه سابق تصورا على الاستعمال ومترتب خارجا عليه، مع أن التمني أمر تكويني مستند إلى أسبابه الحقيقية لا إلى صيغة (افعل)، فالإنسان لأجل مرضه مثلا يتمنى تمنيا حقيقيا في نفسه أن ينقضي الليل ثم يبرز تمنيه، فوجود التمني حقيقة في النفس سابق على صيغة (افعل) بأي معنى كانت لا أنه مترتب عليها كي يكون من قبيل الداعي والعلة الغائية.

ومنها: مايترتب على صورة الأمر ولو لم يكن استعمال أصلا، كالامتحان في مقام الإطاعة، فإن الامتحان على قسمين: امتحان في مقام الإطاعة وامتحان في مقام الفعل المأمور به .

أما القسم الأول - وهو الامتحان في مقام الإطاعة - فهو بمعنى أنه لا غرض للمولى في الفعل والحركة، وإنما غرضه اختبار الإرادة فقط، ولذا يكتفي بمجرد الحركة وإن لم يفعل المأمور شيئا، كما إذا قال الأب لولده: (اخرج من الدار) وهو يريد اختبار إرادته، فبمجرد أن يتحرك للخروج من الدار يكتفي بذلك ويثبت له أن لديه إرادة الإطاعة والاستجابة، فإذا كان كذلك فهذا الغرض يترتب على التلفظ بصيغة (افعل) لا على استعمال صيغة (افعل) في المعنى ، إذ يكتفي المولى في الامتحان بذكرها وإن لم يقصد بها أي معنى، فيمتحن بها ليرى أن المأمور يتحرك بسماعها أو لا، فهذا الغرض لم يترتب على الدلالة التفهيمية وهي استعمال الصيغة في معناها ، بل ترتب على الدلالة الأنسية وهي انسباق معنى من لفظ الصيغة ولو لم يخطر ببال المتكلم بل كان النطق لقلقة لسان، فكيف يقال: إن الامتحان داعٍ للاستعمال مع أنه يترتب على مجرد النطق بالصيغة؟ فهو في الواقع داعٍ للنطق لا للاستعمال.

ومنها: القسم الثاني - وهو الامتحان في مقام الفعل المأموربه - كما إذا كان الأستاذ يعلم بأن تلميذه مطيع فلا يحتاج لامتحانه في هذا المقام، ولكنه لا يدري أنه يتقن العمل أم لا؟ فالامتحان ليس في مقام الإطاعة واختبار الإرادة، لأن إرادته محرزة، وإنما الامتحان في مقام الأداء وأنه متقن للعمل أم لا؟ فيقول له: (اكتب الدرس اليوم) ليعرف أنه متقن لتقرير درسه أم لا، فليس ذكر صيغة ( افعل) اختبارا لإرادته بل لإتقان أدائه، ولذلك فالفعل هنا مطلوب والأمر حقيقي مولوي تعلق بالفعل بغرض معرفة الإتقان وحسن الأداء، فهنا سيكون الامتحان داعيا لا إلى استعمال الصيغة في معناها، بل داعيا لصدور الصيغة بداعي البعث والمحركية، فهو داعٍ للأمر الحقيقي بالعمل كي يصل المولى إلى هدفه من معرفة أن عبده متقن، لا أنه داع لاستعمال الصيغة في معناها.

فكيف يقال بأن التمني والتهديد ونحوه دواع لاستعمال الصيغة في معناها؟ مع أن بعضها مما يحصل بأسبابه التكوينية كالتمني لا بالصيغة وبعضها مما يترتب على النطق بالصيغة من دون حاجة لاستعمالها في معناها، وبعضها مما يترتب على صدور أمر حقيقي من المولى لا مجرد استخدام الصيغة في معناها.


[1] المحاضرات، ج1، ص473.
[2] منتقى الأصول، ج1، ص397.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo